الفيضانات واليمين والملك.. وسيكولوجيا الحشود..!

عبد الله الدامون

damounus@yahoo.com

عندما كتب غوستاف لوبون كتابه “سيكولوجية الحشود” Psychologie des foules، قبل 150 عاما، فربما لم يكن يتوقع أن علماء الاجتماع، حتى أيام الله هذه، سيظلون يعتمدون على ما ورد في الكتاب من نظريات، ربما لم يكن لوبون مكتشفها، لكنه كان بالتأكيد مروجها وراعيها.

خلاصة الكتاب أن الحشود تفقد وعيها الفردي، الذي يميل نحو التعقل والرصانة، وتنقاد بسهولة للوعي الجماعي المتميز بالرعونة والاندفاع دون احتساب العواقب، ويمكن أن ترتكب حماقات تحت تأثير الهستيريا الجماعية، لكن في الوقت نفسه يمكن أن تقود الحشود إلى ثورات وانتفاضات تحول مجرى التاريخ.

وقبل أيام كنا على موعد مع واحدة من لحظات “عقلية الحشود” في أسوأ حالاتها. حدث ذلك في بلنسية الإسبانية، والتي تعرضت لأسوأ كارثة طبيعية في تاريخها، ولا تزال المنطقة تحصي ضحاياها الذين يعدون بالمئات.

فبعد أيام قليلة فقط زار ملك إسبانيا المناطق المنكوبة بالفيضان، وكان متوقعا أن يتم استقباله، كما جرت العادة، ببعض الترحاب، حتى لو تخلل ذلك بعض العتاب، وهو شيء طبيعي لأناس فقدوا أحبتهم ويعانون الكثير، بما في ذلك ندرة الماء والطعام.

لكن ما جرى خلال الاستقبال لم يكن متوقعا بالمرة، فقد تم رمي موكب الملك وزوجته بالطين، وسمع أعلى مسؤول في البلاد كل عبارات الشتائم والسب، لكنه ظل صامدا بين الحشود، يستمع لهذا ويعانق ذاك، وفي النهاية لم يقل أدنى كلمة سوء في حق الحشود الغاضبة.

ما حدث فاجأ حتى الإسبان أنفسهم. فليس من عادتهم، مهما بلغت سوء الأحوال، أن يتصرفوا بهذه الطريقة، لكن خلف ما جرى لا يوجد فقط غضب شعبي من تبعات الفيضان، بل أيضا تحشيد سياسي كبير قام به زعماء اليمين، التابع للحزب الشعبي، واليمين المتطرف التابع لحزب “فوكس”.

لم يكن الملك فليبي السادس المتسبب في الفيضانات ولا المسؤول عن تأخر الإنذار ولا المسؤول عن فداحة الخسائر، لكن اليمين الذي يحكم المنطقة أجج غضب السكان على الخصوص ضد رئيس الحكومة الاشتراكي، بيدرو سانشيز، وتم تكسير سيارته وتهديد سلامته الشخصية، وعندما حل الملك بعده أفرغ فيه السكان ما تبقى من الغضب “المنظم”.

كل منطقة تعاني من مشكلة ما، يتحرك اليمين المتطرف بسرعة قياسية لتأجيج الغضب، وفي الغالب يفعل ذلك ضد المهاجرين، المغاربة على الخصوص، وبما أن عشرات المغاربة ذهبوا بدورهم ضحايا فيضانات بلنسية، كما أنه ليس لهم أي دور في تهاطل الأمطار، فقد أجج اليمين الغضب ضد المسؤولين الإسبان أنفسهم، وكادت الأمور تخرج عن السيطرة، وتناقلت وكالات الأنباء العالمية لقطات المواطنين وهم يشتمون ملكهم ويرمونه بالطين ويكسرون سيارة رئيس الحكومة.

الإسبان بطبعهم يميلون نحو التعقل والهدوء، رغم أنهم يتكلمون كثيرا وبصخب، لكنهم يتحملون الكثير ويكتمون الغيظ. هم أيضا شعب مكافح عاش الكثير من الفواجع، من بينها المجاعات والحروب الأهلية، ومن الأكيد أن كل ذلك ترك ترسبات كثيرة في أعماق نفوس الأجيال اللاحقة، ولا يزال كبار السن في إسبانيا يتذكرون الكثير من فواجع الماضي بكثير من الأنين.

المشكلة أن كل مثالب التاريخ الإسباني اقترفها اليمين، سواء اليمين الديني أو اليمين السياسي، أو هما معا لأنهما متحالفان بشكل أوتوماتيكي. وحتى لو عدنا مئات السنين إلى الماضي فسنجد أن الكنيسة وأتباعها هم من اقترفوا المذابح ضد الأندلسيين، الذين كانوا أبناء البلاد الأصليين وليسوا عربا كما يردد البعض. كما أن اليمين الديني هو من أقام محاكم التفتيش التي أحرقت البشر أحياء ونصبت المشانق وأضرمت النيران في ملايين الكتب وشردت ملايين البشر نحو أصقاع الأرض.

اليمين الإسباني هو أيضا من أشعل شرارة حرب أهلية طاحنة في ثلاثينيات القرن الماضي التي خلفت جراحات عميقة يصعب التخلص منها حتى الآن.

هذا اليمين هو نفسه الذي لا يزال ينكل بإسبانيا ويعمق جراح التفرقة فيها حتى اليوم. وحتى عندما لا يكون الإسلام والمهاجرون طرفا في التحشيد، فإن العدو الآخر لليمين هو اليسار، لذلك كثيرا ما يتهجم اليمينيون الإسبان، في توقيت واحد، على المهاجرين والإسلام واليسار، مثلما حدث مؤخرا عندما قررت إسبانيا الاعتراف بالدولة الفلسطينية.

ربما، ليس من قبيل الصدفة، أن زعيم الحزب اليميني المتطرف، سانتياغو أباسكال، في أول لقاء عمومي له بعد تأسيس الحزب، انطلق من بلدة صغيرة في بلاد الباسك، وقال: من هنا انطلقت حرب الاسترداد لطرد المسلمين من إسبانيا…!

إنها عقيدة واضحة تجعل إسبانيا، ماضيا وحاضرا ومستقبلا، ضحية نفسها أولا. فمنذ مئات السنين يريد اليمين المتطرف أن تكون إسبانيا له وحده، وهو مستعد لزرع الأحقاد والضغائن في كل مكان وضد الجميع، بما فيه ملك البلاد شخصيا..!

أضف تعليقك

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)

تعليقات ( 0 )