ياسين الطالبي ماضي الأمم والشعوب ليست مجرد ذكريات غارقة لا تجد من ينتشلها، وفي ظل التوترات والمنافسات العالمية التي تجتاح العالم اليوم، من المهم أن نتذكر الدروس المستفادة من التاريخ. وعلى مر القرون، كانت بريطانيا وروسيا قد تواجهتا في مجال السياسة والاقتصاد والاستعمار. نصف القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين شهدا تصاعداً في هذه التوترات، حيث كانت بريطانيا تخشى من النفوذ الروسي المتزايد وتأثيره على مصالحها الإقليمية والعالمية. ازدهرت الإمبراطورية الروسية القيصرية بسرعة خلال هذه الفترة، مدعومة بالتوسع الصناعي والاقتصادي السريع. كانت روسيا تسعى لتوسيع نفوذها الجغرافي والسياسي نحو الجنوب والشرق، مما أثار قلق بريطانيا. تعزيزاً لهذه المخاوف، كانت بريطانيا تقلق بشأن السيطرة الروسية المحتملة على المناطق العثمانية التي كانت في حالة احتضار ميؤوس منها، خصوصا مضيق البوسفور والدردنيل. كانت هذه الممرات البحرية الحيوية تعتبر ضرورية للحفاظ على الطرق التجارية والعرض البحري بين بريطانيا والشرق الأوسط وآسيا. وكان سقوط الدولة العثمانية يعني سقوط هذه الممرات تحت سيطرة روسيا، وذلك سيضر بشكل كبير بالتجارة البريطانية والاستراتيجية العسكرية. وكذلك سقوط الثروة المادية والروحية للدولة العثمانية التي لاتقدر بثمن في يد روسيا القيصرية, المتمثلة في الثروات النفطية الهائلة، وأيضا الثروات الروحية المتمثلة الأماكن المقدسة "مكة, المدينة, القدس" وكل الإرث الحضاري للمنطقة كالفرعوني والفينيقي والروماني وغيره. وفي محاولة للتصدي لهذا التهديد المتزايد، كانت بريطانيا تعمل على تعزيز العلاقات مع الدول المجاورة وتحسين قدرتها على مواجهة القوى الروسية المتزايدة. جزءً من هذه الاستراتيجية كان يتضمن تكوين تحالفات مع دول أوروبية أخرى للحد من تقدم روسيا والحفاظ على التوازن بين القوى في المنطقة. تزامنًا مع هذا، كانت بريطانيا تتعهد بدعم الإمبراطورية العثمانية من خلال المساعدة السياسية والاقتصادية والعسكرية وكأنها جرعات المورفين, التي قد تساعد في مقاومة المرض لايام معدودة فقط, فالنتيجة كانت حتمية. الهدف كان تأمين الإمبراطورية العثمانية كحليف إقليمي مرحلي ضد النفوذ الروسي وضمان استقرار المنطقة والتجارة إلى أن تتغير المعطيات الجيوسياسية. لقد طال عمر الإمبراطورية العثمانية بفعل هذا المورفين، الذي لم يكن يهدف إلى إنقاذ الإمبراطورية بقدر ما كان يهدف إلى خلق ظروف تسمح بتنفيذ مخطط معد بعناية، وهو تأجيل موت الإمبراطورية العثمانية إلى حين إنهاك روسيا القيصرية. في زاوية أخرى كانت الهند تعتبر جوهرة تاج الإمبراطورية البريطانية، وكانت مصدر قوة وثروة هائلة. وفي القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، بدأت روسيا توسعها باتجاه وسط آسيا، مما أثار المخاوف البريطانية حول المصالح الاستعمارية في الهند. هذه المخاوف أدت إلى نشوء "المباراة العظمى" (Great Game) بين بريطانيا وروسيا. كانت المباراة العظمى مصطلحًا يستخدم لوصف المنافسة الجيوسياسية والتوترات بين الإمبراطوريتين في وسط آسيا، حيث كانت كلا الجانبين تسعى لتوسيع نفوذها وتأمين مصالحها. لحماية مصالحها في الهند، اتخذت بريطانيا عدة خطوات استراتيجية، مثل تعزيز الحضور العسكري على الحدود الهندية وتأسيس تحالفات مع دول المنطقة المجاورة لوسط آسيا. كما عملت على تعزيز البنية التحتية والنقل داخل الهند لتحسين قدرتها على الاستجابة لأي تهديدات محتملة. على الرغم من مرور الزمن وتغير الظروف، تبقى الدروس المستفادة من المباراة العظمى ذات صلة في العالم اليوم. إن فهم المشهد الجيوسياسي وتحديد الاستراتيجيات المناسبة لتعزيز السلام والاستقرار يتطلب دراسة تاريخ القوى العظمى والتفاعلات بينها.