المساء اليوم- متابعات: يُعد الرحالة الأشهر ابن بطوطة محمد بن عبد الله الطنجي من أهم من زاروا الصين وكتبوا عنها معلومات على قدر كبير من الأهمية؛ إذ كان قد زارها في القرن الرابع عشر الميلادي، وتناول أوضاعها السياسية والاقتصادية، حين قدم سفيرًا من لدن ملك الهند، يقول: "وإقليم الصين متسع كثير الخيرات والفواكه والزرع والذهب والفضة، لا يُضاهيه في ذلك إقليم من أقاليم الأرض، ويخترقه النهر المعروف بآب حياة معنى ذلك ماء الحياة، ويُسمّى أيضًا نهر السِّبر (السرو)، ومنبعه من جبل بقرب مدينة خان بالق (بكين)… ويمر في وسط الصين مسيرة ستة أشهر إلى أن ينتهي إلى صين الصين (كانتون)، تكتنفه القُرى والبساتين والأسواق كنيل مصر، إلا أن هذا أكثر عمارة، وعليه النواعير الكثيرة". ووفقًا للمؤرخ البريطاني "هاملتون جب" فنهر الحياة الذي ذكره ابن بطوطة كان في جزئه الأول القناة الكبيرة التي كانت تجري بين بكين ونهر اليانج تسي، وقد كان تُجّار الساحل يعرفون بصورة يشوبها الإبهام الشبكة المائية التي كانت تصل بين هانج تشاو واليانج تسي بالنهر الغربي وكانتون في جنوب الصين. ومن أهم ما لفت نظر ابن بطوطة في الصين وجعله يبدأ بها حديثه؛ صناعة الخزف أو الفخار الصيني وإعجابه الشديد به، وهو الذي نسميه اليوم في منطقتنا العربية "الصيني"، فيقول إنه لا يُصنع إلا في مدينة الزيتون وهي "تسوان تشاو فو" إلى الشمال قليلا من فوتشو الحالية، ويُصنع أيضًا في مدينة صين كلان التي تُعرف اليوم بـ"الصين الجنوبية"، ويقرر ابن بطوطة أن هذا الفخار الصيني "يُحملُ إلى الهند وسائر الإقليم حتى يصل إلى بلادنا بالمغرب، وهو أبدعُ أنواع الفخّار". ومن عجائب الصين التي لفتت انتباه ابن بطوطة ضخامة بعض طيورها مثل الدجاج والديوك، حتى يقول: "لقد اشترينا دجاجة وأردنا طبخها فلم يسع لحمها في بُرمة واحدة، فجعلناه في برمتين". وقد انتبه ابن بطوطة إلى أن الأسرة التي كانت تحكم الصين وقتها كانت أحد أفرع بيت جانكيز خان بعد استيلائه على الصين قبل قرن من مجيء ابن بطوطة إليها، وهم كما يصف: "كفار يعبدون الأصنام، ويحرقون موتاهم كما تفعل الهنود، وملك الصين تتريّ من ذُرية جنكيز خان، وفي كل مدينة من مدن الصين مدينة للمسلمين ينفردون بسكناهم، ولهم فيها المساجد لإقامة الجمعات وسواها، وهم مُنظّمون محترمون". وقد رأينا أن الوجود الإسلامي في الصين قديم يعود إلى زمن الأمويين والعباسيين؛ ولا سيما من خلال التجار المسلمين الذين كانوا يفدون إليها ببضائعهم من البصرة وعُمان وإيران وغيرها، واستمرت هذه الوفود إلى الأزمنة اللاحقة، فقد ذكر ياقوت الحموي في موسوعته "معجم البلدان" أن بعض العلماء وتجار المسلمين الأندلسيين والمغاربة كانوا يصفون أنفسهم بـ"الصيني"؛ لأنهم سافروا إليها، واستقروا بها بعض الزمن للتجارة واللقاء بالجالية المسلمة بها، والتعرف على أحوالها، ومنهم "سعد الخير بن محمد بن سهل بن سعد الأنصاري الأندلسي (ت 541هـ)، كان يكتبُ لنفسه: الصيني؛ لأنّه كان قد سافر من المغرب إلى الصين، وكان فقيهًا صالحا كثير المال". ومثله: " حميد بن محمد بن علي أبو عمرو الشيباني يعرف بحميد الصيني، سمع السريّ بن خزيمة وأقرانه (من علماء الحديث في القرن الثالث الهجري)". ومن أكثر ما لفت نظر ابن بطوطة أن أهل الصين كانوا من أوائل الأمم التي تعاملت بالعُملات الورقية متخلين عن الدينار الذهبي والدرهم الفضي، فهو يقول: "وأهل الصين لا يتبايعون بدينار ولا درهم، وجميع ما يتحصل ببلادهم من ذلك يسبكونه قطعًا، وإنما بيعهم وشراؤهم بقطع كاغدٍ (ورق)، كل قطعة منه بقدر الكفّ مطبوعة بطابع السُّلطان، وتُسمّى الخمس والعشرون قطعة منها بَالِشت وهي بمعنى الدينار عندنا، وإذا تمزّقت تلك الكواغد في يد إنسان حملها إلى دارٍ كدارِ السِّكّة (دار مصلحة العُملة) عندنا، فأخذَ عوضها جُددا، ووضع تلك، ولا يُعطي على ذلك أُجرة ولا سواها". ويعلق المؤرخ حسين مؤنس على هذا الأمر بأن ذيوع العُملة الورقية دليل على الانحدار الاقتصادي، إذ تسرّبَ الذهب والفضة إلى الخارج، وفي أوقات الاضطراب والتدهور يُؤثر الناس الاحتفاظ بما لديهم من ذهب وفضّة، وقد أشار ابن بطوطة صراحة إلى ذلك عندما قال: "وجميعُ ما يتحصل ببلادهم من ذلك يسبكونه قِطعًا كما ذكرناه". ويبدو أن الانحدار الاقتصادي الذي كانت تُعاني منه الصين وقتئذ استمرّ حتى فقدت العُملة الورقية قيمتها تمامًا وأوقف طباعتها سنة 1368م حين انتهى حكم المغول، وقام بعدهم حُكم أسرة مينغ، وهي أسرة صينية استمرت حتى عام 1644م، وفي عهد هذه الأسرة الصينية اضطُهد المسلمون، وتضاءل شأنهم بسبب استبداد أباطرة أسرة مينغ، وتعصبهم المطلق ضد الإسلام. القبضة الأمنية الصينية وأحوال المسلمين بها ومن حُسن حظنا أن ابن بطوطة كان من أواخر الرحالة المسلمين الذين زاروا الصين في ذروة تسامحها مع المسلمين أيام أسرة يوان المغولية، وانتبه إلى الكثير من عاداتهم في الطعام والشراب والملبس؛ فهم "يأكلون لحوم الخنازير والكلاب ويبيعونها في أسواقهم، وهم أهل رفاهية وسعة عيش إلا أنهم لا يحتفلون في مطعم ولا ملبس، وترى التاجر الكبير منهم الذي لا تُحصى أمواله كثرة وعليه جبة قطن خشنة". ومِن أبرز المهارات التي امتاز بها أصل الصين وفاقوا فيها العالم أجمع كما يقول ابن بطوطة أنهم رسّامون محترفون لا يضاهيهم في رسومهم أحد مثلهم، حتى إن أهل الصين رسموا ابن بطوطة وأصحابه من العرب ممن كانوا يلبسون ملابس أهل العراق يوم زاروا الصين وقد اندهش من سرعة رسمهم ودقتهم، يقول: "وأهل الصين أعظم الأمم إحكاما للصناعات، وأشدهم إتقانا فيها، وذلك مشهور من حالهم، قد وصفه الناس في تصانيفهم فأطنبوا فيه، وأما التصوير فلا يُجاريهم أحد في إحكامه من الروم ولا من سواهم. فإن لهم فيه اقتدارًا عظيمًا، ومِن عَجيب ما شاهدتُ لهم مِن ذلك أنّي ما دخلتُ قطُّ مدينة مِن مُدنهم ثم عدتُ إليها إلا ورأيتُ صورتي وصُور أصحابي منقوشة في الحيطان والكواغد، موضوعة في الأسواق". وقد رأى صورته حتى في قصر أحد حكّام المدن التي مرّ بها، وقد أخبره حين التقاه أنه هو الذي أمر الرسامين برسمه أثناء حضوره بين يديه. وقد انتبه ابن بطوطة للبُعد الأمني في رسم الصينيين للغُرباء الطارئين على بلدهم، يقول: "وتلك عادة لهم في تصوير كل مَن يمر بهم، وتنتهي حالهم في ذلك إلى أن الغريب إذا فعلَ ما يُوجب فراره عنهم بعثوا صورته إلى البلاد، وبُحث عنه فحيثما وُجد شَبه تلك الصورة أُخذ". فهذا البُعد الأمني الدقيق والصارم عند الصينيين منذ أكثر من ثمانمئة عام يذكرنا اليوم بصرامة البُعد الأمني عند أحفادهم؛ فقد كانت ولا تزال الصين من أوائل الدول التي تنتشر فيها كاميرات المراقبة في كل زاوية وبناء في طول البلاد وعرضها، وتُعد الصين اليوم رائدة من رواد العالم في "المراقبة الجماعية" لسكانها والغرباء القادمين إليها من خلال تقنيات الذكاء الاصطناعي، والتعرف على الوجوه، ومن ثم عرض سجلات المواطنين "الصالحين" منهم و"غير الصالحين"، وهذا ما انتبه إليه الرحالة الأكبر ابن بطوطة منذ قرون طويلة. وامتدت الإجراءات الأمنية عند الصينيين في تلك الأزمنة إلى تسجيل أسماء القادمين والمغادرين بل وخُول لصاحب البحر أو رئيس "ديوان السفن والموانئ" مسؤولية رجوع المغادرين من الصينيين إلى الخارج، والتفتيش الدقيق للبضائع والتصريح بها، وإن ثبت أن مركبا "جنك" أخفى بضاعة واحدة، صودر المركب بما فيه من حمولة للحكومة الصينية التي يسميها ابن بطوطة "المخزن"، وهو الاسم الذي لا يزال يُطلق حتى يومنا هذا على القصر الملكي في المغرب. كما لفت انتباهه حرص الصينيين على سلامة التجار الأجانب وأموالهم سواء أنزلوا ضيوفًا على تجّار من أصحابهم أم نزلوا في الفنادق، وهو يُثني ثناء عظيما على الأمن في البلاد وحرص الحكومة على سلامة المسافرين في الطرقات، قائلا: "وبلاد الصين آمنُ البلاد وأحسنها حالا للمسافر، فإن الإنسان يسافرُ منفردا مسيرة تسعة أشهر وتكون معه الأموال الطائلة فلا يخاف عليها، وترتيب ذلك أن لهم في كل منزل (كل مسافة معلومة) ببلادهم فندقا عليه حاكم يسكن به في جماعة من الفرسان والرجال، فإذا كان بعد المغرب أو العشاء الآخرة جاء الحاكم إلى الفندق ومعه كاتبه فكتب أسماء جميع من يبيتُ به من المسلمين وختم عليها، وأقفلَ باب الفندق عليهم فإذا كان بعد الصبح، جاء ومعه كاتبه فدعا كل إنسان باسمه، وكتب بها تفسيرًا (محضر أو وثيقة رسمية)، وبعث معهم من يوصّلهم إلى المنزل الثاني له ويأتيه ببراءة من حاكمه أن الجميع قد وصلوا إليه". وحين نزل ابن بطوطة في مدينة كانتون بجنوب الصين وجد بها بلدة كاملة للمسلمين "ولهم بها المسجد الجامع والزاوية والسوق، ولهم قاض وشيخ، ولا بد في كل بلد من بلاد الإسلام من شيخ إسلام تكون أمور المسلمين كلها راجعة إليه، وقاض يقضي بينهم"، وقد استضافه كبار أعيان المسلمين في المدينة استضافة حافلة مدة 14 يومًا كاملة، ويبدو أن المسلمين في كل مدن الصين وقتئذ كانوا من أمم شتّى، لأن مستضيفه كان اسمه أوحد الدين السنجاري، وسنجار بلدة في أقصى شمال العراق، وسنرى غيره من القادمين من المغرب ووسط آسيا في تلك الرحلة.