تونس والمغرب.. الصمت الناطق!

عبد الحميد اجماهيري

يتمسّك المغرب الرسمي بالصمت البليغ في التعليق على مجريات الأحداث في تونس، سواء كانت ذات صلة بالمغرب نفسه، أو لها علاقة بالتطورات الداخلية لتونس ذاتها، كما تتفاعل مع ذلك عواصم عربية كثيرة.. وكان أكبر امتحان لهذا الموقف الحيادي المفكّر فيه الموقف التونسي ذو العلاقة مع قضية المغرب الأولى، أي قضية الصحراء، حيث تمسّك المغرب بعدم إعلان أي موقف تجاه تونس قيس سعيّد عندما امتنعت عن التصويت في مجلس الأمن على قرار يخصّ قضيته الأولى، هو القرار 2602 الذي حظي بتفاعل إيجابي لـ13 دولة، وامتناع اثنتين، روسيا وتونس.

وكان لافتا بالفعل أن الرباط التزمت الصمت المطبق حيال هذا الموقف في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وخصوصا أن تونس كانت، بشكل ما، الصوت العربي الأفريقي في مجلس الأمن، كما أن الموقف كان مخيبا للآمال لقطاع واسع في الرأي العام المغربي الذي أَلف نوعا من الحياد التونسي في قضية ملتهبة في منطقة المغرب الكبير. والمثير حقا أن الموقف التونسي أثار جدلا واسعا داخل تونس أكثر منه داخل المغرب، لاعتباراتٍ عديدة، منها أن تونسيين كثيرين رأوا فيه “جيوستراتيجية انعزالية” دفعت تونس إلى معسكر.. موسكو!

وعلى الرغم من أن الموقف الرسمي في الأمم المتحدة كان قد تزامن مع دعوات إلى مغربٍ كبير من ثلاث دول فقط (تونس والجزائر وليبيا)، لم تقم الرباط بأي موقف هجومي، أو ردة فعل سلبية، بل اكتفت بصمت يقول الكثير. وليست المناسبة هنا لتحليل الأبعاد الجوسياسية أو الإسقاطات الإقليمية لهذا القرار، ولغيره من قرارات ذات طبيعة استراتيجية أو ديبلوماسية، بل هو مدخل للقول إن الرأي العام المغربي يقف موقف “الملاحظ الملتزم”، وإن لم يمنعه هذا الأمر من متابعة المجريات التونسية من زوايا مختلفة.

الامتحان الثاني، إذا شئنا، بالنسبة للمغرب الرسمي، كان الخطوات التي قامت بها الرئاسة التونسية في شأن الخلافات الداخلية واستعصاءات المرحلة التي أوصلت الرئيس قيس سعيّد إلى قصر قرطاج، إذْ لم يمر سوى يومين على إعلان سعيّد، بعد اجتماع طارئ مع قيادات عسكرية وأمنية، “تجميد اختصاصات البرلمان، وإعفاء رئيس الحكومة من مهامه، على أن يتولى هو بنفسه السلطة التنفيذية بمعاونة حكومة يعين رئيسها”.. حتى كان وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة في قصر قرطاج مُستقبَلا من الرئيس التونسي. وعلى الرغم من أن مضمون الزيارة والرسائل التي حملتها لم يكشف عنه إلى حد الساعة، فإن الطابع الغالب على مواقف المغرب الرسمي ظل هو التكتم والصمت إزاء ما يجري.

الامتحان الثالث كان على المستوى الشعبي، حيث يبدو أن تونس فقدت كثيرا من إغراءات نموذجها الثوري، وهي التي احتضنت ثورات الياسمين، ومنها اندلعت مظاهرات التغيير في خريطة العالم العربي. ولن يكون كافيا، ولا عقلانيا، أن نُدرج ما يجري مرحليا في خانة التوصيف السريع من “الثورة المضادّة” وانتصار “المحافظَة النظامية”، فنحن، بالأحرى، أمام بث مباشر لمشهد سابق في تاريخ الثورات الحاسمة.

وفي تقدير دستوريين تونسيين عديدين، استفزّتهم الفلسفة الإجرائية لتهييء استفتاء 25 يوليو/ تموز المقبل، المراد منه حسم التقاطب لفائدة نظام رئاسي واضح، فإن تونس تقدّم، مجازيا، إعادة بث لما بعد الثورة الفرنسية .. يلعب دور نابوليون الثالث فيها الرئيس قيس سعيّد. وفي ذلك، يقول أستاذ القانون العام في كلية الحقوق والعلوم السياسية بتونس كمال بن مسعود إن “الرئيس سعيد عالم بالتاريخ الفرنسي، وربما سيقع تشبيهه لاحقا بنابليون بونابرت أو نابليون الثالث الذي عندما قاربت مدته الرئاسية على النهاية، سعى إلى تعديل الدستور، ليضمن لنفسه إمكانية التجديد، وعندما فشل، قام بانقلاب وسجن النواب وأعلن نفسه إمبراطورا، وظل إلى أن جاءت الجمهورية الثالثة”.

والواضح بالنسبة للرأي العام المغربي، الذي لطالما انتقد “إغراء التَوْنسَة” في عهد سابق، في إشارة إلى استلهام النموذج التونسي في تغليب التقدّم الاقتصادي على الانتقال الديمقراطي، لم يعد يمحض الوضع التونسي الهالة التبشيرية نفسها التي طبعت تعامله مع الثورة الياسمينية. وهناك ما يشبه الملاحظة الباردة لأوضاع بلادٍ لطالما شكلت ثنائيا “ليبراليا” مع المغرب في شمال أفريقيا، طبعت التطورات في الحوض المتوسط، وفي الشرق الأوسط خصوصا، منذ عهد الحبيب بورقيبة.

لا يبدو في الواقع الراهن أن هناك أفضل من الصمت والمتابعة لأوضاع تعرف “غليانات” التاريخ و”إجباريات” الجغرافيا، في منطقة بين الانتقال العنيف والجمود الأعنف منه. ولربما هي أفضل طريقة لترك التاريخ يستقرّ على إيقاع واضح، في دولةٍ تخرج من الثورة المتيقنة من شعاراتها إلى دولة جديدة تبحث عن توازنات نظامها السياسي بين البرلمان والقصر الرئاسي، في محيط غير مستقر بدوره، ما زالت كل معطياته غير واضحة (في ليبيا مثلا)، وحربٍ لم تضع أوزارها ضد الإرهابيين.

أضف تعليقك

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)

تعليقات ( 0 )