المساء اليوم: مدينة آسفي منذ اليوم الأول من تأسيسها، قبل زمن بعيد، موغل في القدم لا يعلم قدره إلا الله، اختارت أن تتموضع وتستقر وتتوسع عبر ما تعاقب عليها من عصور و دول، على حرف خليج بحري دائري وواسع، يطل على هذا المحيط الصاخب والمترامي الأطراف، والذي وسمته كتب الجغرافية والتاريخ غابرها وحديثها، قبل استكشاف مجاهله وقياس أبعاده، بالعديد من المسميات و النعوث، اشتهر منها: بحر الظلمات والبحر المظلم والبحر الكبير والبحر المحيط. وفي بعض الروايات التاريخية يقترن اسم مدينة آسفي بالبحر، وفي ذلك تأكيد منها، لما بين هذه الحاضرة وظهيرها البحري، من وثيق الصلة في كل العصور.وقد التصق ذكر آسفي كموقع بحري وكمرسى بالإكتشافات والمغامرات البحرية، بما فيها القديمة والغابرة والحديثة، ونذكر منها ثلاث رحلات متباعدة في الزمان، وهي رحلة حانون، التي كانت آسفي واحدة من محطاتها الرئيسية، ثم رحلة المُغَررين وكانت آسفي خاتمتها الحزينة، وأخيرا رحلة رع، وكانت آسفي نقطة انطلاق نجاحها. ولم تكن آسفي الميناء الوحيد الذي نشأ بساحل عبدة الأطلنتي في هذه العصور الضاربة في القدم، بل كان واحدا من عدة موانئ، كشف التاريخ عن ذكر أربعة منها، وهي: مرسى آسفي ومرسى رأس القنط ومرسى أيير ومرسى أكوز، ولا يمكننا في غياب الوثائق، الجزم بتاريخ تأسيس كل منها أو حتى بتحديد عصر ظهورها، وكل ما يمكن قوله أنها لم تعدم عبر تاريخها إشعاعا تجاريا، وإن اختلفت أهميته من ميناء لآخر، ثم أن نشاطها خبا وتلاشى منذ زمن بعيد، ولم يسلم منها سوى مرسى آسفي، الذي تجدد نشاطه وتوسع، بتشييد ميناء جديد في عهد الحماية الفرنسية. ويسمي أهل آسفي هذه المرسى باسم " المريسة " أو "المريسة الصغيرة " و " المرسى القديمة " و " العتبة " ، وتجمع المصادر على أنها كانت الميناء الأول للفتج الإسلامي، إذ يرجح أنها تمتد إلى العصر القرطاجي أو قبله. ولمدينة آسفي الجوهرة الراقدة على شواطئ المحيط الأطلسي، وَلع لا يُضاهى بالشأن البحري قديمه وحديثه، خَبَرت آسفي البحر وأهواله، وفنونه وعلومه، كما كان السفر عبر البحر منذ القديم، مهنة للعديد من أبناء آسفي الذين تعلموا أصوله، وورثوها لأبنائهم، كما أفلحت المدينة في تحدي أمواج البحار، لتتحول بذلك إلى أول ميناء للصيد البحري بالمغرب، حيث اشتهر بها الربابنة والرياس الكبار، حتى أضحت عاصمة العالم في صيد السردين، مما جعلها تُغْري بلذائذ أسماكها جيراننا فجاؤوها محتلين. و لآسفي ألف حكاية مع البحر، حفظ منها الزمان ما تيسر والكثير منها ضاع واندثر، ولمرسى آسفي أدوار في الملاحة البحرية القديمة، حيث تُعتبر من أقدم موانئ المغرب، و من بين ثمانية موانئ فقط فُتحت للتعامل التجاري مع الخارج، حيث تزعمت حركة الإتصال بالعالم الخارجي منذ القديم. ذلك أن سكان آسفي لم يكونوا يعيشون في معزل عن حضارة الشعوب المجاورة وخاصة شعوب أوربا ومنطقة البحر المتوسط، بل كانت لهم صلات وعلاقات متعددة مع هذه الشعوب. و ما زلنا حتى الآن نلاحظ تشابها في عدد كبير من عاداتهم وكلمات لغاتهم، ونجد هذه الظاهرة كذلك في المفردات الخاصة بالبحر.