المساء اليوم: في أقصى الشمال، عند النقطة التي يتعانق فيها البحر الأبيض المتوسط مع المحيط الأطلسي، تستلقي مدينة طنجة مثل لؤلؤة أزلية، تحرس بوابة التاريخ وتستشرف أفق المستقبل. طنجة ليست مجرد مدينة؛ إنها ذاكرة متحركة، تحيا بين الأسطورة والواقع، بين البحر واليابسة، وبين الشرق والغرب. وسط هذا الزخم الحضاري والرمزي، تتجلى جهود المحافظة الجهوية للتراث الثقافي طنجة تطوان الحسيمة، التي يقودها الإطار الوطني، أحمد أشرقي، المحافظ الجهوي وحارس التراث المادي واللامادي للمدينة والجهة بأكملها. إن ما يميز أحمد أشرقي أنه ليس فقط موظفًا يؤدي واجبه الإداري، بل شخصية وطنية تحمل صدق الانتماء إلى المغرب في كل خطوة، وتُجسّد بغيرية ونزاهة صورة الوطني الذي يجعل من حماية التراث رسالة قبل أن تكون وظيفة. فقد استطاع أن يربط بين المسؤولية المحلية وبين البعد الوطني، جاعلًا من طنجة نموذجًا يُحتذى على مستوى المملكة في صون الهوية وحماية الذاكرة. يُعتبر أحمد أشرقي من الأطر التي راكمت تجربة واسعة في مجال التراث الثقافي، حيث يجمع بين الكفاءة الأكاديمية، الحنكة الإدارية، والرؤية الثقافية التي ترى في التراث المغربي رأس مالًا لا ماديًا ينبغي صيانته. مكانته الوطنية تتجلى في كونه صوتًا مدافعًا عن الهوية المغربية في المحافل واللقاءات الرسمية، وفي انفتاحه على مختلف الفاعلين من مؤسسات رسمية، جمعيات مدنية، باحثين، وفنانين، لإشراك الجميع في مشروع وطني كبير: حماية الذاكرة المغربية. إن صدقه الوطني ينعكس في سلوكه اليومي وفي أسلوبه القيادي، فهو يضع مصلحة الوطن فوق كل اعتبار، ويؤمن بأن التراث ليس ترفًا ثقافيًا، بل ركيزة أساسية للسيادة الرمزية للمغرب، ومفتاح لتعزيز مكانته إقليميًا ودوليًا. طنجة وأسطورة هرقل: حين يلتقي الواقع بالخيال لكن طنجة ليست مجرد مدينة تحمل على عاتقها عبء التاريخ. إنها، أيضًا، مسرح للأسطورة. ففي الأساطير الإغريقية، ارتبط اسمها بالبطل الأسطوري هرقل، الذي قيل إنه شقّ الجبال ليخلق مضيق جبل طارق، رابطًا بين بحرين وفاصلًا بين قارتين. وفي مغارة عجيبة محفورة بالصخر، تُعرف اليوم بـ مغارة هرقل، يُحكى أن البطل استراح بعد إنجاز أحد أعظم أعماله. هذه المغارة، المطلة على الأفق الأزرق، لم تعد مجرد موقع جيولوجي أو محطة سياحية، بل صارت رمزًا عميقًا يذكّر الإنسان بقوته وضعفه معًا. هناك، في صمت البحر وهمسات الريح، يسمع الزائر صدى خطوات هرقل، كأن الزمن قد تجمّد ليعيدنا إلى لحظة البدء، لحظة السؤال الأزلي: ما معنى أن يكون الإنسان قادرًا على تغيير مجرى الأشياء؟ طنجة ككائن حيّ: روح المدينة التي لا تموت تمنح طنجة لزوارها لحظة تأمل نادرة. في أزقتها القديمة، في جدرانها البيضاء، في أسواقها النابضة، يمتزج الماضي بالحاضر في مشهد يجعلها كائنًا حيًا يتنفس من ذاكرة البحر. كل ركن فيها يحكي حكاية، كل سوق فيها يصدح بحكمة الأجيال، وكل زائر يخرج منها محملاً بشيء من سحرها الذي لا يزول. إنها مدينة الظلال، حيث يبدو أن هرقل لم يغادر قط. بل استحال إلى رمز يتنقل بين الأرصفة، يراقب في صمت ما آل إليه العالم من تغيرات، كأنه يطرح على كل واحد منا سؤالًا شخصيًا: ما هو نصيبك من البطولة؟ وهل تملك الشجاعة لتشق جبالك الداخلية كما شقّ هو مضيق التاريخ؟ التراث كتجسيد للأسطورة الحية هنا تلتقي مهمة المحافظة الجهوية مع روح المدينة. فصون التراث في طنجة ليس فقط ترميمًا للأحجار أو إعادة إحياء لمبانٍ قديمة، بل هو، في جوهره، استمرار للأسطورة نفسها. حماية مغارة هرقل، أو قصبة طنجة، أو أسوار المدينة القديمة، ليست مجرد أعمال هندسية، بل هي أفعال رمزية تجعل من الأسطورة واقعًا حيًا يلامس الناس. إن ما تقوم به المحافظة الجهوية تحت إشراف أحمد أشرقي، هو إعادة كتابة قصة طنجة بلغة الحاضر، مع الحرص على ألا يُمحى صوت الماضي. إنه جهد يستحق التقدير، لأنه يضع التراث في مكانته الطبيعية: بوابة للهوية، جسرًا بين الأجيال، ومصدر إلهام لأسئلة أعمق من الجغرافيا والتاريخ. في النهاية، طنجة ليست مدينة عادية. إنها سؤال مفتوح، وظل أسطورة لم تنتهِ بعد. في مغارة هرقل، في زرقة بحرها، وفي امتداد أفقها، يكتشف الإنسان أن التاريخ ليس خطًا مستقيمًا، بل دوامة تعيدنا إلى أصل الحكاية: بحث الإنسان عن قدره، وعن شجاعته في مواجهة المجهول. وهكذا، فإن الجهود التي تبذلها المحافظة الجهوية للتراث الثقافي بطنجة تطوان الحسيمة، بقيادة أحمد أشرقي، ليست فقط حمايةً لمواقع أو معالم، بل هي حماية للإنسان في أعمق معانيه. إنها تذكير دائم بأن المدن العظيمة لا تموت، وأن الأساطير قد تتجسد في أفعال بشر مخلصين يواصلون الحراسة على بوابات الزمن، خدمةً للوطن وصيانةً لوجهه الحضاري.