المساء اليوم - ح.اعديل: لم يهنأ عزيز أخنوش طويلا في رئاسة الحكومة، حيث خرج الآلاف من المغاربة إلى الشوارع يهتفون برحيله، في ظل وضعية اقتصادية مزرية للكثيرين الذين عانوا طويلا من أزمة مستفحلة بفعل تبعات "الكوفيد"، وعندما انفرج الوضع الصحي قليلا، وجد المغاربة أنفسهم أمام وضع اقتصادي صعب جدا بفعل الارتفاع الصاروخي في الأسعار. السياق الدولي والمحلي المبررون لارتفاع الأسعار يردون ذلك إلى أسباب مرتبطة بالاقتصاد العالمي، خصوصا بفعل التشنج الذي أحدثه الوضع الاقتصادي المرتبط بالكوفيد، فيما يرد المنتقدون بأن الحكومة المغربية كان بإمكانها، على غرار بلدان كثيرة، أن تلجم الأسعار بطرق مختلفة، ليس أقلها عدم إدراج أسعار نقل البضائع في الفواتير المتعلقة بالاستيراد وعدم رفع رسوم الاستيراد، وهذا القرار كاف لوحده للتخفيف بشكل كبير من ارتفاع الأسعار، كما أن الوقت لم يفت من أجل تطبيقه. ومنذ انفجار الاحتجاجات على ارتفاع الأسعار في المغرب، نحت الحكومة المغربية نحو ربط هذه الزيادات بارتفاع الأسعار عالميا، وهو ما عبر عنه مؤخرا الناطق الرسمي باسم الحكومة المغربية، مصطفى بايطاس، الذي قال في تصريحه الحكومي الأخير إن "ارتفاع الأسعار يفرضه سياق دولي"، مضيفا أن "السباق الذي يعيشه المغرب صعب لأن الأسعار ملتهبة على الصعيد الدولي والحكومة تقوم بمجهود كبير لتحافظ على المواد الأساسية". الرسوم الجمركية والنقل غير أن هذا التبرير يجد نقيضه في الطريقة التي يتعامل بها المغرب مع الواردات التي تدخل المغرب لمختلف السلع الأساسية وغير الأساسية من مختلف مناطق العالم، والتي أصبحت تخضع لرسوم جمركية "خرافية"، لأنه يتم أيضا إدراج تكاليف الشحن ضمن الرسوم الجمركية. وفي الوقت الذي تفخر إدارة الجمارك بمداخليها القياسية في الآونة الأخيرة، فإن هذا الفخر لا يجد له سندا منطقيا مع الارتفاع المهول للأسعار، بحيث أن الرسوم الجمركية ارتفع ت بشكل كبير جدا لأنها تفرض رسوما جديدة على البضائع المستوردة، بسبب إدراجها لمصاريف الشحن ضمن الفاتورة العامة للبضاعة. وكمثال على ذلك، فإن التاجر الذي يستورد شحنة من الزجاج من الصين، بثمن خمسة آلاف دولار، يفترض أن يؤدي رسوما جمركية بمبلغ مليون سنتيم مثلا، وهذا ما يجعل البضاعة في المتناول، غير أن المشكلة هي أن مصاريف نقل البضاعة من الصين إلى المغرب ارتفعت عشر مرات، وتصل حاليا إلى حدود 20 ألف دولار للحاوية بعدما كانت في حدود ألفي دولار، وهذا هو أصل المشكلة، حيث تفرض إدارة الجمارك التعشير على ثمن البضاعة وثمن النقل، مع أن ثمن النقل يضاعف عدة مرات سعر البضاعة، وهذا واحد من الأسباب الرئيسية الذي جعل أسعار البضائع تلتهب بشكل غير مسبوق بالمغرب. متاهة حقيقية وتقول مصادر مطلعة لـ"المساء اليوم" إن المشكلة الإضافية هي أن تسعيرة التعشير الجمركية ترتفع كلما ارتفع سعر البضاعة المستوردة، وعندما يتم إدراج سعر الشحن ضمن عملية التعشير، فإن الرسوم تتضاعف، وتصبح البضاعة خاضعة لرسوم إضافية كبيرة، لسبب واحد وغير منطقي، وهو إدراج سعر الشحن ضمن سعر البضاعة. قضية التعشير صارت فعلا معضلة حقيقية بفعل إدراجها لسعر الشحن. ويمكن فهم ذلك من خلال مثال آخر، فسعر الزجاج المستورد من الصين كان ما بين 80 و88 درهما للمتر قبل سنتين، أي قبل جائحة كورونا. واليوم لا يزال سعره كما هو في الصين، لكن سعره الحالي في المغرب تضاعف أربع مرات، ووصل إلى 280 درهما للمتر، والسبب الوحيد لهذا الارتفاع هو أن رسوم الجمارك تحتسب سعر الشحن في ثمن البضاعة، ثم تعتمد سعر البضاعة النهائي، فترفع الرسوم لمرتين، المرة الأولى مع احتساب سعر الشحن، والمرة الثانية مع ارتفاع سعر البضاعة، وارتفاع سعر البضاعة سببه احتساب مصاريف الشحن، فيصل سعر البضاعة في الأسواق المغربية إلى سقف قياسي، وهذه متاهة حقيقية. التجربة الإسبانية مع CPT وهناك جانب آخر من الموضوع لا يبرر هذا الارتفاع الصاروخي للأسعار في المغرب، وهو أن العديد من البلدان لم ترفع مصاريف الشحن وظلت تتعامل بالأسعار السابقة. وتقول مصادر اقتصادية لـ"المساء اليوم" إن وزير المالية، فوزي لقجع، الذي ربط ارتفاع الأسعار بالمغرب بالسياق العالمي وارتفاع مصاريف الشحن، يمكنه أن يستفيد من التجربة الإسبانية، حيث تدخل مئات الشاحنات الإسبانية إلى المغرب بنفس الأسعار، بحيث لم تتم إضافة سنتيم واحد لمصاريف الشحن السابقة، وتصل البضاعة إلى مستورديها وفق نظام CPT، وهو نظام يتكلف بموجبه المصدّر بنقل البضاعة إلى المستورد في أي مكان يريده في أية مدينة مغربية، لكن المشكلة تكمن في كون الرسوم الجمركية ارتفعت مع ارتفاع أسعار بعض المواد، فانعكس ذلك على الأسعار النهائية للبضاعة حين تصل إلى المواطن المغربي. مسؤولية وزارة التجارة ووفق مصادر "المساء اليوم" فإن رفع الرسوم الجمركية لم يؤثر فقط على جيوب المواطنين، بل أثر أيضا على الكثير من المستوردين الذين أوقفوا، أو يفكرون في تجميد أنشطتهم الاقتصادية بفعل ارتفاع الأسعار ومصاريف الشحن وارتفاع الرسوم الجمركية. ونقول هذه المصادر إن الارتفاع الكبير للأسعار في المغرب تتحمل فيه وزارة التجارة مسؤوليتها، لأنها لا تقوم بأي مجهود فيما يخص ترشيد المستثمرين في مجال الصناعات الوطنية، مضيفة أنه ينبغي على الوزارة إعطاء اقتراحات لرجال الأعمال حول المجالات الاقتصادية التي ينبغي عليهم الاستثمار فيها والمواد التي يمكن صناعتها محليا، عوض استيراد كميات ضخمة منها من الخارج، ما يرهق الاقتصاد الوطني بشكل حقيقي، وفي النهاية يكون المواطن هو الذي يكتوي بلهيب الأسعار التي تتداخل فيها سوء الاختيارات بشكل كبير. فك الارتباط بين الأسعار والشحن ويبدو مثيرا للدهشة أن الوضع الحالي في المغرب لا يثير الاستغراب فقط، بل يثير الضحك. ففي جانب هناك الفخر الواضح الذي تبديه إدارة الجمارك من كون مداخيلها العام الفائت (2021) حطمت الأرقام القياسية، بحيث ارتفع صافي إيرادات الرسوم الجمركية بنسبة 26.4٪، منتقلا إلى 10.47 مليار درهم، أخذا بعين الاعتبار المبالغ المستردة والإعفاءات، واسترداد الضرائب البالغة 20 مليون درهم، في حين تجاوز مبلغ عائدات ضريبة القيمة المضافة على الواردات 37.74 مليار درهم (+ 24.4٪) . ومقابل الفخر الجمركي، هناك الغضب الجماهيري، حيث يعبر ملايين المغاربة عن استيائهم من الارتفاع المفزع في أسعار المواد الاستهلاكية وباقي السلع الأساسية.وبين ارتفاع مداخيل الجمارك وارتفاع الأسعار فإن المعادلة تبدو واضحة، وهي أن اسباب ارتفاع المداخيل الجمركية تتمثل أساسا في رفع الرسوم وإضافة رسوم الشحن إلى سعر البضائع، ثم رفع الرسوم مجددا على السعر الإجمالي للبضاعة. أما ارتفاع الأسعار فقد لا يكون نتيجة لرفع الأسعار الجمركية فقط، ومرده إلى أشياء أخرى، لكن لو جرب المغرب فك الارتباط بين أسعار البضائع المستوردة وأسعار الشحن وخفض الرسوم قليلا من الأكيد أن المعادلة ستنقلب جذريا.