المثقفون والتحولات العالمية

حسن أوريد

أظهرت التحولات العالمية الكبرى التي وقعت خلال الخمس سنوات الأخيرة، الحاجة إلى المثقف، منذ جائحة كورونا، وعودة شبح الحرب الباردة، والحرب الروسية- الأوكرانية، ونفوق النموذج الليبرالي، والحرب على غزة.

وتبدو هذه الحاجة أكثر إلحاحا في عالمنا العربي، ولا يتورع السياسيون والأمنيون، من كانوا يهزؤون بالمثقف، من التعبير عن الحاجة إليه، لأن نظرهم منصرف إلى الآني وليس إلى المدى البعيد، وهم يخضعون لضغوط ناجمة عن طبيعة مسؤولياتهم، أو التزامات دولية، أو أجنبية، وهم يتحركون من داخل بنيات، وقد لا تلتقي في توجهاتها وأساليبها.

لم تكن السفينة في حاجة إلى منظار أو حتى بوصلة في جو صحو، أما وأن الجو غائم وينذر بالعاصفة، فلا مندوحة من منظار ومسبار وبوصلة.

كان المثقف لقرنين في لب الفعل العام، شارحا، ومؤثرا، وقادحا للهِمم. منذ سان سيمون الذي أوكل للعلماء دور تغيير العالم، ونحت كلمة Intellectuel، أي ما نعبر عنه اصطلاحا بالمثقف، وأخذ عنه أوغست كونت، نتائجه وأوكل للمثقف أدوارا ثلاثة متلازمة، في وظائف تؤديها اللغة الفرنسية في تعبير مسجوع، تفسير العالم Savoir، وتغييره Pourvoir ، والتنبؤ بما قد يؤول إليه Prévoir ، بمسبار العلم، أو القراءة الموضوعية، ولذلك نحتَ كلمة سوسيولوجيا، أي علم المجتمع، وأخذ عنه ماركس، وأوكل للفيلسوف ليس مجرد تفسير العالم، بل تغييره.

كان المثقف في الغرب في لب الصراعات السياسية، وتأثرنا في عالمنا بهذا المد، وانخرط المثقفون في الفعل السياسي، وكانوا قادحين له، وصاغوا سرديات، وانبروا شارحين لها، وانضموا إلى أحزاب، وانغمروا في معمعان الفعل السياسي ومعاركه.

ولكن التغيير الذي طال المثقف في الغرب، بعد الفورة النيوليبرالية شمل عالمنا… تأذّى المثقف من عوامل تعرية عدة، ومنها مزاحمون له، منهم الخبير (أو تقني المعرفة)، ممن لا يطرح أسئلة وإنما يحمل أجوبة، ومثقف التلفزيون، حامل معرفة سطحية، وغالبا ما يرتبط بالسلطة أو الرأسمال، لأن التلفزيون لم يكن مُشْرعا للأصوات النقدية، وانضاف إلى ذلك الناشط، الذي ينخرط في حركة، وله أجوبة جاهزة، إلى الداعية من أرضية دينية وحقائق مطلقة، ومانوية في النظر إلى العالم (إما مع، أو ضد، إما أبيض أو أسود). وحتى السرديات الكبرى التي كان يسكنها المثقف وتسكنه، اهتزت، كما الاشتراكية أو القومية العربية.

في العالم العربي، الفعل السياسي، في الغالب، هو شأن مُركّب أمني أوليغارشي، يشرف عليه أمنيون، مع أذرع في المجتمع المدني، وأوليغارشية غشَت باحة النشاط السياسي، وبالمقابل توارت الأحزاب والنقابات والمثقف… مع فاعل آخر وهو الشارع، ويمكن أن يذهب كل مذهب.

سرى نقاش في عالمنا عن نوعية المثقف الذي تحتاجه مجتمعاتنا، هل المثقف الخبير الذي يدلّ بخبرة ومعرفة، (أسوة بما كان ينادي به فوكو في فرنسا)، أم المثقف العضوي المنخرط في النضال (أسوة بما كان ينادي به كرامشي)، وبنحو من الأنحاء الملتزم كما عند سارتر، أم المثقف النقدي كما ظهرت ملامحه عند زولا في مقاله الشهير “أتهم” (ولو أن التعبير يعود لرئيس هيئة تحرير الجريدة كليمنصو)، أو في تنظير إدوارد سعيد عنه، وقرْنه بالوظيفة النقدية؟… لكن المثقف كما الشاعر هو ابن بيئته، والتحديات التي يعيشها مجتمعه، هي التي تحدد وظيفته وتوجهه.

ألفى المثقف في الغرب وفي مجتمعاتنا، نفسه متجاوَزا، مع الصحفي، ثم الداعية، وحتى هؤلاء أصبحوا متجاوَزين، وظهر المؤثر الذي يستمد قوته من عدد المتابعين، وليست قدرة الإقناع والاستشراف.

ويبدو لي أن لا مندوحة للخطاطة التي رسمها أوغست كونت للعالم أو المثقف، وهي أن تكون له أدوات فهم العالم، أي لا يصدر عن أهواء أو أيديولوجية أو خواطر، وأن يكون منخرطا في شؤون مجتمعه لا يقبع في برج عاجي، وأن يقوم بهذه الوظيفة التي لازمت المجتمعات، وهي الاستشراف، والقدرة على التنبؤ.

وبتعبير صادم، لا بد للمجتمعات من متنبّي، أي شخص يرفع نظره إلى ما هو أبعد من الآني، وما هو على مرمى حجر. وبتعبير “سار”، أن تكون له رؤية، والرؤية هي رؤية الأشياء غير المرئية، كما يقال. ولن يتأتى ذلك إلا من خلال رسم مسافة محترمة من الأحداث والأشياء والأشخاص، ليقف على الظواهر.

الطريف أن هذا الذي أتحدث عنه من قدرة التنبؤ، هو ما عبّر عنه شاعر قديم، حول حاجة أصحاب الركب من القافلة، لسَراة، والسَّراة، هم من يقرؤون النجوم أثناء السُّرى، والسُّرى هو السير ليلا.
وأحب دوما أن أستشهد بهذا البيت للتدليل على مهمة المثقف:
لا يَصلُح الناس فوضى، لا سَراة لهم     ولا سراة إذا جهالهم سادوا.
نخبط في ليل مدلهم، من عواصف عالمية، هي في بداية أمرها، وضعت حدا للأحادية القطبية، وتتهدد الهيمنة الغربية ونظرتها للعالم، وهي عواصف سترعد في عالمنا، ويتوزع بشأنها. وتهتز الأرض بنا، من خلال قضايا الهويات، أو الطائفية. ويزحف جحافل الشباب إلى الحياة، ولا يجدون آفاقا، من شغل، وعيش كريم. ونصبح موضوعا عوض فاعلين.

ويتم الحديث عن “شرق أوسط جديد” في غياب المعنيين، ويمكن بيسر أن نتوقع تأثيره على شمال أفريقيا، ويكون مدخل هذا العالم الذي نوعد، “حل القضية الفلسطينية”… أي القضاء عليها، مما سيفتح باب جهنم على هذا العالم الذي هو ملتقى القارات والحضارات. ولئن التهب، فلن يسلم بقية العالم من أوراه.

ولذلك يضطلع المثقف بدور أساسي في مجتمعاتنا كي يقوم بدور الربيئة: من يحرس القرية، ويستشرف الأخطار المحدقة بها… ليس له أن يفسر العالم، لأن الذكاء الاصطناعي اليوم يمكن أن يضطلع بذلك أحسن من الذكاء الإنساني، وليس للذكاء الاصطناعي، ما يميز الإنسان، وهو الحدس.

طبعا ليس الحدس نزوة للذهن، ولكنه الجانب المرئي لعمق غير ظاهر لما تراكم من معرفة، وقدرة تحليلية باطنية.. في الغرب استشرف دوستويفسكي محاذير الانزياح الشمولي الذي من شأنه أن يأتي على الروح السلافية، ولم يكذب التاريخ نبوءته، وقرأ نيتشه المستقبل، واستشف الزيغ الذي قد يقع للإنسان الأسمى في كاريكاتير منه، ونعرف التتمة.

ربما ما يشفع للمثقف في الواجب إلى “التنبؤ، هو أنه يجوز له ما لا يجوز لغيره، وهو الحق في الخطأ. لا بأس إن أخطأ لأن خطأه (أو تحذيره الافتراضي) قد يُجنب مجتمعه أخطارا فعلية.

من نافلة القول إن العالم مقبل على تغييرات جوهرية، ونحن أحوج ما نكون لمن ليتنبأ، وأن يفعل بناء على حدب على عالمه.
لا أجد أحسن ما أنهي به هذا المقال حول ملمح المثقف، هذا الذي قدّمه مبصر من تراثنا، وهو أبو العلاء المعري في هذا البيت الذي يجمع النقيضين:
وأعجبُ مني كيف أخطئ دائما      على أني من أعرفِ الناس بالناس.

لا يخطئ المثقف، حين يخطئ، عن جهل، بل عن معرفة، وخطؤُه حين يقع هو تحذير يُعفي مجتمعه من أخطار مُطوّحة.

أضف تعليقك

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)

تعليقات ( 0 )