المساء اليوم - متابعات: لا بد أن كثيرين قد سمعوا عن الأساطير الشعبية حول قدرات القطط الاستثنائية في الرؤية. في الواقع، لم يكن هناك وقت في التاريخ لم تكن فيه القطط مرتبطة بأسطورة أو خرافة ما؛ المصريون القدماء مثلا كانوا يعتقدون أن القطط تحمل من روح باستِت (إله المرح والسعادة في مصر القديمة)، وفي القرون الوسطى كان الإنجليز يعتقدون أن القطط السوداء تجلب حُسن الحظ، على عكس الأيرلنديين والاسكتلنديين الذين كانوا يعتقدون أنها تجسيد القطة الأسطورية "سِث" التي تجوب البلاد بحثا عن الأرواح لسرقتها. حتى في بدايات القرن العشرين، كان البحارون المسافرون بين أوروبا وأميركا يحتفظون بالقطط متعددة الأصابع "Polydactyl" على مراكبهم لاعتقادهم بأنها حسنة الطالع. القطط متعددة الأصابع هي تلك التي تحتوي كفوفها الأمامية على ما يفوق خمسة أصابع، ولندرة هذا الخلل الجيني بين القطط، عُدَّ دليلا على حُسن الحظ، بالإضافة إلى أنه كان يمنحها أفضلية إضافية في صيد الفئران، وهي مهارة مطلوبة بشدة على سفن السفر الطويل لحماية المؤن. كل هذا لا يقارن بالشك الأزلي في قدرة القطط على رؤية عالم الخوارق والماورائيات، وتحديدا الأشباح. أحد استطلاعات الرأي التي أجراها موقع "YouGov" في 2019 أظهرت نتائجه إيمان 45% من المصوتين بوجود الأشباح، وهناك عدد لا بأس به من البشر في العالم يعتقدون أن القطط قادرة على التقاط مشاهد من هذا العالم. القطط تشم ما لا نشمه، وتسمع ما لا نسمعه، وتستشعر التغيرات الطفيفة في سرعة الرياح وحالة الطقس التي لا نشعر بها، فلماذا لا تستطيع هاتان العينان الساحرتان رؤية ما لا نراه كذلك؟ المفاجأة الأولى هنا أن القطط ترى ما لا نراه فعلا، ولكنها لا ترى ما نتخيل أنها تراه، والسبب في ذلك هو أنه لو كانت هناك حاسة واحدة فقط يتفوق فيها البشر على القطط فهي النظر. هذه هي المفاجأة الثانية بالمناسبة. دراسة الجهاز البصري للقطط أظهرت للعلماء أن رؤية القطط محدودة للغاية مقارنة بنا؛ فأولا، القطط لا ترى الألوان بالحيوية والتشبع والتباين ذاته، وثانيا هي تعاني -صدِّق أو لا تُصدِّق- من قِصر النظر. قطتك تحتاج إلى أن تكون على بُعد 8 سنتيمترات تقريبا لترى بوضوح ما تراه أنت من على بُعد 30 سنتيمترا. طبعا هذا أنتج لنا العديد من المقاطع المضحكة لقطط مترددة تقوم بحسابات حركية معقدة، ثم تعقبها بقفزة بلهاء تنتهي بالسقوط في منتصف المسافة إلى الطاولة أو البرّاد، ولكن فيما يتعلق بقدرة القطط على الرؤية، فهذا هو قمة الجبل الجليدي فقط. لا تستطيع التجارب العلمية التيقن من وجود الأشباح من عدمه، ولكنها تستطيع أن تخبرك بالسبب الذي يدفعك للشك في قدرة قطتك على رؤيتها، وهو ببساطة أن قدرة القطط على الرؤية في الظلام تفوق الإنسان بخمس إلى ست مرات. هذه هي المزية الوحيدة التي تتفوق بها القطط علينا، وهي مزية تجعلها ترى ما لا نراه فعلا. المؤسف أنه ليس الأشباح. (10) (11) لنبدأ بتكوين العين أولا؛ كلنا -نحن القطط والبشر- نمتلك ما يُعرف بـ"الشبكية" (Retina)، وهي نسيج في مؤخرة العين يحتوي على "الخلايا المستقبلة للضوء" (Photoreceptors)، وهي المسؤولة عن تحويل الضوء المنعكس عن الأشياء إلى إشارات كهربية يفسرها المخ بالألوان. هناك نوعان رئيسان من هذه الخلايا؛ "القضبان" (Rods)، و"المخاريط" (Cones)، الأولى مسؤولة عن الرؤية الجانبية والرؤية الليلية، إذ يمكنها استقبال الضوء الساطع ودرجات الرمادي، والثانية مسؤولة عن ترجمة الألوان، والفارق الرئيس بين البشر من جهة والكلاب والقطط من جهة أخرى هو تركيز خلايا القضبان والمخاريط في الشبكية؛ البشر يملكون تركيزا أعلى من المخاريط، لذا فرؤيتهم النهارية تتفوق على الكلاب والقطط التي تمتلك توزيعا معاكسا. هذا الاختلاف في توزيع الخلايا (الزيادة في خلايا القضبان) هو المسؤول عن الانعكاس الأخضر والأحمر الذي يمنح عيون القطط مظهرا مرعبا في الظلام، وهو أيضا ما يمنحها رؤية أفضل في الضوء الضعيف، تفوق البشر بخمس إلى ست مرات. تمتلك القطط كذلك مجال رؤية أوسع قليلا من البشر، لكن نظرها أقل حِدَّة بخمس مرات تقريبا في الضوء، وهي أشبه بإنسان أعمى الألوان، لا يلتقط بصره درجات الأحمر والوردي، وبالإضافة إلى تركيز خلايا القضبان العالي، فهي أيضا تملك غشاء إضافيا في مؤخرة العين، خلف الشبكية، يُدعى "Tapetum Lucidum"، يقوم بعكس الضوء مجددا على المستقبلات، ليُمكِّنها من مراجعة ما تراه في الظلام مرة أخرى، والتقاط التفاصيل التي لم تلتقطها المستقبلات في المرة الأولى، وهذا ما يجعل رؤيتها الليلية بهذه الحِدَّة. الحِدَّة هي الكلمة المفتاحية هنا؛ هذه الحساسية الشديدة للضوء في الظلام -مقارنة بالبشر- هي ما يمنح القطط القدرة على التقاط اهتزازات واختلالات الضوء التي لا نشعر بها. هذا ما يظهر جليا مع مصابيح الفلورسنت مثلا التي يمكن للقطط ملاحظة اضطراباتها التي لا تلتقطها أعيننا، ومن ثم التفاعل معها. نحن نفسر ذلك بالبلاهة، أو الجنون، أو الرغبة في اللعب، أو لا نحاول تفسيره ونكتفي بالضحك، وبعضنا يربط هذا النشاط في الظلام بالقدرة على رؤية الأشباح. يعتقد علماء البيولوجيا التطورية أن السبب في هذا الاختلاف هو ببساطة الاختلاف في المهام الضرورية للبقاء؛ القطط ليست كائنات ليلية كما يُشاع، ولكنها تنشط في أوقات الغسق والفجر للصيد، والقدرة على الرؤية بأقل قدر متاح من الضوء كان أمرا ضروريا للبقاء في ظل هذا النمط الحياتي. المهم أيضا أنه لو كانت هناك أشباح، فنحن لا نعلم من أي شيء تتكوّن، وبالتالي لا يمكننا أن نعلم إن كانت القطط تراها، ولكن الدراسة التي نشرها رونالد دوغلاس في دورية "المجتمع الملكي للعلوم الحيوية" (Proceedings of The Royal Society: Biological Sciences) تعتقد أن بعض الثدييات قادرة على التقاط موجات معينة من الضوء لا تلتقطها أعين البشر، وتحديدا الموجات فوق البنفسجية. هذا لا يجعلها قادرة على رؤية الأشباح الحرفية بالطبع، إن جاز التعبير، ولكنه يعني أنها قادرة على رؤية أشباح أخرى مجازية، مثل الأنماط اللونية المميزة على الأزهار التي تدل على وجود الرحيق، التي لا يلتقطها إلا النحل، أو آثار بول الحيوانات التي تدفع القطط -وغيرها من الحيوانات- لتتبعها إلى فريسة ما، أو تجنبها خوفا من الافتراس، وهي أيضا ما يفسر قدرة الأيائل القطبية على رؤية الدببة البيضاء على خلفية جليدية، لأن الثلج يعكس الموجات فوق البنفسجية، بينما الفرو الأبيض لا يعكسها، لذا لا ننصح بصيد الدببة القطبية بدون مساعدة كلب أو قطة. طبعا نحن نعلم أن هذا محبط. لو كانت القطط قادرة على رؤية الأشباح لكانت الحياة أكثر إمتاعا وإثارة بما لا يُقاس، ولكن دكتور بِنس نيناي، الفيلسوف والطبيب النفسي، والبروفيسور السابق بجامعات كاليفورنيا وسيراكيوز وكامبريدج، ومدير الشبكة الأوروبية للأبحاث الحِسّية، يعتقد أن رؤية القطط لها بُعد مجازي كذلك، لا يقتصر على الأشباح وموجات الضوء. القطط تشترك مع البشر في ظاهرة بصرية حِسية تُعرف بـ"Amodal Completion"، وهي ما يحدث عندما تتحد عقولنا وأبصارنا لتتخيل الجزء المخفي مما نراه. المثال الأشهر على تلك الظاهرة هو "مربع كانيزا" (Kaniza Square)، الذي، في حقيقته، ليس مربعا حقيقيا، ولكن يُستدل عليه من الدوائر المحيطة به، وبمجرد رؤيته، تتخيل عقولنا خطوط المربع حتى لو كانت خفية، لأن هناك ما يدل على وجودها. (16) (17) في الحياة اليومية، وفي الحياة عموما، نادرا ما تتاح لنا رؤية جسم ما بلا خلفية أو تداخل مع جسم آخر، هذا يدفعنا لتخيل الجزء غير المرئي منه لتكتمل الصورة في أدمغتنا، والدراسة المنشورة في "دورية العلوم التطبيقية لسلوك الحيوانات" (Applied Animal Behavior Science) منذ عامين تعتقد أن القطط تحديدا تمارس النشاط ذاته، لأنها تملك القدرة ذاتها على "Amodal Completion". الأمر كله بدأ بملاحظة رغبة القطط القهرية في الجلوس في الصناديق الورقية أو الخشبية. هذا أمر يعاني منه كل مُلَّاك القطط تقريبا، وما لاحظه العلماء أن القطط تُحبِّذ الجلوس في المربعات والمستطيلات عموما حتى لو كانت مجرد أشكال هندسية ثنائية الأبعاد مرسومة على الأرض، ومن هنا طرأ في ذهن أحدهم أن يرسم "مربع كانيزا" على الأرض ويراقب رد فعلها، وقد كان ما توقعته. هذا كله باهر طبعا، والأكثر إبهارا كان ما صرَّح به جون برادشو، الخبير في سلوكيات القطط، لناشونال جيوغرافيك منذ بضعة أعوام، ومفاده باختصار أن القطط لا ترانا بشرا، وأن مزحة الـ"Hooman" الشهيرة التي تراها في كل مقاطع القطط المضحكة ليست حقيقية. القطط تعاملنا كما تعامل القطط بالضبط.