عبد الله الدامون لا يزال المغاربة يتذكرون العبارة الشهيرة لرئيس الحكومة الأسبق، عبد الإله بنكيران، التي رفع فيها الراية البيضاء أمام خليط من لوبيات الفساد وقال جملته الشهيرة "عفا الله عما سلف"..! وفي النهاية لا نعرف حتى الآن فوائد أو فيتامينات تلك العبارة السريالية التي ظلت عالقة بأذهان المغاربة كواحدة من براهين استئساد الفساد. بعدها ذهب بنكيران وبقي الذين "عفا عنهم" يفعلون ما يشاؤون، ومرت مياه كثيرة من تحت الجسر، حتى قرر وزير الداخلية، عبد الوافي لفتيت، أن يعرض أمامنا النسخة الثانية، أو الجزء الثاني من فيلم "عفا الله عما سلف".. لكن بعناوين مغايرة. وزير الداخلية قال قبل أيام إن الدولة لن تتسامح مع ناهبي المال العام والعقارات، وأنه سيتم الوصول معهم إلى "خزّيتْ"، وانتهى الضجيج سريعا، وبعدها اعتقد الجميع أن هذا التصريح قد يكون مجرد "خطأ مطبعي" في بلد يعتبر الشخصية الرئيسية في رواية "زمن الأخطاء". وبعد أن كاد المغاربة ينسون "خزّيت"، لأنه صعب عليهم إعرابها، سواء في إطار جملة أو لوحدها، عاد عبد الوافي لفتيت مجددا وأطلق وعيدا جديدا، و هذه المرة ضد من اعتبرهم المشبوهين الذين ينوون الترشح للانتخابات البرلمانية المقبلة. من الناحية العملية فإن لفتيت حر في قول أي شيء، فالكلام بالمجان، كما أن المغاربة أحرار في أن يصدقوا أو لا يصدقوا، وأصعب شيء في هذه المرحلة هو هذه الثقة المهتزة بشكل فظيع بين الدولة والمجتمع. ما قاله لفتيت مؤخرا، بقدر ما اعتبره البعض إشارة تفاؤل وبداية لحزم الدولة في التعامل مع بؤر الفساد والمفسدين، فإن الفهم الأكثر عقلانية لهذه التصريحات "البنكيرانية" هو أن الدولة لا تزال عاجزة عن المقاومة الفعلية للفساد، وأنه في كل مرة يكبر عليها الموج، تتوعد المفسدين، أو تطلب منهم الرجوع إلى جادة الصواب، لو استطاعوا.. وكفى الله المؤمنين القتال..! لماذا إذن نعيب على بنكيران عبارته الشهيرة "عفا الله عما السلف" إذا كانت التصريحات الأخيرة للوزير لفتيت تحمل الشعور الرسمي والشعبي بالخذلان أمام الفساد، لأنه عندما تطلب الداخلية، التي لا تزال فعلا أم الوزارات، من الفاسدين إعادة ما نهبوه، أو تطلب منه الابتعاد طوعا عن الترشح في الانتخابات، فهذا يعني، بكل ما في الكلمة من معنى، بأن الدولة لا تزال عاجزة عن تفعيل آلية المحاسبة ضد الفساد، وأن كل ما تستطيع فعله أمام هذا الجيش العرمرم من الناهبين هو محاولة إقناعهم بإرجاع بعض ما نهبوه، أو الابتعاد طوعا، ثم كرها لو رفضوا، عن الانتخابات المقبلة.. وبطبيعة الحال فإننا لا نعرف، حتى الآن معنى "كرها".. وقد يكون معناها دفعهم، بلطف، من أجل الابتعاد. الوزير لفتيت قد يعتقد أنه أطلق تصريحات مزلزلة ستجعل النوم يجافي عيون الفاسدين، لكن الحقيقة أن أي لص أو ناهب سيحس بالكثير من الطمأنينة وهو يرى هذه النصائح المهادنة تطلب منه الابتعاد عن البرلمان، فقط لا غير، أو إعادة بعض ما تم نهبه، ولا شيء غير ذلك. كنا نتمنى لو أن البلد سار بعيدا جدا في تفعيل مبدأ المحاسبة والعقاب، لكننا لا نزال نتهجى الحروف أمام غول الفساد، ولا يزال صاحب أقوى الوزارات يقول كلاما بالليل يمحوه النهار.. ولا يزال المغاربة لا يعرفون في أي زمن يعيشون، هل في زمن بنكيران و"عفا الله عما سلف".. أم في زمن لفتيت ومطالبته الفاسدين بالابتعاد.. ولو قليلا..! هناك مشكلة فعلا.. مشكلة كبيرة جدا، ونكرر ما نقوله دائما.. وهو أنه لم يثبت أبدا أن حقق بلد تنمية حقيقية وهو يسير جنبا إلى جنب مع الفساد... وإذا حاول أحد إقناعكم بأن ذلك حدث يوما.. فلن يكون سوى في فيلم هندي. المهم أننا ننتظر وعيدا جديدا من لفتيت في مقبل الأيام..!