رسالة إلى محمد بوضياف

 سعيد خطيبي

ثلاثون سنة مرت منذ أن عُدت إلى البلد، وقبل أن تشبع اشتياقك إليه، حُملت على الأكتاف من قصر إلى قبر. ما يزال أطباء يتذكرون ملمحك المحايد، وأنت تلفظ أنفاسك، في مستشفى ابن رشد في عنابة، لا بد أنك قرأت شيئاً لابن رشد، فعلى عكس رؤساء خلفوك كنت قارئاً شغوفاً، أتذكر ما جاء في يوميات اعتقالك في بطن الصحراء عام 1963، عندما كنت تتسلى بروايات آغاتا كريستي، اضطرك أحمد بن بلة إلى السير إلى المنفى، ثم شاهدناه حزيناً غداة مماتك، لا بد أنك عفوت عنه مثلما ندم هو على زلته.

ستة أشهر قضيتها رئيساً لبلد كان يهرول إلى عشر سنوات عجاف، وأنت تردد سراً وجهراً: «لن تندلع حرب أهلية في الجزائر» لم تكن عالماً بالغيب، فقد أغمضت عينيك قبل أن يسيل الدم أنهاراً، متّ يوم كانت الجزائر تعيش حالة طوارئ ـ أقررتها يوم 9 فبراير/شباط 1992 للحد من سلسلة العنف التي انفجرت حينذاك ـ في قاعة امتلأت بكبار المسؤولين، وأمام كاميرا التلفزيون، في دار ثقافة باغتت فيها رصاصات بدنك النحيل، فباتت تحمل اسمك، أما صورتك فهي في كل مكان، على مدخل مدينتك المسيلة ينتصب تمثالك البرونزي، تظهر فيه وأنت تمد يدك لمن يود مصافحتها، فاليوم الجميع يود مصافحتك، لاسيما بعدما خرج شعب في جنازتك ـ يحسدك عليها آخرون جاؤوا من بعدك ـ وأسدى لك نيلسون مانديلا عزاءً يليق بصداقتكما، فقد كان يومها في داكار، مشاركاً في قمة افريقية، قطع أشغاله كي يحييك بصفتك أخ كفاح، لم ينس أنه تعلم النضال في الجزائر، وذكّر الحاضرين من زعماء القارة بلقاءاته معك.

هل تعلم أن عدد السنوات التي قضاها مانديلا في السجن هي نفسها التي قضيتها أنت في المنفى؟ عقب دفنك أجمع الكل على فضلك، فلماذا إذن حصل ما حصل؟ دون أن تتم رغبتك في تعديل دستور، كان سيُجنبنا الويلات، دون أن تحضر لأول انتخابات رئاسية، وعدت بإقامتها في غضون عامين، دون أن تتم مشروعك في ترسيخ الحريات، وأنت الذي أسست المرصد الوطني لحقوق الإنسان؟ خصومك لا يقرون بفضلك، يتهمونك بفتح أبواب المعتقلات في الجنوب، متناسين أنه كان فعلاً احترازياً، وأنك أنت من أطلق سراح ألفي معتقل، نعم 2000 شخص، في عيد الفطر، الذي سبق موتك بقرابة أسبوعين. لا أحد بات يذكر هذا التفصيل على أهميته، بينما أرملتك فتيحة نعتك قائلة:”«من قتل زوجي إنما قتل الأمل”.

قبل أن تحط طائرتك في عنابة، وتلقى ربك، زرت غرب البلاد، ذهبت إلى عين تموشنت وأرزيو، والأهم إلى وهران، هناك غيرت اسم ملعب (19 جوان) المخلد لذكرى الانقلاب على بن بلة (أو ما سمي التصحيح الثوري) إلى اسم ملعب (أحمد زبانة) هكذا كنت أول شخص يمحو ما كان يعتبر يوماً وطنياً من الأجندة، لا بدّ أن بن بلة كان شاكراً لك، نادماً عما فعل، تخيل معي لو أنه حكّم عقله، ولم يأمر باعتقالك في جسر حيدرة صيف 1963؟ لو أنه لم يتهمك بالتآمر وبالعمالة وبخدمة الإمبريالية وأنت بريء من تلك التهم كلها؟ كنا سنكسب الكثير من الوقت المُهدر.

على فكرة، أعلمك أن تهمة التآمر ما تزال سارية المفعول في تثبيط حراك كل ناشط سياسي، أو معارض للنظام. كما لو أن التاريخ في الجزائر لا يريد التقدم إلى الأمام، بل يتكور على نفسه ويتكرر. يوم عدت، استغربت أن ترى الناس في طوابير للظفر بكيلوغرام سكر، أو علبة حليب للأطفال، اليوم أيضاً نرى الناس يتزاحمون للظفر بقنينة زيت. أجبروك على المنفى، من باريس إلى القنيطرة، وأنت لا تملك سوى هندامك، وعدت منه دون أن يتغير شيء من ممتلكاتك، سوى مقاس هندامك الذي تضاءل رقمين، ورئتك التي تهالكت جراء النيكوتين وثقل السنين، عملت في ورشة الآجر مقتفياً أثر أجدادك في الحضنة، فأنت مثل جزائريين آخرين، لا يُهاجرون رجاء مالٍ أو ذهب، بل دفاعاً عن قضايا خاسرة، وما أكثر القضايا الخاسرة في زمن تخاذل الرفاق.

يوم رحيلك يستحق أن يحكى في رواية أو فيلم، لقد شاهد فيه الناس العجب العجاب، الجزائريون يتذكرون كلماتك الأخيرة، التي صورها التلفزيون، من خطاب ظل معلقاً للأبد، الخطاب السياسي الوحيد، في التاريخ، الذي لم ينته، حين قلت: «البشر راه عنده حياة قصيرة.. غدوة رانا رايحين الكل للممات.. لوقتاش الإنسان كارش في المسؤولية؟ والناس تتلاهث على المسؤوليات.. نجعلوا مقاييس في المسؤوليات.. وهي: الكفاءة، النزاهة.. حنا نشوفو هذي الدول اللي فاتتنا، باش فاتتنا؟ فاتتنا بالعلم.. والدين تاع الإسلام..» ثم التفتت يساراً، وسمعنا طلقات نار، شاهدناً دخاناً كما لو أن قنبلة قد انفجرت في القاعة، وأسدل الستار، فدخل الشعب في هرج ومرج، ظل التلفزيون يعرض تلاوة قرآن والشائعات تملأ الطرقات والميادين والمقاهي، ولا أحد علم هل أنت حي أم أن روحك قد رفرفت إلى السماء؟ كان يفترض أن تبث نشرة أخبار في منتصف النهار، لكنها تأخرت ذلك اليوم إلى الواحدة وعشرين دقيقة بعد الزوال، «توفي محمد بوضياف» وظهر المذيع كمال علواني ـ لا بّد أنك تذكره ـ باكياً أمام الكاميرا، كمال علواني أيضاً غادر بعد رحيلك، تبخر مثلما تبخر الجيل الناصع من مذيعي التلفزيون، كما لو أنهم هجروا حداداً عن رحيلك وناب عنهم صحافيون، أقل شجاعة وأقل كفاءة، أعادوا التلفزيون إلى الوراء، وزيرك للصناعة كيرامان أصيب أيضاً، ووالي عنابة كذلك وأحصت الأنباء 41 جريحاً في تلك الساعة المشؤومة، أما صديقك سليمان عميرات فقد فارق الحياة وهو يتلو الفاتحة على روحك، وأعلن فيدال كاسترو حداداً ثلاثة أيام في كوبا، وشاخت الجزائر عندئذ عشر سنوات. لكن الشيء الغريب ذلك اليوم أن سمع الناس زغاريد في الشرفات. هل فرح خصومك بنهاياتك وهم الذين عابوا عليك الاستسلام لصندوق النقد الدولي وأنت الذي سعيت إلى إنقاذ البلاد من أزمتها المالية؟ أم هي زغاريد أمهات فرحن بأطفالهن بعد إعلان نتائج الابتدائي في اليوم ذاته؟ أم زغاريد نسوة مخلصات وهن يشيعنك مثلما كان يشيع الشهداء بالزغاريد؟ الغالب هو الخيار الثالث.

لقد وصلت إلى القاعة، التي ألقيت فيها خطابك الأخير (غير المنتهي) متأخراً بخمس وأربعين دقيقة، لكنك غادرت الحياة مستعجلاً، موتك كان حياة ثانية لك، مواقفك ما تزال ترددها الألسنة، عدم رضاك عن الانفتاح الديمقراطي العشوائي الذي تلا انتفاضة 5 أكتوبر/تشرين الأول 1988، وما رافقها من ديماغوجيا، وفصلك بين المسجد والسياسة، انتقادك الصارم لجبهة التحرير، مع أنك حملت البطاقة رقم 1 في هذا الحزب، أقررت في حوارك مع القناة الفرنسية الثالثة: «لا أملك قدرة على تغيير جذري» لكنك كتبت وصفة في كيفية التخلص من جيوب العنف، لولا أن الأبصار عمت عنها. ما يزال الناس كلما ضاقت بهم الحياة تساءلوا مثلما تساءلت عام 1963: «الجزائر، إلى أين؟» ونحن مثلك في 2022 لسنا نعلم أين تسير!

أضف تعليقك

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)

تعليقات ( 0 )