عبد الله أبو عوض لم يخطر في ترانيم دعاة الديمقراطية الغربية التي تغنى بها الديمقراطيون التبع، أن تسقط قواعد دروسها في رحم الخديعة، فالغرب ترجم ديمقراطيته في واقع الغزو الروسي لأوكرانيا بأبشع مظاهر التخلف والرجعية والاستعلاء والعنصرية. إن الهدف الاستراتيجي للحرب الروسية قد تحقق مبتغاه، وذلك من خلال الاعتراف بدونيتسك ولوغنسك ( إقليم دونباس) والتوقيع على استقلالهما، والاستيلاء على مساحات شاسعة من القلب الاقتصادي لأوديسا، ناهيك عن الملفات التي وضعت روسيا يدها عليها في هذا الغزو والمرتبطة أساسا بالعمليات والمراكز الأمريكية والغربية التي كانت تشتغل منذ أكثر من ثلاثين سنة على الأراضي الأوكرانية في استهداف روسيا مستقبلا، إضافة إلى تثبيت جزيرة القرم وتأمين المصادر المائية لتزويده. لقد عمد فلاديمير بوتين، إلى التلاعب بموازين القوى معتمدا على استرتيجية ( التبعثر القبلي )، والمقصود به أن الولايات المتحدة الأمريكية حديثة العهد بغلق ملفي جبهتي العراق وأفغانستان، وفي نفس الوقت التدبير الكارثي لها ولأوروبا العجوز لجائحة كورونا، فتبين هشاشة التعامل اللوجيستيكي والعلمي للتفاعل مع الجائحة، وكذلك التأثير العام على علاقة الولايات المتحدة مع شركائها وحلفائها، ما أفقدها التوازن في استثمار سياسة تشاركية للقوى الاقتصادية التي فرضت نفسها في الاقتصاد والتسلح والتجارة الدولية، فأمريكا ما بعد سقوط جدار برلين، ليس هي أمريكا الوقت الحالي التي ترمي إلى سياسة الأفق الواحد، علما أن تطور العالم السياسي صار مقترنا بلغة المصلحة الإقليمية، والحدود الآمنة، وجسور التوازن في خطوط التجارة الدولية ومفهوم الآفاق المتعددة. عالم (ما بعد حرب أوكرانيا) سيعرف صعود قوى إقليمية، وتعدد القطبيات، بولادة القطبية الصناعية والقطبية الفلاحية والقطبية العسكرية، والقطبية الطاقية والقطبية العرقية.. لذا فحرب روسيا على أوكرانيا بعثرت أوراق الغرب المنغلق على سياسة العنصر الأشقر الذي صرحت به وسائل إعلامهم كلها، وعلى لسان العديد من سياسييهم. فما هو العمق الاستراتيجي الذي ينبغي للمغرب أن يستفيد منه في ظل الظروف الراهنة؟ طبعا لا يمكن جرد ما لعبته الحرب الروسية على أوكرانيا من حقائق في بضعة أسطر، ولكن ليس عيبا أن تحدد كل دولة معالم التحديات والرهانات وكذا الضمانات التي تحفظ استقرارها وأمنها وسلامتها. فالمغرب الذي ابتعد عن وضع مؤشر يرتبط بالغزو الروسي لأوكرانيا، يتضح جليا من موقفه مراعاة مصلحة قضيته الكبرى المتمثلة في وحدته الترابية، إذ لا يخفى التهديد المرتبط بالشمال والشرق من دول الجوار بهذا الموضوع، وروسيا رغم موقفها المحايد المختبئ في لغة القانون داخل الأمم المتحدة، يبقى ذا بعد استراتيجي لروسيا قبل حرب أوكرانيا مع السوق الجزائري عسكريا، والسوق الطاقية من حيث توزيع عمليات الإنتاج والتوزيع الطاقي، لذا كان هذا الحياد مع بعض الميول الإيجابي للمغرب، لعبة سياسية روسية متفوقة. لكن الغزو الروسي لأوكرانيا، سيغير هذه المعادلة خاصة إذا ارتبطت بالغاز الروسي الذي يلبي 40٪ من حاجيات الاتحاد الأوروبي والنفط الذي يساهم في توازن سعر البرميل في السوق العالمية، باعتبار أن الاستراتيجية الطاقية هي من المشترك الواضح مع الجزائر، خاصة التي تلعب في الموازنات الدولية بنفس المصادر الطاقية، وبما أن الغرب قد استنفذ كل قدراته في العقوبات الجادة والبليدة، فإنه أدرج العقوبات التي تمس بالطاقة الروسية، وهو نفسه الذي سيضغط على الجزائر وخاصة الاتحاد الأوروبي نظرا للقرب الجغرافي، لتغطية الخصاص ومتطلبات السوق الأوروبية من الغاز والبترول، وهذا يضرب في صلب العلاقة ما بين روسيا والجزائر. كما أن روسيا تجد نفسها ممتنة للمغرب حول موقفه السيادي الذي لم يمله عليه أحد، ليثبت قوته في التحولات الدولية كقوة ذات استقلالية، ولتبقى الآلية الدبلوماسية المغربية حاضرة بسيادتها في خدمة وحدتها الترابية بأخذ الاعتراف الروسي نهائيا، ودون أن تسمح بتلاعب سياسي بالوحدة الترابية. ولا ننسى أن المغرب لعب دورا سياديا في منطق الخدع الحربية، باستيعاب تثمين الجارة الشمالية بالحكم الذاتي الذي اقترحه المغرب كحكم جاد ومعقول، فإسبانيا وفي ظل هذه الحرب عرفت قيمة المغرب كشريك سياسي واقتصادي، كما أن المغرب عرف قوته في تحديد مطالبه دون تنازلات في المفاوضات، وإقرار مصلحته العليا أولا. إن المغرب في الحرب الروسية على أوكرانيا، كان العنوان الأبرز في عملياته الدبلوماسية هو السيادة والاستقلالية في صياغة قراراته، وهذا يدفع به كقوة إقليمية جيوستراتيجية، تهدف إلى الحسم في قضاياه الكبرى لما بعد حرب أوكرانيا بصفة نهائية، والجارة الشمالية في رسالتها الأخيرة جعلت الجارة الشرقية شاردة في استيعاب ما يدور من تحولات في المنطقة، وهو ما يضيق الخناق على المؤسسة الحاكمة بالجزائر ويؤدي إلى تبعثر أوراقها سواء في استنزاف ثرواتها على غيرها، أو في منحى خطها الدبلوماسي الذي برهن فشله مع متقلبات السياسة الدولية. فالاعتراف بالصحراء المغربية من قبل روسيا مسألة وقت ليس ببعيد، لتطوى تحركات الخارجية البليونيرية الجزائرية إلى الأبد، وليكون المغرب قد تجاوز مرحلة مواجهة الصغار، ليدخل غمار اللعبة الكبرى بلغة القطبيات.