صابر بليدي لا يختلف اثنان على أن تكامل العمل الداخلي والخارجي هو الذي يضمن مصالح الشعوب والأمم، فلا يمكن بناء قوة خارجية والداخل ضعيف، ولا بناء داخل والخارج ضعيف، فالتكامل بين هذا وذلك هو الذي يكفل قوة الدول أو يضعفها، لكن الحاصل في الدبلوماسية الجزائرية في طبعتها الجديدة، أن التضارب مسجل بين جبهة الداخل والخارج، أو أن الوتيرة تسير باختلال ما دامت أمجاد الماضي وشعارات العهد الذهبي هي التي يتم الاستقواء بها بدل الاستعانة بالجبهة الداخلية القوية والمتماسكة. الاهتمام بتماسك الجبهة الداخلية وبالوضع المحلي لم يغب عن اهتمامات السلط المتعاقبة في الجزائر، فمنذ عهد الرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة كان الحديث مطروحا بقوة، لكن المنظور الذي قدم به من طرف الأذرع السياسية والإعلامية كان هو سبب الفشل، لأن الأذرع المذكورة كانت تبحث عن نفسها وعن مواقعها، ولم يتم التفكير أبدا في الوضع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، ولو كان قليل من ذلك في ذهنها لما انفجر الشارع في وجه السلطة التي كانت تعمل على تقويتها. ويبدو أن السلطات المتعاقبة لا تريد فهم معنى ومغزى الجبهة الداخلية ما دامت تبحث عن موالين ومؤيدين ومساندين لإخفاقاتها، فلحد الساعة يتم تسويقها على أنها التخندق والحشد ضد الشعارات والخيارات التي ترفع في هذا المحفل أو ذاك حتى ولو كانت غير مضمونة النتائج، بينما يتواصل تجاهل الاهتمامات الحقيقية للداخل سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية. أخيرا تم اكتشاف ندرة دواء الباراسيتامول في الصيدليات، وتقرر الحكومة استيراد ثلاثة ملايين علبة، وكم كان الأمر محزنا أن تفتقد الجزائر إلى دواء بسيط كالباراسيتامول، بينما تحشد السلطة أدواتها الدعائية والسياسية لمشروعات لا أحد يعلم نهايتها ولا عائداتها، كعقد قمة عربية على أراضيها لا طائل ولا عائد منها غير صداع الرأس بحسب الكثير من الجزائريين. الباراسيتامول ليس الدواء الوحيد النادر في البلاد، فهناك العشرات من الأدوية لا أثر لها في الصيدليات، ومنها ما يدخل في خانة الأمراض المزمنة والخطيرة، ولم يعد أمام المريض الجزائري إلا الاستنجاد بقريب أو صديق مغترب، أو اللجوء إلى تجار “الشنطة” للحصول على دوائه، وعليه يجدر التساؤل، ما يهم ذلك المريض في أن يسحب هذا السفير من تلك العاصمة، أو تقطع العلاقات مع هذا البلد، أو عقد قمة عربية، فهمومه تغنيه عن أي اهتمام. والسلطة التي تبحث عن مكاسب دبلوماسية إقليمية ودولية، هي التي أوكلت للحكومة تقليص فاتورة الاستيراد السنوي إلى أدنى المستويات (نحو 30 مليار دولار) من أجل الحفاظ على التوازنات المالية، لكنها لم تحضر البديل المحلي، فحتى الباراسيتامول لا ينتج محليا، فكانت النتائج وخيمة على الأسعار والندرة والكساد. وتداول رواد شبكات التواصل الاجتماعي صورا وتسجيلات لأكبر أسواق البلاد نشاطا ومساحة وروادا، وهو سوق مدينة العلمة في شرق البلاد، الذي صار خاويا على عروشه وحتى الشوارع ومساحات العرض صارت وكأنها تحت طائلة حظر التجول، وهو مؤشر خطير لحالة كساد غير مسبوقة في البلاد، كنتيجة طبيعية لسياسات حكومة جدير بها بناء الجبهة الداخلية ودعمها لتكون سندا للصوت الذي يتردد في الخارج. لا يختلف فقهاء السياسة والدبلوماسية على أن الدفاع عن المصالح الاستراتيجية هو من صميم العمل الدبلوماسي لأي دولة، والجزائر الدولة الأكبر في العالم العربي وأفريقيا، وصاحبة الستة آلاف كيلومتر من الحدود البرية والمحيط الملتهب والتوترات المشتعلة في المنطقة، حري بها أن تلعب جميع أوراقها للحفاظ على مصالحها، لكن ما الجدوى وما العائد من الذهاب بجيب خاو أو وضع داخلي متهالك؟ وكم كان ذلك المواطن الجزائري الذي سئل عن نتيجة منتخب الكرة، صادقا وعاكسا للحقيقة المغيبة، عندما قال “ليس لدي الوقت لأمارس الفرحة، لأنني سأنهض فجرا للحاق بطابور الحليب”، وكان آخرون صادقون أيضا عندما طالبوا كبار المسؤولين في الدولة بتهنئة الشعب والتضامن معه، كما هنأوا وتضامنوا مع منتخب الكرة في رسائلهم المتتابعة. لقد استطاعت دول ومجتمعات توصف بـ”الصغيرة” أن تفرض نفسها وشخصيتها وموقفها، لأنها ركزت اهتمامها على قوتها وتماسكها الداخلي، ولبست قوى كبرى ثوب “الرجل المريض”، لأن حيزها الكبير ينخره ضعف داخلي. والجزائر التي أضاعت فرصة النهوض الشامل في العقدين الماضيين، أضاعت على نفسها أيضا مكانتها وموقعها الإقليميين، لاسيما وأن السلطة القائمة لا تريد الاستلهام من رسائل الحراك الشعبي ولا الاستماع إليه. الجزائر التي ترفض التطبيع مع إسرائيل، وتتمسك بخطاب العهد الاشتراكي وبمخرجاتها التاريخية، باتت لا تملك الآليات اللازمة للدفاع عن مواقفها، فهي إلى جانب وضعها الاقتصادي والمالي الصعب، لم تهتد بعد إلى تكامل حقيقي بين الداخل والخارج ما دام هناك خطاب يستعدي جزءا من الشعب ويتهمه بالخيانة والعمالة. وفيما كان أنصار السترات الصفراء يخربون باريس وباحة الشانزيليزيه، كان الحراك الجزائري يحافظ على سلميته ولم تكسر ولا واجهة زجاجية، لكن الخطاب والتوصيف في باريس والجزائر على الأحداث كانا على طرفي نقيض، فلم يصف ماكرون ستراته لا بالعمالة ولا بالخيانة، بينما كانت التهم والأوصاف تكال مجانا للحراكيين. أن يكون الصوت وازنا وفاعلا في أي من المحافل، لا بد أن يستند على قاعدة صلبة، وكان جديرا بالسلطة الجديدة أن تستمع جيدا لنبض الشارع، في الاقتصاد والاجتماع والسياسة والحقوق والحريات، قبل الذهاب إلى رهانات إقليمية ودولية لا يمكن كسبها دون قوة تبدأ من الداخل.