جمال الطاهر في 25 يوليوز 2021، أعلن الرئيس التونسي قيس سعيد عن تجميد البرلمان وإقالة الحكومة، في خطوة وصفها بأنها "تصحيح للمسار الديمقراطي"، لكنها سرعان ما تحولت إلى مسار استثنائي أطاح بكل مقومات الانتقال الديمقراطي الذي عرفته تونس منذ الثورة، نقل تونس من سياق المخاض الديمقراطي، بكل ما فيه من صعوبات وأمل، إلى خانة الأنظمة الفردية المغلقة، وقطع الطريق على تجربة كانت تلهم شعوبا أخرى. بالرغم من التحديات والتعثرات التي رافقت مسار الانتقال الديمقراطي في تونس، تمكنت البلاد من إرساء أسس تجربة سياسية فريدة في السياق العربي، تميزت بالتعددية والانفتاح السياسي. خلال الفترة ما بين 2011 و2021، رسخ التونسيون ممارسات ديمقراطية غير مألوفة في محيط إقليمي يتسم بالسلطوية، فأسسوا نظاما سياسيا تعدديا، وكتبوا دستورا قائما على التوافق، ونجحوا في ضمان التداول السلمي على الحكم، بدعم من مجتمع مدني نشط. هذه التجربة، رغم ما اعتراها من صعوبات، مثلت استثناء لافتا في مشهد عربي طغت عليه موجات الثورة المضادة، والعودة إلى الحكم الاستبدادي. أربع سنوات مرت على هذا التحول السياسي العميق، لم تحقق السلطة وعودها بالإصلاح أو الاستقرار، بل دفعت البلاد نحو عزلة مضاعفة: عزلة داخلية متفاقمة، وسط أزمة اقتصادية خانقة وغياب كامل لأي أفق سياسي واضح، وعزلة دولية تزداد حدة في سياق دولي وإقليمي يعرف تحولات عميقة وترتيبات جديدة، قد تغير موقع تونس في الخارطة الجيوسياسية للمنطقة. من ديمقراطية ناشئة إلى حكم فردي مغلظ خلال أربع سنوات، نجح قيس سعيد في تفكيك تجربة ديمقراطية ناشئة، ووضع أسس نظام حكم فردي مغلق. في صيف 2022، مرر دستورا جديدا على المقاس، كتبه بنفسه لنفسه، في استفتاء لم تتجاوز نسبة المشاركة فيه 30%، استحوذ فيه على كل السلطات التشريعية، والتنفيذية، والقضائية. وفي ظل هذا الدستور، تم تهميش البرلمان، وتفكيك مبدأ الفصل بين السلطات، وحل المجلس الأعلى للقضاء، وشنت السلطة حملات اعتقال طالت معارضين سياسيين، قضاة، إعلاميين، ونشطاء مدنيين، وسادت البلاد مناخات من التخويف والتضييق على الحريات؛ بفعل المرسوم 54 سيئ الذكر المقيد لحرية التعبير. في هذا السياق، يواصل الرئيس رفض كل الدعوات إلى الحوار، سواء من الأحزاب أو منظمات المجتمع المدني، مصرا على خطابه الشعبوي القائم على تحميل خصومه مسؤولية الأزمة، وشيطنة الفاعلين السياسيين، واضعا نفسه في موقع "المنقذ الوحيد". تفاقم العزلة الداخلية لم يمضِ وقت طويل حتى بدأ الشعب التونسي يظهر علامات القطيعة مع هذا المسار. بدا ذلك واضحا في عزوفه الواسع عن المشاركة في المحطات الانتخابية ما بعد الانقلاب، إذ لم تتجاوز نسبة المشاركة في الانتخابات التشريعية (ديسمبر 2022 – يناير 2023) 11%، و30% في الاستفتاء على الدستور وفقط 28% في الانتخابات الرئاسية الأخيرة (2024)، ما اعتبر رسالة سياسية واضحة برفض "الجمهورية الجديدة". من جهتها، عبرت الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني عن تململ وقلق متزايدين من انسداد الأفق السياسي، وتدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وتراجع الحريات. ارتفعت أصوات الاحتجاج في الشوارع؛ رفضا لغلاء المعيشة، ونقص المواد الأساسية، وانهيار الخدمات. في المقابل، فشل الرئيس الذي صعد بدعوى محاربة الفساد، في تقديم أي رؤية بديلة، مركزا جهوده على تصفية المعارضين، وتهميش المؤسسات، ما أدى إلى تفكك داخلي خطير، وزيادة منسوب اليأس، وارتفاع موجات الهجرة غير النظامية، خاصة في صفوف الشباب والطبقة الوسطى. من عزلة الداخل إلى عزلة الخارج لم تؤدِ سياسة قيس سعيد فقط إلى القطيعة مع الداخل، بل أدخلت تونس في عزلة دبلوماسية خانقة، وخاصة مع شركاء تونس التقليديين، وعلى رأسهم الاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة. وكنتيجة لذلك، جمد الاتحاد الأوروبي جزءا من مساعداته، فيما أوقف صندوق النقد الدولي مفاوضاته بعد أن رفض سعيد برنامج الإصلاحات المرتبطة برفع الدعم، وإصلاح المؤسسات العمومية. ورغم الخطاب السيادي الذي يرفض "الإملاءات الخارجية"، لم تقدم السلطة أي بدائل اقتصادية واقعية، ما زاد من حدة الأزمة المالية، وعمق فقدان الثقة الدولية. ورغم رفعها شعار "تنويع الشركاء"، والتوجه نحو بدائل خارج الفضاء الأميركي والأوروبي، غابت تونس عن قمة "منظمة شنغهاي للتعاون" الأخيرة، وهي إحدى أبرز الفعاليات الدولية التي شهدت مشاركة فاعلة من دول تعد من الحلفاء التقليديين للولايات المتحدة، مثل الهند، ودول الخليج. يطرح هذا الغياب أكثر من علامة استفهام حول مدى جدية الدبلوماسية التونسية في البحث عن تحالفات جديدة، خصوصا أن القمة تمثل منصة حيوية؛ لإعادة التموضع الجيوسياسي للدول التي تسعى إلى كسر الأحادية الغربية. تونس، التي تخلت فعليا عن شركائها الغربيين دون أن تنجح في تعويضهم بتحالفات متينة في الفضاءات البديلة، تجد نفسها في منطقة فراغ دبلوماسي متزايد الكلفة. هذا الفراغ لا يعزى فقط إلى تحولات المشهد الدولي، بل يرتبط أيضا بعجز السلطة الحالية عن تقديم المقومات الأساسية لبناء تحالفات إستراتيجية، مثل الاستقرار السياسي، والنجاعة الاقتصادية، والقدرة على الإيفاء بالتزاماتها الدولية. هذا التراجع الحاد في موقع تونس على الساحة الدولية، ترجم إلى عزوف تام من كبار المسؤولين الغربيين عن زيارة البلاد منذ 2023، وتغييب تونس عن أبرز المنتديات الإقليمية والدولية. كما تم استبعادها فعليا من مشاريع التعاون الأورومتوسطي، إضافة إلى تجميد عدد من البرامج التنموية والبيئية والطاقة التي كانت مبرمجة ضمن شراكات مع الاتحاد الأوروبي، والبنك الدولي. وهكذا، تجد تونس نفسها اليوم في موقع هش، تدفع فيه ثمن القطيعة، دون أن تحقق مكاسب منفتحة على بدائل حقيقية. بين تحولات الإقليم وفشل الانفتاح: تونس خارج المعادلة شهد السياق الجيوسياسي الإقليمي والدولي خلال السنوات الأربع الأخيرة تحولات جذرية، أبرزها اندلاع الحرب في أوكرانيا، وتصاعد الحرب في غزة، وظهور أزمات حادة في مجالي الغذاء والطاقة، ما دفع الدول الكبرى، خاصة الغربية، إلى إعادة ترتيب أولوياتها الأمنية والاقتصادية. في المقابل، عززت قوى إقليمية كبرى حضورها على الساحة: تركيا في ليبيا، مصر في شرق المتوسط، ودول الخليج في العمق الأفريقي، بينما انسحبت تونس تدريجيا من المشهد، وفقدت موقعها الإستراتيجي ودورها الإقليمي الذي كان يمكن أن تستثمره في هذا السياق المتحول. في خضم هذا التراجع، حاولت السلطة التونسية منذ 2021 كسر العزلة الدولية المتزايدة، بعد تدهور علاقاتها مع شركائها التقليديين، لا سيما الأوروبيين، عبر الانفتاح على قوى غير تقليدية مثل روسيا، الصين، بعض دول الخليج، وعدد من الدول الأفريقية. غير أن هذه المحاولات، رغم زخم التصريحات السياسية المصاحبة لها، لم تفضِ إلى نتائج ملموسة أو تحولات إستراتيجية حقيقية في علاقات تونس الدولية. فالانفتاح على روسيا والصين بقي حبيس المجاملات الدبلوماسية دون أن يترجم إلى مشاريع استثمارية، أو تعاون تنموي فعلي، في ظل محدودية التبادل التجاري، وغياب شراكات تقنية أو اقتصادية ذات أثر واقعي. أما فيما يتعلق بدول الخليج، فقد راهنت تونس داخليا على تدفق دعم مالي يعوض تراجع التمويل الغربي، لكن تلك الدول تبنت سياسة تريث ولم تقدم سوى مساعدات محدودة، مشيرة إلى غياب رؤية اقتصادية واضحة، واستمرار الغموض السياسي والمؤسساتي في البلاد، ما يضعف جاذبية الاستثمار. وعلى صعيد الانفتاح نحو أفريقيا جنوب الصحراء، ورغم الخطاب الرسمي المتكرر عن أهمية هذا التوجه، ظل المسار بلا مضمون فعلي، في ظل غياب إستراتيجية مدروسة، ونقص الإرادة السياسية، وافتقار البنية التحتية والمؤسساتية الكفيلة بتحويله إلى واقع ملموس. وفي ظل تعثر هذه البدائل، يظل الاتحاد الأوروبي، رغم فتور العلاقة السياسية، الشريكَ التجاري والاقتصادي الأول لتونس، إذ تتجاوز نسبة المبادلات معه 70%. هذا الواقع يبرز صعوبة تعويضه في المدى القريب، سواء من حيث حجم السوق، أو آليات التمويل، أو الدعم المؤسسي، ما يعكس التحدي الحقيقي الذي تواجهه تونس في رسم سياسة خارجية متوازنة وفاعلة في سياق دولي متغير. الجزائر: الداعم الأقرب.. والارتهان الأوضح في هذا المشهد المعقد، برزت الجزائر كداعم أبرز لمسار قيس سعيد. قدمت مساعدات مالية غير معلنة، وسهلت تنسيقا أمنيا واسعا عبر الحدود. ترى الجزائر في تونس عمقا إستراتيجيا لها، وتسعى إلى ضمان استقرارها السياسي، حتى على حساب التعددية أو حقوق الإنسان. لم تعارض الجزائر انتهاكات حقوق الإنسان في تونس، بل دافعت عنها دبلوماسيا في المحافل القارية. وهذا التحالف، رغم ضرورته من الناحية الظرفية، جعل تونس رهينة لتوازنات الجوار ومصالحه، وقلص من قدرتها على المناورة الخارجية، خاصة في الملفات الحساسة مثل ليبيا، والصحراء الغربية. لم يكن هذا الدعم الجزائري دون ثمن، فقد بدا واضحا أن السلطة التونسية أصبحت أكثر ارتهانا للقرار الجزائري، وهو ما أثار نقاشا داخليا حول فقدان الاستقلالية الإستراتيجية. تجنبت تونس إبداء أي موقف مستقل في القضايا المغاربية الحساسة، مثل الملف الليبي، أو قضية الصحراء الغربية، ما عزز الانطباع بأن سياستها الخارجية باتت مرهونة بالخط الجزائري. تداعيات متعددة وكلفة عالية على المستوى الاقتصادي، أدى انسحاب الدعم الخارجي، وتراجع الاستثمار إلى تفاقم العجز في الميزانية، وارتفاع غير مسبوق في نسب التضخم، وتراجع حاد في قيمة الدينار التونسي. كما أصبحت الدولة عاجزة عن تغطية حاجياتها من الواردات الأساسية، ما أثر على أسعار المواد الغذائية والطاقة. إلى جانب ذلك، تعطلت المشاريع الكبرى، وتوقفت أغلب برامج التنمية المحلية، نتيجة غياب التمويل. أما من الناحية الاجتماعية، فقد انعكس هذا الوضع على حياة المواطنين بشكل مباشر. ارتفعت الأسعار بشكل جنوني، تراجعت جودة الخدمات العمومية في مجالات التعليم والصحة والنقل، وتزايدت الإضرابات في العديد من القطاعات الحيوية. وقد ولد هذا الوضع شعورا عاما بالإحباط واليأس، خاصة في أوساط الشباب، ما دفع الآلاف منهم إلى ركوب "قوارب الموت"؛ بحثا عن فرصة للحياة خارج البلاد. دبلوماسيا، أدى هذا الانكماش إلى تراجع وزن تونس الدولي، وفقدانها القدرة على التأثير، أو حتى الحضور الرمزي في العديد من الملفات الإقليمية والدولية. فقد غابت عن معظم المؤتمرات والقمم الكبرى، ولم تعد طرفا فاعلا في الملفات الإستراتيجية للمنطقة، سواء في شمال أفريقيا أو حوض المتوسط. صورة دولة تهدر مكانتها ساهمت كل هذه العوامل: الاقتصادية، والاجتماعية، والدبلوماسية، في ترسيخ صورة تونس كدولة منهكة، فاقدة للبوصلة، تسير نحو المجهول وسط حالة من الغموض السياسي والتفكك المؤسساتي. فمع غياب أي رؤية إصلاحية واضحة، ورفض السلطة أي شكل من أشكال الحوار، وافتقار الإدارة إلى الكفاءة والقدرة على التسيير، تتجه البلاد نحو تآكل داخلي يعمق أزمتها يوما بعد يوم. فقد بقيت محاولات الانفتاح على شركاء جدد في حدود الشعارات، بينما الكلفة الحقيقية هي مزيد من العزلة، وخسارة ثقة الخارج، وتآكل الثقة في الداخل. وكل ذلك يعزز الشعور بأن تونس لا تبحث فعليا عن حلول، بقدر ما تراهن على الوقت وتآكل الضغط الدولي، دون إدراك أن الثمن قد يكون باهظا، على كل المستويات. أزمة ظرفية أم عزلة دائمة؟ في ظل تعقد المشهدين الداخلي والخارجي، تقف تونس اليوم أمام تحدٍّ حقيقي يتمثل في تحقيق توازن دقيق بين الحفاظ على سيادتها الوطنية، والانفتاح على شركاء الخارج. فالعزلة التي تعيشها البلاد ليست قدرا محتوما، بل نتيجة أزمة سياسية داخلية لم تعالج بعد، وهو ما يجعل استعادة الثقة الخارجية رهينة بتحقيق شرعية داخلية متينة، ومؤسسات فاعلة، واقتصاد مستقر. ولا يمكن لأي سياسة خارجية أن تنجح أو تقنع العالم بشراكتها إذا استمر الاضطراب الداخلي، وغياب الحوكمة الرشيدة. إن مراجعة السياسة الخارجية لتونس يجب أن تنطلق من براغماتية واضحة تعيد التوازن إلى علاقاتها التقليدية، خصوصا مع الاتحاد الأوروبي، دون التفريط في القرار الوطني. ويبقى السؤال مفتوحا: هل تدرك السلطة أن المراهنة على الوقت وحده لن تخرج البلاد من عزلتها، وأن تونس بحاجة فعلية إلى إصلاح داخلي جذري يمهد لانفتاح مدروس يعيدها إلى الخارطة الدولية بثقة وثبات؟