الآلـة الإعلامية.. القوة الضاربة المُتجددة في زمن الحرب والسلم

عبد الله  بوصوف

شهد العالم العديد من الصور الصادمة عن أهوال الحرب الدائرة رحاها في أوكرانيا.. وتميزت هذه الحرب بكَـمٌ هائل من الاخبار وتحاليل ذوي الاختصاص، بمنسوب عادل أو فاق في كثير من الأحيان الآلـة الحربية نفسها بشكل رهيب ووتيرة قوية..

وبهذا لم يغـب الاعلام بكل أصنافه عن لحظات الدبلوماسية ولحظات الحرب والقصف والهروب واللجوء الجماعي وصفارات الإنذار، وكان حاضرا أثناء جلسات المفوضات (الروس والأوكرانيين) و اجتماعات الحلفاء و قرارات المنظمات الأوروبية و الأممية… وهو ما جعل من الآلة الإعلامية ليس أداة نشر و توثيق الاحداث فقط، بل جعلت من نفسها إحدى ساحاتها وأحد أسلحتها الفتاكة بالتأثير في الرأي العام المحلي والعالمي من خلال  تبني “حكي أو سرد”  Naration  يُـبررعمليات الحرب  وتَصوُرات “تُـشرعِـن” العنف والحرب في تدبير النزاعات والصراعات…

لذلك أصبح حظر وإيقاف بث بعض القنوات وسحب اعتمادات بعض الصحفيين كأحد العقوبات القوية أو ضمن تكتيكات الصراع الساخن.. كما أصبحت طلات قادة النزاع محسوبة خاصة على وسائط التواصل الاجتماعي (الفايسبوك و التويتر واليوتيوب و التلغرام …) أضف الى ذلك نسبة المشاهدة وعدد المتابعين… وهو ما فرض على السياسي والدبلوماسي والعسكري أن يُصبح مؤثـرا أيضا في تلك الشبكات التواصلية… وهذا ما شهدناه بالفعل خلال الحرب على أوكرانيا…

والــواقع أن العلاقة بين الحروب و الاعلام ليست وليدة اليوم، إذ بـدراسة أغلب المحطات التاريخية المرتبطة بالنزاعات والحروب نقف على حقيقـة غريبة  وهي أن الحروب ساهمت بشكل كبير في  تطور و تنويـع وسائل الاعلام… حيث ارتبطت أغلب الحروب بميلاد وسيلة تواصل/ إعلامية جديدة… بـدءا من الثورة الفرنسية حيث اخترع Claude Chappe التلغراف سنة 1793والذي تم استخدامه في تنسيق الحرب و خاصة بين الثكنات العسكرية بين باريس وليل، ليستمر تطوير التلغراف مع العالمين البريطانيين “كوك” و”واتسون ” سنة 1837….

ثم “معركة القرم” سنوات 1853 و1856 بين روسيا والعثمانيين بتحالف مع الانجليز والفرنسيين، والتي ستعرف ولأول مرة  “المراسل الصحفي العسكري”مع”وليام هاورد”  سنة 1854.. والذي عانى من مضايقات المؤسسة العسكرية التي نُسـب لها واقعة إحراق خيمته ذات مرة.. كما منعت ذات المؤسسة كل الضباط من التواصل معه والادلاء بتصاريح له… لكونه تحدث للناس ولأول عن مشاهد حيـة لـويلات الحرب وسوء إدارة القيادة العسكرية للمعارك والأداء الكارثي للوحدات الطبية كان من نتائجها موت العديد من الجنود البريطانيين…

ففي هذه المرحلة التاريخية كان التوفر على على أطول رابط  تلغراف (الكابل) يعني سهولة في التوسع و مرونة في المناورة، مع ملاحظة مهمة أن التلغراف كان يوفر المعلومة سواء خلال أوقات الحرب و الصراعات أو لأجل أعمال تجارية أو حملات توسعية / استعمارية…

أما اثناء الحرب العالمية الأولى، فقد كانت السينما أهم  وسائل الاعلام و التواصل، حيث كانت الصورة رسالة قوية في مجتمعات تنتشر فيها الأمية بشكل كبير.. و هكذا أصبحت أفلام الحرب و النشرات الحربية هي وسيلة لتوجيه الرأي العام من جهة، و الحصول على إجماع وطني من جهة ثانية… وفي هذه الفترة بـرزت السينما كوسيلة مهمة في تدبير و إدارة الحروب والصراعات…

وسيحتل جهاز الراديو خلال الحرب العالمية الثانية المقدمة في قائمة وسائل الإعلام .. لـقدرته على تجميع حوله الملايين من الناس عسكريين وسياسيين ومواطنين… ولإمكانية إختراقه لصفوف العدو وفي نفس الآن آليـة قـوية في مراقبة المجتمع… أكثر من هذا فإن الأنظمة الشمولية النازية والفاشية ستعمل على إحتكار المعلومة والتحكم في تصريف “حكي وسرد” Naration بطريقة تخدم مصالح تلك الأنظمة الشمولية و ايديولوجيتهاكخلق “وزارة البروباغاندا ” بألمانيا النازية مع Joseph Goebbels…

وسيتربع “التلفزيون” أثناء حرب الفيتنام على عرش الإعلام في تبريره للحرب حتى قيل آنذاك إن الاعلام هو بوق كبير للسلطة… لكن الإعلاميين سيدركون قوتهم و أهمية استقلالية الخط التحريري، و هكذا سيعمدون إلى إعادة ترتيب العلاقة بين الإعلام و السلطة…

و مع بداية التسعينيات من القرن الماضي و مع ماعرفته من حروب عنيفة في مناطق الخليج والبلقان و يوغوسلافيا و الصرب و البوسنة… سنكتشف أدوات إعلامية جديدة تمثلت في الفضائيات الإعلامية مع صبيب هائل من “الأخبار الزائفة”  تنشرها بعض  القنوات الفضائية من أجل شرعنة استعمال القوة ضد العدو…. مع أسلوب جديد هو تجنب ظهور صور الدماء وصور جثث الموتى تجنبا لكل رد فعل رافض للحرب داخل المجتمعات الغربية… خاصة مع وجود سابقة تاريخية ربطت  صور التلفزيون حول حرب الفيتنام و الدماء والموتى بعامل إحباط الجنود الأمريكيين، لذلك تجنب الاعلام نشر صور الموتى في كل الحروب التي تلت حرب  الفيتنام ، ونُـذكّر هـنا بحادث11 شتنبر 2001 حيث تجنب التلفزيون نقل صور الموتى.. و أكتفى فقط بصور انهيار المباني و البنتاغون.

اليوم، ونحن نعيش تداعيات الحرب على أوكرانيا و ترتيبات النظام العالمي الجديد.. فقد فرضت الآلـة الإعلامية نفسها كلاعب لا يمكن الاستغناء عنه في تدبير الصراعات و في تجييش وتأجيج الرأي العام، وفي إعلان بداية الحرب وإنهاءها حتى قبل نهايتها على أرض الواقع.. وفي الهزيمة و النصر.

فقد لاحظنا أنه عندما يٌعلن الإعلام الروسي عن هروب الرئيس الأوكراني “زيلانسكي” مثلا، فإن هذا الأخير يرد عليهم بفيديو بواسطة هاتفه الشخصي من وسط العاصمة كييف أو من القصر الرئاسي أو بتدوينه على التويتر… كما واظب المراقبون على مراقبة وتطور مضامين وحساب عدد و مقارنة تدوينات كل من الرئيس الأوكراني “زيلانسكي” الذي ارتفع عدد متابعيه إلى ما يقارب 5  ملايين متابع على منصة “التويتر” ، ونظيره الروسي “فلادمير بوتين” في شكل معركة رقمية جديدة.

الآلـة الإعلامية فرضت نفسها، ليس في زمن الحرب و الصراعات، بل أيضا في صناعة بعض الكائنات الانتخابية من اليمين المتطرف، وفي مقدمتهم المرشح الرئاسي “إريك زمور”، والذي تخصص في نشر الكراهية والعنصرية وإهانة مقدسات الآخرين باسم حرية التعبير… وهي تهم أدانه  بها القضاء الفرنسي.

فلا أحد يتمنى العيش تحت صفارات الإنذارات واللجوء الي المخابئ الأرضية، أو الموت برصاصة طائشة أو تحت أنقاض المنازل بعد قصفها بالصواريخ… لا أحد يتمنى العيش لحظات الخوف هو يقطع إلى الرصيف الآخر.. لا أحد يتمنى إصابة قريب أو صديق تحت القصف مع استحالة مرور سيارات الإسعاف أو انعدام الكهرباء بالمستشفيات…لا أحد يتمنى عيش لحظات الهروب الجماعي مع أسرته إلى مناطق آمنة قد تبعد مئات الأميال عن مناطق الصراع… لا أحد يتمنى تجربة عيش  لحظات “تمييز عنصري” بانتظار السماح بالمرور إلى حدود آمنة، بعد فحص لون بشرته أو جنسيته أو ديانته… لا أحد يتمنى العيش في ظروف الحرب الساخنة الدائرة هذه الأيام في أوكرانيا…

أضف تعليقك

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)

تعليقات ( 0 )