جنرال الموت في إسبانيا: قانون الذاكرة يعيد بعض الإنصاف لضحايا الحرب الأهلية

المساء اليوم – متابعات:

في أوائل نوفمبر الجاري، وبتكتم في الساعات الأولى من الصباح، تم استخراج رفات أحد أعنف رموز الحرب الأهلية في عهد الجنرال فرانسبسكو فرانكو، وهو الجنرال غونزالو كيبو ديانو، من كنيسة وسط إشبيلية.

فرد واحد فقط، من عائلات 45 ألف جمهوري قُتلوا بناءً على أوامره، كان حاضرا للحدث، ولكنه وقف على مسافة بعيدة.

كانت باكوي ماكيدا قد نامت بالفعل عندما تلقت مكالمة هاتفية طال انتظارها من صديق يخبرها أن عملية استخراج الجثة -التي تم تنفيذها بأوامر حكومية- من قبل عائلة الجنرال كيبو ديانو، يتم المضي فيها قدما.

لكن ماكيدا، مع ذلك، شعرت بواجب للنهوض من الفراش وقيادة السيارة عبر إشبيلية لمتابعة الحدث من موقعه خارج كنيسة “لا ماكارينا”.

وقالت ماكيدا “هكذا تمت تسوية دين عائلتي المتأخر منذ فترة طويلة مع هذا الشخص (الجنرال غونزالو كيبو ديانو)”.

واندلعت الحرب الأهلية الإسبانية (1936-1939) بين الجمهوريين الموالين للجمهورية الإسبانية (ذوي الميول اليسارية والمتحالفين مع الشيوعيين والنقابيين والأناركيين) وبين القوميين (المتحالفين مع الملكيين والمحافظين والكاثوليك والفلانخيين المتأثرين بالفاشية)، وانتهت بفوز الجنرال فرانكو بعد مقتل أكثر من 150-200 ألف بين مدنيين وعسكريين من الطرفين، وبدأت مؤخرا جهود لتحديد المقابر الجماعية لا سيما تلك التي أسفر عنها دخول قوات فرانكو للمدن والقرى التي كانت واقعة تحت حكم الجمهوريين.

قانون “الذاكرة الديمقراطية”

ويبدو استخراج رفات كيبو ديانو وما تلاه من حرق في حفل عائلي خاص هو أول نتيجة مهمة للإصلاحات الشاملة الجديدة لقوانين إسبانيا، التي أطلق عليها اسم “قوانين الذاكرة الديمقراطية”، والتي تهدف إلى إنهاء عقود من الصراع على إرث فرانكو.

وأحد أهداف القوانين الجديدة يتمثل في منع مواقع دفن شخصيات (مثل كيبو ديانو) من أن تصبح نقاط حشد لليمين المتطرف في إسبانيا، الذي يشيد تقليديا بنظام فرانكو في 20 نوفمبر، وهو ذكرى وفاة الدكتاتور السابق عام 1975.

ولكن كما قالت ماكيدا فإن إزالة رفات كيبو ديانو يؤدي أيضا إلى تسوية بعض الأعمال غير المكتملة مع قمع الدكتاتورية لعائلتها.

وقالت ماكيدا “كان علي أن أفعل ذلك”، وصرخت “الشرف والمجد لضحايا فرانكو” على جانب واحد من ساحة الكنيسة أثناء استخراج الجثث.

وأضافت “أولا، لأسباب سياسية، لأنني ممثلة جمعية تذكارية “؛ إحدى المنظمات المتعددة في إسبانيا التي تناضل من أجل الاعتراف بحقوق ضحايا الدكتاتورية، وشعرتُ بأهمية وجود أحدنا هناك. ثانيا، لدي حساب شخصي مع ذلك الرجل وأقاربه يجب التعامل معه”.

وتابعت “لم أكن أعرف متى أو كيف، لكنني علمت أن لحظة ستأتي عندما يتم تسوية هذا الدين. وكان نبش جثته موعد تلك اللحظة”.

معاناة العائلة

عانت عائلة ماكيدا كثيرا بسبب كيبو ديانو ودكتاتورية فرانكو. وقُتل جدها الأكبر وأحد أعمامها على يد قوات كيبو ديانو في الثلاثينيات من القرن الماضي. وفي العقود التي أعقبت الحرب الأهلية الإسبانية، قضى عم كبير آخر معظم حياته في معسكر اعتقال بسبب جرائم سياسية مزعومة، ومات أخيرا في فقر.

وتم الاستيلاء على ممتلكات العائلة بناءً على أوامر مباشرة من كيبو ديانو بعد إعدام جدها بإجراءات قانونية عاجلة.

ولم يتوقف قمع عائلتها عند هذا الحد. على غرار مئات العائلات الإسبانية “الحمراء” (الشيوعية)، عندما أنجبت والدة ماكيدا طفلا في عام 1936، نُقل طفلها حديث الولادة من المستشفى ولم يره أحد مرة أخرى.

ومع ذلك، فقد أُجبر الكثير من أقارب ماكيدا -الذين وُصفوا اجتماعيا بأنهم “أحفاد الحمر” والذين يعانون من القمع الاقتصادي نتيجة لذلك- على الهجرة مئات الأميال من إشبيلية للعثور على عمل.

ومن بين 65 إجراء جديدا، تم حظر المنظمات التي تحاول الدفاع عن نظام فرانكو، بينما يتم حاليا تبرئة ضحايا الدكتاتورية المدانين كمجرمين بسبب معتقداتهم السياسية والدينية أو ميولهم الجنسية من أي جريمة قانونية.

ومن أبرز المستفيدين من هذا الإجراء (رمزيا) الشاعر الإسباني الشهير ميغيل إيرنانديث، الذي قاتل مع الجمهوريين وألقى أشعارا لتحميسهم خلال الحرب، وخُففت عقوبة إعدامه لدعم الجمهورية إلى السجن المؤبد، وتوفي في سجن أليكانتي عام 1942 بسبب أمراض التيفوس والسل.

لكن ربما الأهم من ذلك، أن الدولة ستكون الآن مسؤولة عن البحث عن الجثث واستخراجها وتحديد هويات الضحايا المقدر رسميا بـ 110 آلاف شخص من ضحايا الدكتاتورية الذين بقوا في مقابر جماعية غير معروفة بطول وعرض إسبانيا.

قال خوان لويس كاسترو، عالم الآثار المقيم في إشبيلية والباحث في مقابر الحرب الأهلية التي لا تحمل علامات على مدى الـ20 عاما الماضية، “هذا القانون يمثل تقدما كبيرا للغاية مقارنة بالوقت الذي بدأتُ فيه”.

في ذلك الوقت، كما قال كاسترو، كان الأمر كله يتعلق بالحصول على مكالمة هاتفية من أقارب الضحية والقيام بالعمل بدون أجر. أيضا، كان عليك أن تكون لديك قضية قانونية قوية لبدء الحفر لأنك دائما ما تواجه نفس المشكلة “إذا كنت تنقب في قبر غير مميز من سنوات الدكتاتورية، فإنك تحقق في مسرح جريمة”.

واستدرك “لكن بفضل القوانين الجديدة والدعم المالي الحكومي، يمكن فتح مقابر جماعية أكبر بكثير. إنها خطوة كبيرة إلى الأمام”.

مجهولو الهوية

ومع ذلك، رغم التشريع القانوني الجديد، لا تزال عملية استخراج الجثث تواجه عقبات كبيرة.

وأكبر قضية في البلاد لضحايا الحرب الأهلية الإسبانية المجهولة تتعلق بـ 30 ألف مقاتل مجهول الهوية، معظمهم من الجمهوريين، الذين -بسبب واحدة من أمنيات الموت المروعة للدكتاتور السابق- دفنوا في الضريح نفسه الذي دفن فيه فرانكو (قبل نقله لاحقا).

تمت إزالة رفات فرانكو من الضريح وأعيد دفنها في عام 2019، ولكن بعد مرور 3 سنوات، لا تزال العائلات التي ترغب في إخراج رفات أقاربها المدفونين هناك بناءً على نزوة دكتاتور؛ غير قادرة على القيام بذلك.

لكن “العملية لا تتحرك إلى الأمام لأن الضريح يقع داخل بلدية سان لورينزو ديل إسكوريال”، التي يديرها الحزب الشعبي اليميني، الذي وعد زعيمه ألبرتو نونيز فيغو بإلغاء قانون الذاكرة الديمقراطية في حالة توليه السلطة وقال إدواردو رانز، المحامي الذي يمثل عدة عائلات في القضية “يرفضون حاليا منح التصاريح اللازمة”.

و”على الرغم من ذلك، على عكس عمليات استخراج الجثث الأخرى في إسبانيا، والتي ستتم عبر القنوات الإدارية الحكومية، لدينا حكم قانوني يدعم حقوق العائلات التي تريد نقل رفات أقاربها لدفنها”.

وقد قُدم رانز عمدة سان لورينزو ديل إسكوريال إلى المحكمة بسبب استمرار منع تحريف مسار العدالة. لكن لم يتم تحديد موعد للقضية بعد.

“لا وقت نضيعه”

قال رانز “لا أفهم لماذا نستمر في مواجهة هذه النكسات”. “حقيقة الأمر هي أن ابن أحد الأخوين لابينا (مانويل وراميرو، اللذين ما زالت رفاتهما داخل الضريح) قد مات الآن وأحفادهما الآن بعمر 65 أو70 عاما. ليس لدينا وقت”.

وقالت روزا جيل، التي دفن جدها في ضريح كويلغاموروس، المعروف سابقا باسم وادي الشهداء، “يسعدنا أن نرى هذا القانون الجديد يدخل حيز التنفيذ، لكن بعض الثغرات القانونية تعني أن استخراج الجثث لا يمضي قدما، وهو وضع مرهق ومخيب للآمال”.

ووادي الشهداء هو أكبر نصب تذكاري مرتبط بالجنرال اليميني الذي حكم إسبانيا لمدة 36 عاما بعد تمرده ضد الحكومة الجمهورية اليسارية وهزيمتها في الحرب الأهلية بين عامي 1936 و1939. شيده سجناء جمهوريون، وهو أيضا أكبر مقبرة في ذلك الصراع، حيث تم دفن ما يقدر بنحو 30 ألف جندي من كلا الجانبين في قبور قريبة من دون شواهد.

ويعد هذا النصب التذكاري الأكثر إثارة للجدل في تلك الحقبة، مع صوره الدينية الصريحة وجمالياته الصارمة التي تعكس أيديولوجية النظام القمعية “القومية الكاثوليكية”.

قالت جيل إن همها الرئيسي هو والدها سيلفينو، البالغ من العمر الآن 95 عاما، وهو على كرسي متحرك ويحتاج إلى الأكسجين 24 ساعة في اليوم، لكنه لا يزال مصمما على أنه سيكون قادرا على رؤية إخراج رفاة والده ودفنها في باحة كنيسة مسقط رأس العائلة في أراغون.

وأضافت “اعتقدت أنه بعد استخراج رفات فرانكو، ستسير الأمور بشكل أسرع، لكن ذلك لم يحدث. عندما حدث الوباء، لم نرغب في إثارة الكثير من الجلبة، فقد عرفنا أن أولويات البلد تكمن في مكان آخر. لكن الآن عادت الأمور إلى طبيعتها، ولم تختف مشاكلنا”.

“(القانون الجديد) محبط لأنه لا يغطي وضعنا وهناك أشخاص يريدون إيقافه (استخراج الجثث) بأي ثمن. من الطبيعي أن يرغب والدي في دفن والده حيث يريد، ولماذا لا يستطيع هؤلاء الأشخاص رؤية ذلك أو تقدير الضرر الذي يلحقونه بعد سنوات عديدة “، أضافت جيل.

وقالت “عندما تسمع فيغو يقول إنه “بمجرد وصولي إلى السلطة، سأعلق “قانون الذاكرة الديمقراطية”، كيف يمكنه أن يقول ذلك، وماذا عن (الرئيس الإسباني اليميني السابق ماريانو) راخوي، الذي قال إنه لن يمول القانون ولو بيورو واحد؟”.

“لماذا يعتقدون أننا نفعل هذا من أجل المتعة أو لتصفية حساب مع شخص ما؟ لا أستطيع أن أفهم كيف لا يضعون أنفسهم في مكان شخص آخر”.

بينما يعتقد رانز أن تعليم الجيل الحالي في إسبانيا من الطلاب في سن الجامعة حول سنوات فرانكو كان أمرا بالغ الأهمية لضمان عدم تكرار الماضي، فقد كان مصرّا أيضا على أن إجراء عمليات استخراج الجثث هو طريق رئيسي لحل عدم قدرة إسبانيا المستمرة على القدوم إلى تفاهم مع دكتاتوريتها السابقة.

وقال “هناك جرح مفتوح ينزف منذ 80 عاما ولم يجف بعد. لكن حتى تتمكن العائلات من العثور على أقاربها ودفنهم كما يحلو لهم، سيكون من المستحيل علاج هذه الإصابات بطريقة كريمة”.

وأضاف رانز “بصفتي محاميا، فأنا دائما مؤيد للإصلاح، ولكن هناك حقيقة واحدة لا يمكننا تجاهلها، هي أن فرانكو مات بسلام في سريره. بعبارة أخرى، لم يُطرد من السلطة، ولم يحكم عليه، وبينما تم اتخاذ الخطوة في هذا البلد من الدكتاتورية إلى الديمقراطية، لم يكن هناك قانون للذاكرة التاريخية إلا بعد 30 عاما”.

“هذا يعني أنه ليس لدينا وقت، ولا يمكننا الجلوس والانتظار فقط، وعلينا المضي قدما في تقديم المطالبات والاستفسارات”.

رموز الحرب

وفي الوقت نفسه، جادل كاسترو بأن عدم وجود نص للتحقيق في الجرائم السياسية خلال الدكتاتورية هو أحد المجالات التي أخفقت القوانين الجديدة بشكل ملحوظ في تغطيتها.

بعد ذلك، هناك حالة من عدم اليقين القانوني المستمر فيما يتعلق بالممتلكات التي استولى عليها النظام من خصومه السياسيين ولم يتم إعادتها أبدا.

وقالت ماكيدا إن هناك قضية أخرى تتمثل في إزالة الرموز الفاشية. وأضافت “في مدينتي، إشبيلية، علينا أن نرى إزالة العديد من الرموز الفاشية التي لا تزال معروضة على العامة”، مشيرة إلى لوحة تذكارية بجوار برج غيرالدا مرتبطة بالانتفاضة الفاشية عام 1936 كواحدة منها.

لكن على الصعيد الشخصي، قالت إن الأحداث التي وقعت في أوائل نوفمبر واستخراج رفات كيبو ديانو قد حلت بعض الآلام الشخصية التي طال أمدها. وتابعت “عندما انتهى كل شيء، حضرت صديقة لي تعيش على مقربة منها وعانقتني وأخذنا صورة سيلفي معا”.

“لقد مر وقت طويل منذ أن تمكنت من الابتسام كما فعلت في تلك الصورة، بشعور من الصفاء والانتصار وأن شيئا مرغوبا منذ فترة طويلة قد تحقق أخيرا”.

أضف تعليقك

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)

تعليقات ( 0 )