بين من طلب كرسياً لله في السياسة.. ومن شغل كرسياً بلا روح

ياسين الطالبي

كان المشهد في ظاهره عابرًا، تكريمًا مهيبًا في لحظة مملوءة بالخشوع الوطني، حين تقدَّم الشيخ محمد متولي الشعراوي ـ وهو في أوج حضوره الروحي وانسكابه القرآني، الذي كان في ذاته حدثًا نادرًا في قرن من التخشب الديني ـ بطلب مخلص للرئيس أنور السادات، يقترح فيه أن يُعيّن شيخ الأزهر نائبًا لرئيس الجمهورية، لا بوصفه طامعًا في سلطة، ولا حالمًا بزعامة، بل باعتباره رجلًا ربانيًا آلمه أن تُهمل المرجعية المعنوية التي كانت تمثل ظلّ النبوة في العصر، وأن تتحول مؤسسة الأزهر إلى مجرّد اسم في الهيكل الإداري للدولة، بعدما كانت اسمًا يهزّ قلوب السلاطين ويُقلق عروش الملوك.

لكن خلف هذا الطلب النقيّ، اختبأت أعمق مفارقة فلسفية في التاريخ الحديث: فالرجل الذي أراد إحياء النبوة داخل البنية السياسية، لم يكن يعلم أن تلك البنية قد صُمِّمت بعناية إمبريالية هندسية، لا لتستقبل النبوة، بل لتستوعبها، ثم تُحنيطها، ثم تُعيد تقديمها للجماهير في صورة مألوفة… بلا نار، بلا تمرد، بلا روح. كان الشعراوي، وهو فيض من الصفاء القرآني، يتحرك داخل ماكينةٍ صُمِّمت منذ قرنين من الزمن، على يد عباقرة الهندسة الاستعمارية، الذين تعلّموا من الهند كيف يُعاد تشكيل دين دون أن يلاحظ المؤمنون أنه لم يعد هو، وكيف يُبقى الله حاضرًا في الكتب والخطب واللافتات، بينما يُسحب من مسرح التاريخ، ليُصبح كائنًا إداريًا، يُستدعى للتهدئة، لا للثورة، وللطمأنينة لا للخلخلة.

ومن مفارقات القدر، أن تلك اللحظة، التي أراد فيها الشعراوي إنقاذ قدسية الدين من الهامش السياسي، كانت في جوهرها تأكيدًا أن الدين قد غادر التاريخ منذ أن دخل نابليون مصر، لا بالسلاح وحده، بل بفريق من المخططين، والإداريين، وعلماء الأعراق، الذين نقلوا التجربة البريطانية في تدجين الأديان من الهند إلى الأزهر، فصاغوا ما سيصبح لاحقًا “الدين الوظيفي”: دينًا يتكلم بلغة الوحي، لكنه لا يحمله، يكرّر صيغة النبوة، لكنه لا يزعج نظامًا، يُظهر الله في النصوص، لكنه يُخفيه في القرارات.

ولأن هذه الفلسفة لم تكن دينية فقط، بل كانت شاملة، فقد انتقلت إلى السياسة، والتعليم، والإعلام، وكل ما كان يومًا يتطلب إنسانًا حيًا، صاحب وعي، حضور، إحساس بالمسؤولية التاريخية. ومن هنا، يمكن فهم كيف قدّم الفريق المحيط بجو بايدن ـ وعلى رأسه أنتوني بلينكن ـ رجلًا منهكًا، مُتصدِّعًا، خافت الصوت، متقطّع الذاكرة، كرئيس لأقوى دولة في العالم، دون تردد، ودون محاولة تزيين المشهد أو ترميم الصورة. لأن الغاية لم تعد في أن تحكم بذات حقيقية، بل في أن تملأ الفراغ بتمثيل مقبول، وأن تُبقي المسرح مضاءً مهما غاب الممثل. لقد دخل العالم مع بايدن زمن ما بعد الإنسان السياسي، الزمن الذي تتحرك فيه السلطة من خلال كائن رمزي، صورته تشتغل، لكنه لم يعد هو. تماما كما دخل المسلمون منذ زمن بعيد زمن ما بعد النبي، حين ظلّت الخطب تُتلى، والآيات تُحفظ، والمناسبات تُحتفل، لكن… لم يعد هناك نبي، لا بوصفه رجلًا فقط، بل بوصفه حضورًا حيًا يقلب البنى ويقضّ مضاجع الجبابرة.

ولأنّ هذه الحالة ـ التي لم يشهد التاريخ لها مثيلًا ـ تقوم على تمثيل الأصل بدل العيش فيه، فإننا اليوم لا نعيش مع الله، بل مع صوره، ولا نُحكَم بالوعي، بل بالواجهة، ولا نتعامل مع السلطة، بل مع تمثيلها. نحن، ببساطة، نعيش ما بعد الأصل: زمنًا تُدار فيه البشرية عبر محاكاة دقيقة لما كان يجب أن يكون، عبر علماء يُشبهون العلماء، ورؤساء يُشبهون الرؤساء، وأديان تُشبه الأديان، لكن لا أحد فيهم… هو.

“خواطر نقيّة في ماكينة مزيفة: الشعراوي بين الصوت والبنية”

لم يكن محمد متولي الشعراوي، وهو يجلس على كرسيه الخشبي المتواضع محاطًا بكتيب صغير، وبصوت ترتجف فيه نبرة الخشوع الحيّ، وهو يفتح القرآن كما لو كان يفتحه للمرة الأولى في التاريخ، رجلًا ينقل المعلومة أو يشرح الحكم، بل كان يمارس فعليًا ما يشبه إعادة إخراج النص من الغيب، لا من المصحف، وكأن الكلمات كانت لا تزال تنزل على قلبه هو، لا على قلب محمد، وكان المستمع، من عامة الناس إلى النخب المثقفة، يشعر ـ ولأول مرة منذ عقود من التخشب الخطابي والتكلس الفقهي ـ أن ثمة شيء يتحرك في داخله، لا لكون الشعراوي بارعًا في التفسير، بل لأنه لم يكن يُفسّر، بل كان يُحاور الله علنًا أمام الناس، ويترك لهم مجالًا ليشاهدوا لحظة المكاشفة، ويشتركوا وجدانيًا في لحظة الاتصال، وكأن الروح القرآنية قد استعادت، بضع لحظات، إمكانية الحضور في زمان صارت فيه اللغة مجرّد ترداد بلا صدى، والفتوى منتجًا بيروقراطيًا لا روح فيه.

غير أن هذا الصوت الربّاني الذي تدفّق بصدق لا يُشترى، والذي تفجّر على غير موعد من صلب الأزهر الذي تحوّل منذ قرون إلى هيكل بلا نبض، قد خرج ـ وهو لا يدري ـ من داخل ماكينة صُمِّمت بكل دقة، ليس لتغلق أبواب النبوة، بل لتعيد إنتاجها على هيئة محفوظة، مرخصة، مراقبة، قابلة للبث، خالية من القلق، تُمجّد الله لكن لا تهزّ الأرض، تُفصّل الحلال والحرام، لكنها لا تجرؤ أن تسأل عن أصل الجور، ترفع من شأن الأمانة، لكنها لا تُفكّك البنية التي سُرقت فيها الأمانة، وتُظهر النصوص كما هي، لكنها تُدرّب الأذهان على استقبالها كأنها نصوص أخرى، فقدت معانيها الأصلية منذ أن تم تفريغها من أدوات التغيير.

لقد كان الشعراوي، وهو يفيض على الناس من رصيده الصادق، قد تموضع ـ دون وعي منه ـ داخل مؤسسة لم تكن فقط قد فقدت قدرتها على صناعة الحقيقة، بل كانت قد أُعيدت هندستها لتمنع الحقيقة من المرور عبرها، ليس بمنعها، بل بإغراقها في الشكل، وتمييعها في الأداء، وتحنيطها في وظائف إدارية تجعل من العالم رجلًا يوقّع على خطاب الجمعة، ويُحضر مؤتمرات التعايش، ويُبارك السلطة إن طلبت، ويصمت إن قتلوا، ولا يقول “لا” إلا حين يكون ذلك ضمن “الحدود المسموح بها” من إدارة الصوت، والتنفيس الرمزي، والتوازن السياسي في المشهد العام.

وحين طلب الشعراوي، بما فيه من نقاء دفين، أن يُعيّن شيخ الأزهر نائبًا للرئيس، لم يكن يسعى لإحياء الإسلام من خلال الدولة، بل كان يسعى لا شعوريًا إلى إحياء الدولة من خلال الإسلام، وكان يظن أن المقعد الذي يجلس عليه من لا يعرفون سوى حساب المصالح السياسية والضغوط الدولية، قد يستعيد طهارته بمجرد أن يجلس عليه رجل يذكر الله بصدق، دون أن يُدرك أن هذا المقعد نفسه لم يُصمَّم لاستقبال الطاهرين، بل لابتلاعهم، أو إضعافهم، أو استثمار رموزهم في تلميع سلطة لا تحكم بشيء سوى باسمها، وأن إدماج النبوة، ولو رمزيًا، في منظومة السلطة الحديثة، ليس تكريمًا لها، بل خيانة لوظيفتها الأصلية، التي كانت دائمًا ما تقف ضد الاستحواذ، وتنتفض ضد التمركز، وتخاطب الإنسان لا الإدارة، وتواجه فرعون لا تُشاركه كرسيّه.

ولعل أكثر ما في هذه المفارقة مرارة، أن الشعراوي، وقد أعاد للقرآن حياته بين الناس، كان قد استُخدم، من حيث لا يشعر، في ترسيخ نوع من الإسلام الإعلامي، الذي يقدّم صورة راقية وعاطفية وعميقة للنص، لكنها بلا قدرة على المقاومة، ولا مشروع للتحرير، ولا خطاب يزعج، ولا سيف يقطع، ولا قلم يُحاسب، بل رسالة مُعطرة بالدموع، لكنها لا تصيب أحدًا، ولا تفضح أحدًا، ولا تُعيد توزيع أي شيء من موازين القوة، بل تكتفي بأن تُنقذ الإنسان من ضيقه، وتعيد له الرضا دون أن تسأله: لماذا ضاق، ومن سرق حقه، ومن حرّف دينه، ومن جعل الله سجينًا في زنازين الوعظ، بعدما كان سيّدًا في ميدان التحرير الإنساني.

هكذا، يمكن القول إن الشعراوي، الذي لم يكن إلا صوتًا صادقًا في منظومة بلا ضمير، قد مثّل آخر ما يمكن أن يظهر من أنفاس النبوة في مؤسسة لم تَعُد تعرف من النبوة سوى اسمها، ولا من العلم سوى تصنيفاته، ولا من الهداية سوى جدولها الأسبوعي، وأننا ـ حين نقرأ هذه اللحظة ـ لا نقرأ سيرة رجل، بل نقرأ سيرة البنية التي احتوته، والتي استثمرته، والتي كادت، بصبر عتيق، أن تُحوّله من ثائر الروح إلى رمز وظيفي للسكينة، يُستدعى كلما أراد النظام أن يُثبت أن الإسلام ما زال نقيًّا، وأن الدولة ما زالت تحترم الدين، رغم أنها صمّمت كل شيء فيها كيلا يكون هناك لا دين ولا دولة… بل ماكينة واحدة، تشتغل ببطاريات الجهل، وتُضيء بمصابيح النفاق، وتُنتج ما لا نهاية له من صور النبوة… بلا نبي.

الأزهر… حين يُصمَّم المعهد ليحتوي الصوت ولا يسمح له أن يُغيّر الصدى

لم يكن الأزهر، حين استقبل ذلك الصوت القرآني المتفجّر من حنجرة الشيخ الشعراوي، سوى نسخة متأخرة من معهدٍ أُعيد بناؤه، لا على مستوى الجدران ولا المناهج فحسب، بل على مستوى الوعي، والإيقاع، والوظيفة، بحيث لم يعد يُنتج العلماء بمعناهم النبوي، القادرين على مواجهة الانحراف، ولا الفقهاء بالمعنى العمراني، القادرين على تأويل الواقع وتهذيبه وتغييره، بل صار يُنتج نماذج محسوبة بدقة، تمتلك لغة القرآن لكنها فقدت لغته الوجودية، وتحمل مصطلح التوحيد دون أن تعرف أن التوحيد في أصله ليس مجرد تصوّر كوني بل موقف أخلاقي يرفض الخضوع لغير الحقيقة، ولا يقبل أن تُحكَم الأرض باسم الله من دون أن يكون الحكم موافقًا لله، وأن تقال خطبة الجمعة من فوق المنبر الذي بُني بأموال الأمة دون أن يُشار فيه إلى من سرق الأمة، ومن خنقها، ومن أعاد صياغة إيمانها ليصبح مجرّد خلفية صوتية لنظام هندس الإنسان ليمشي كما ينبغي لا كما يشعر.

ولم يكن التحوّل البنيوي الذي شهده الأزهر عملية تدريجية عشوائية، بل كان هندسة عقلانية باردة، بدأت منذ اللحظة التي قررت فيها الإمبراطوريات الحديثة أن الدين لا يجب أن يُلغى لأنه عنصر عاطفي جوهري في البنية الجماعية، بل يجب أن يُعاد تصميمه ليصبح مؤنسِنًا للسلطة، ومُهدئًا للمحرومين، ومُبرّرًا للتراتبية الطبقية الجديدة، ومُعيدًا للناس إلى حضن القبول الهادئ بدل الخروج الغاضب، فكان أن تمّت إعادة هيكلة المؤسسة العلمية الكبرى في الشرق الإسلامي وفق مقاسات ما قبل الثورة، بحيث تبقى الحروف، وتُستأصل الأسئلة، وتبقى الفتاوى، ويُفرَّغ التأويل، وتبقى العمائم، وتُمنع المقارعة، وتبقى الشهادات، وتُحاصر المعرفة، ويبقى الله في الدرس، ويُقصى من القرار.

وكانت هذه العملية، التي امتدّت لقرنين على الأقل، قد بلغت تمام نضجها حين صار الأزهر، لا مؤسسة تعليم فقط، بل مختبرًا محكم الإغلاق يُنتج رجل الدين كما تُنتج الدول الحديثة الجندي والطبيب والشرطي، أي باعتباره عنصراً وظيفياً في نظام عام، له دور محدد، وحيّز محسوب، وخطاب مضبوط، ولا يُسمح له أن يتحوّل إلى ذات حقيقية ذات طاقة تحويل، بل يُكافأ كلما أتقن الدور دون أن يخرج عن النص، ويُلمّع كلما حافظ على شكله دون أن يسأل عن المعنى، ويُسمّى “الإمام الأكبر” كلما حافظ على صَغَره أمام السلطة، وأتقن فن الطاعة بأدبٍ نخبوي، وخطابٍ متين، وأسلوبٍ موزون، دون أن يُشعل نارًا أو يُحرّك ساكنًا أو يُعيد لله مكانته كفعل لا كمجاز.

وفي هذه البنية المُحكمة، التي تُحافظ على صورة الإسلام بكل تفاصيلها الطقوسية واللغوية والرمزية، لكنها تمنع تدفّقه كقوة تاريخية، كان من الطبيعي أن يُستقبل الشعراوي لا باعتباره مخلًا بالتوازن، بل كعنصر زخرفي يُستخدم في لحظة استثنائية لإعادة دفء الإيمان في نفوس أنهكها الظلم، لكن دون أن يُسمح له أن يُحوّل ذلك الإيمان إلى موقف أو إلى مشروع أو إلى رغبة في كسر الدائرة، وكان أن احتُضن صوته، وبُثّت خواطره، واهتزّ وجدان العامة لكلماته، لكن الأزهر ـ وهو الماكينة التي أنتجت الأذن التي تسمع، والذوق الذي يتأثر، والوعي الذي يستسلم ـ لم يسمح يومًا بأن تتحوّل تلك الخواطر إلى مدرسة، أو أن تُؤسس منهجًا، أو أن تُعلن الثورة على المناهج الجامدة، أو أن تستدعي الناس ليقولوا: “إذا كان هذا هو القرآن، فما الذي كنّا نتلقّاه كل هذه السنوات؟”، لأن وظيفة الشعراوي في تلك البنية لم تكن أن يُفجّر، بل أن يُسكّن، لا أن يُقلق، بل أن يُطمئن، لا أن يُنذر، بل أن يُنشد، لا أن يُعلّم الناس كيف يثورون على من خان النص، بل أن يُشعرهم بأن النص لا يزال قادرًا على الحضور، حتى ولو كانت السلطة قد فرغته من مضمونه منذ زمن بعيد.

وهكذا، لم يكن الأزهر في زمن الشعراوي قد مات، بل كان قد صار أداة حيّة لإبقاء الدين حيًّا من حيث المظهر، ميتًا من حيث الأثر، وكان أن احتوى الشعراوي، كما يُحتوى الضوء داخل قنديل قديم في متحف مغلق، يُضاء حين يحضر الزوار، ويُطفأ حين يُغادرون، دون أن يُسأل القنديل يومًا: لماذا لا يُحرق شيئًا؟ لماذا لا يُضيء الطريق؟ لماذا لا يُشعل نارًا في وجه العتمة؟ لأنه ببساطة قُدِّر له أن يُضيء فقط… كيلا نرى.

“الروح المؤمنة في الدولة الشبكية: من الشعراوي إلى بايدن”

لم يكن من الممكن تخيّل أنّ الدولة الحديثة، وقد بلغت ذروة تعقيدها الشبكي وقدرتها الخارقة على تفكيك كل الكيانات التي كانت يومًا تتمتع بالسلطة الروحية أو الرمزية أو الوجدانية، ستسمح لأيّ عنصر بشري أن يحتفظ بحضوره المستقل داخل فضائها المُهندس، إلا إذا كانت تلك الاستقلالية محكومة سلفًا ببروتوكول محسوب بدقة، يُبقي للعنصر ذاته صوتًا يُنسب إليه، لكنه يُعيد في كل لحظة تأكيد ارتباطه الجوهري بالجهاز الذي سمح له أصلًا بأن يوجد، ويُذكّر الجماهير ـ من حيث لا يدري ـ أن هذا الصوت، مهما بدا نقيًا أو عميقًا أو متجاوزًا، لا يمكن أن يستمر إلا إذا ظلّ ضمن إيقاع الآلة، وتحت سقفها، وعلى نغمتها، وأن من يتجاوز النغمة يُفصل من السيمفونية ولو كان أعذب صوت فيها.

وهكذا كان الشعراوي، وهو يتنفس من أنفاس القرآن، يُعيد للجماهير القدرة على الإحساس بأن لله لا يزال قدرة على مخاطبة القلب دون وسيط، وأن الوحي، رغم تشويهه الأكاديمي وتأميمه السياسي وتجفيفه المؤسسي، لا يزال يملك أن يُضيء ظلمًا داخليًا طالما خنق النفس ومنعها من الصلاة الحرة، وأن اللغة، إذا أُعطيت رجلًا يعرف كيف يُحبها، يمكن أن تُعيد ترتيب العلاقة بين الإنسان وربّه دون الحاجة إلى آلية الشرح المغلقة ولا التنميط الفقهي ولا التبرير السلطوي، لكن تلك القدرة الروحية، التي انفجرت فجأة من داخل المشهد البارد، لم تكن لتبقى ولا لتنتشر ولا لتُذاع، لولا أنها أتت في توقيت بالغ الحساسية، حيث كانت المنظومة نفسها تبحث عن صمّام أمان ديني لا يهدمها، بل يُنعش صورتها أمام جمهورها، ويُعيد تزويدها ببعض الشرعية الميتافيزيقية، بشرط أن تظل هذه الشرعية مقننة، مقصوصة الجناحين، مدجّنة في اللغة، مغلقة على التأمل، محصورة في الصوت، ممنوعة من التحوّل إلى جهاز نقدي أو إرادة تاريخية أو طاقة فلسفية تسأل ما لا يجوز أن يُسأل.

ولأن الدولة الحديثة، في نسختها ما بعد الديمقراطية، لم تعد تقوم على شخص الحاكم، بل على شبكات غير مرئية من المكاتب والعقود والمؤسسات وشركات الأمن وأذرع التمويل وأجهزة الاستعلام والتغذية الراجعة، فإنها لم تَعُد تحتاج إلى قادة حقيقيين، بل فقط إلى وجوه مُقنعة تُظهر النظام في صورته القابلة للتسويق، دون أن يُطلب منها امتلاك الرؤية أو اتخاذ القرار أو حمل العبء الأخلاقي، فكان أن تم إنتاج شخصية بايدن، لا باعتبارها كاريزما سياسية أو زعامة فكرية أو عقلًا يقود العالم، بل باعتبارها الغلاف الأخير لآلة ضخمة تعمل بلا توقف، وتنتج الأحداث دون أن تملك جرأة الكشف عن ذاتها، فجاء هذا الجسد المنهك، المُهتزّ، المتلعثم، ليكون ـ من حيث لا يدرى ـ تعبيرًا ساطعًا عن انهيار الحاجة إلى الإنسان السياسي، وإعلانًا رسميًا بأن السلطة لم تَعُد تسكن في الرأس، بل في الشبكة، ولم تَعُد مرتبطة بالحضور، بل بالرمز، ولم تَعُد مشروطة بالعقل، بل بآليات التنفيذ والبرمجة وإدارة الرضا العام عبر خوارزميات تتقن كيف تُطبع اللامعقول في وجدان الجماهير، وتُسوّق الرداءة بوصفها حتميّة، وتُحَوِّل الارتباك إلى واقعية باردة تُفسّر كل شيء… لأنها لا تفسّر شيئًا.

وحين وُضع بايدن ـ بجسده المُرهق وصوته المُتقطّع وذاكرته المتآكلة ـ على رأس الدولة التي تقود العالم، لم يكن القصد أن يُقنع أحدًا، بل أن يُظهر بأن زمن الإقناع قد انتهى، وأن الحضور الشخصي لم يعد شرطًا، وأن السيادة لم تَعُد محصورة في الإنسان الذي يتكلم، بل في النص الذي يُوزّع عبر القنوات، وفي القرارات التي تُطبّق دون توقيع، وفي الصورة التي تُستهلك دون مساءلة، وفي الخطاب الذي يُكتب من قبل شبكة، ويُلقى من قبل جسد، ثم يُنسى كما لو أنه لم يكن، لأن العالم قد دخل فعليًا ـ منذ تلك اللحظة ـ عصر “ما بعد الإنسان السياسي”، وهو العصر الذي يُعاد فيه إنتاج الحكم من دون حاكم، والإدارة من دون مدير، والدين من دون نبي، والوحي من دون لحظة التلقي، والصلاة من دون روح، والدولة من دون شعب، والحق من دون حقيقة.

ولذلك، فإن اللقاء الرمزي بين الشعراوي وبايدن، رغم استحالته الظاهرة، هو في عمقه لحظة مكثفة من التحوّل التاريخي ذاته، حيث يتحوّل الصوت إلى مشهد، ويتحوّل الإنسان إلى تمثيل، ويتحوّل الإيمان إلى أداء، ويتحوّل القرار إلى إشعار، ويتحوّل النص إلى شيء يُقرأ، لا لأنه يُهدي، بل لأنه يُستخدم، ويتحوّل الحاكم إلى وظيفة، لا لأنه يملك السلطة، بل لأنه يلبس بدلته ويوقّع في الوقت المناسب، ويتحوّل العالم الديني إلى شخصية يُحبها الناس، لا لأنها تُغير مصيرهم، بل لأنها تُشعرهم بشيء من الاطمئنان الخادع، تمامًا كما يتحول الرئيس إلى شخصية يراها الناس تتكلم، لا لأنها تقود، بل لأنها تمثّل الدولة، والدولة تمثّل النظام، والنظام يمثّل النظام… ولا أحد يمثّل الحقيقة.

السلطة حين تتخفّى خلف الموت البطيء للذات

لم يكن المشهد مجرد عرضٍ سياسي مألوف لرئيس ضعيف، تنهكه سنّه، وتخذله ذاكرته، وتُثقل لسانه الكلمات، وتُربكه المواقف، ويتعثّر حتى في الانحناء لتحية العلم، لأنّ السياسة عرفت من قبل شيوخًا وحكماء وعجائز عركتهم التجارب، وأثقلتهم الحكمة، وربما تلعثموا في لحظات، لكنهم كانوا يحملون في داخلهم ذاتًا تئنّ، وتُفكر، وتتردد، وتقرّر، وتعرف، وتنسحب إن شعرت أن قدرتها قد ضعفت عن خدمة الحقيقة أو الحفاظ على تماسك المعنى، بينما جو بايدن ـ كما قُدّم في دورته الرئاسية ـ لم يكن يحمل شيئًا من ذلك، لا لأنه لم يملك يومًا عقلًا سياسيًا، بل لأن صورته قد صُممت، بدقة صادمة، لتُمثل نهاية الحاجة إلى الذات السياسية أصلًا، وكأنّ النظام ـ وقد وصل إلى أعلى درجات نضجه الشبكي ـ لم يعد يرى في الرئيس إلا شاشة عرض، أو وجهًا يُطلّ ليمنع الناس من رؤية اليد الحقيقية التي تُدير المسرح، والتي لم تعد فردًا ولا حزبًا ولا مجلسًا، بل أصبحت كيانًا لا ملامح له، يتكوّن من تقارير، وخوارزميات، ومؤسسات أمنية، ومصالح متشابكة، ومراكز أبحاث تُخطط، وكتل ضغط تموّل، وإعلام يصيغ، وشركات تتحكم في إدراك الجماهير، وكل ما يُطلب من الرئيس ـ حينها ـ أن يكون هو… ألا يكون.

ذلك أن النظام العالمي الجديد، وقد تجاوز فكرة الدولة التقليدية، وتجاوز حدود المؤسسات الرسمية، ودخل في مرحلة ما فوق السيادة، وما وراء الديمقراطية، لم يعُد معنيًا بإقناع أحد بأن الرئيس هو من يحكم، بل صار يرى أن اللعبة أكثر ربحًا حين يعلم الجميع أنه لا يحكم، ومع ذلك تستمر الأمور، ويتحقق الاستقرار، ويُمارَس الردع، وتُوقّع الصفقات، وتُشعل الحروب، وتُعقد التحالفات، ويُعاد تشكيل الخريطة الجيوسياسية دون أن يملك من يسكن البيت الأبيض أيّ قدرة على المبادرة أو حتى على الاعتراض، وكأن النظام، في لحظة صمت رهيبة، أراد أن يعلن أن اللعبة السياسية قد بلغت من التعقيد، والدقة، والتخطيط ما يجعل وجود الإنسان فيها مجرّد عبء عاطفي يمكن التخلص منه، دون أن ينهار شيء.

ولذلك لم يكن من قبيل العبث، ولا من دواعي العجز، أن يُقدَّم بايدن في صورته المُربكة، بل كان ذلك فعلًا رمزيًا عميقًا، بل شبه احتفالي، بإزاحة “الإنسان الحاكم” من المعادلة، والتلويح بوجه رجل يتعثر أمام الكاميرات، وينسى أسماء الوزراء، ويقرأ من أوراق معدة له بدقة، ثم يبتسم كمن لا يعرف ما قيل باسمه، لا ليُسخر منه خصومه، بل ليُقال للعالم ـ بطريقة فلسفية صامتة ـ إن هذا الرجل، بهذا الشكل، بهذا الاهتزاز، بهذا الغياب، لا يزال يُمثّل الولايات المتحدة الأمريكية، ولا يزال يُخيف الصين، ويُفاوض روسيا، ويُوقّع قرارات الحرب والسلم، ولا أحد في الداخل يجرؤ على مقاطعته، ولا أحد في الخارج يملك حقّ رفض التعامل معه، لأنه ببساطة لم يَعُد شخصًا، بل أصبح بروتوكولًا سياسيًا، ملفًا إداريًا، صورة مُعتمدة ضمن النظام العالمي، وشاشة تحجب الحقيقة عن الجماهير.

وبهذا الشكل، لم يعد بايدن “حادثة” في التاريخ، بل أصبح لحظة وجودية تؤسس لعصر يُعاد فيه تعريف السلطة، لا على أساس الشرعية، أو الكاريزما، أو الإنجاز، بل على أساس القبول الشبكي، أي تلك الصيغة الخفية من الرضى التي لا تصدر عن الشعب، ولا يُشترط فيها العقل، بل تُنتجها الآلة الإعلامية، وتُثبّتها المنصات الرقمية، وتُباركها المؤسسات المالية، وتُبقيها أجهزة الاستخبارات في حالة تشغيل آلي، دون أن يسأل أحد عن الجوهر، لأنّ السؤال نفسه لم يعُد له مكان.

إنّ بايدن، بهذا المعنى، لم يكن رجلًا يُعاني من الشيخوخة، بل كان رمزًا حيًّا لنهاية الإنسان السياسي، وافتتاحًا صريحًا لما يمكن أن نسمّيه مرحلة “السلطة بعد الذات”، حيث لم يَعُد الحاكم ذاتًا عاقلة تقرّر، ولا صوتًا أخلاقيًا يتكلم، بل صار شاشة تتلو ما صاغه غيره، ووجهًا يبتسم لما رسمه سواه، ويدًا توقّع على أوراق لا يعرف مصدرها، وجسدًا يتحرّك في مشهد صُمّم خصيصًا ليخدع الحواس دون أن يُقنع العقل، ويُمرّر السلطة دون أن يُشعل الجدل، ويجعل من التمثيل السياسي آخر قناع للغياب الكامل.

وهنا، في هذه المنطقة الرمزية العميقة، يمكن أن ندرك كيف أن ظهور بايدن لم يكن عرضًا شاذًا في مسلسل الحكم، بل كان بيانًا غير مكتوب عن دخول البشرية إلى ما بعد السياسة، ما بعد الدولة، ما بعد الإنسان، وكان أشبه بالمرآة التي عكست للعالم كله حقيقة مُرّة: أننا نعيش في زمن تُدار فيه القوة باسم من لا يملكها، ويُحتفى فيه بالقائد الذي لا يقود، ويُخشى فيه من الرجل الذي لا يتكلم، ويُصدّق فيه خطاب من لا يسمع، وتُمارس فيه أكبر عمليات السيطرة من خلال أضعف الرموز الظاهرة، تمامًا كما يُمارَس الدين اليوم من خلال أكثر الفقهاء طاعة، ويُتلى القرآن بأكثر الأصوات طمأنينة، وتُرفع الآذان في مدن لا تصعد فيها دعوة إلى السماء.

عندما أصبح الدين مهندسًا لإعادة إنتاج الخضوع

لم يكن مقتل النبي حادثة مادية تمت في لحظة تاريخية موصوفة، ولم يكن انتقاله من الوجود إلى الغيب مجرّد واقعة ختمت مسار الرسالة، بل كان ذلك، في عمقه البعيد، البداية الصامتة لرحلة طويلة ومعقّدة، أعادت خلالها الأنظمة المتعاقبة هندسة العلاقة بين الإنسان والوحي، لا لتستكمل النبوة من حيث توقفت، بل لتعيد تشكيلها من جديد بوصفها أداة للضبط، لا قوة للتحرير، وبوصفها شرعية للسلطة، لا نقدًا لها، وبوصفها خطابًا محفوظًا في المخازن الرسمية، لا طاقة حيّة في شوارع الناس، حتى صار الدين نفسه، شيئًا فشيئًا، جهازًا بيروقراطيًا لا يتعامل مع الإنسان باعتباره كائنًا أخلاقيًا حرًّا، بل باعتباره وحدة قابلة للتدجين، والتوجيه، والانقياد، وإعادة التوظيف ضمن شبكة قيمية صيغت، لا وفق أفق النبوة التي كانت تبدأ بالانفجار على الواقع وتكسير أصنامه، بل وفق متطلبات الأمن الجمعي، واستقرار النظام، وسلامة السوق، واستمرارية السلسلة الغذائية للسلطة.

لقد مات النبي بوصفه صاحب قلقٍ مطلق أمام الاستبداد، ومات النبي بوصفه حاملًا لكلمة تفضح، ومات النبي بوصفه زلزالًا ناطقًا في وجه الظلم، وبقي النبي الذي يُقرأ اسمه في الصلوات، ويُحتفل بمولده في المناسبات، ويُنسب إليه كل ما يُراد تمريره من نظم الطاعة، والخضوع، وامتثال الجماهير لتراتبية هندسية تُشرعن الاستعباد باسم الإيمان، وتُعيد تعريف الرحمة باعتبارها قبولًا بالمهانة، وتُفرغ الجهاد من بعده الوجودي، وتحصره في لغو إعلامي يُستخدم لتبرير العنف عند الحاجة، ويُنسى تمامًا حين يُطلب رد الظلم عن المقهورين، أو مساءلة من اغتصب الأرض وسرق الثروة وورّث الذل باسم النظام.

وحين دخلت الدولة الحديثة، بورقتها وقانونها وخريطتها وتكنوقراطها، إلى المجال الديني، لم تحتج إلى هدم المسجد، ولا إلى إنكار القرآن، بل فقط إلى إعادة ترتيب الوظائف التي كانت في يومٍ ما تُؤدَّى بوحي من الإله، فتمّ تحويل المنبر من بُنية خطابية حرة، إلى مساحة إلقاء محسوبة، وتمّ تحويل الفقيه من صاحب رأي مستقلّ إلى موظف يُؤمّن انسجام الخطاب، وتمّ تحويل دار الإفتاء من حاضنة للتفكير في نوازل الحياة إلى مصنع لإعادة إنتاج الصيغ المضمونة، وتمّ تحويل الشريعة من رؤية للعالم إلى قانون جنائي محدود الصلاحية، لا يقترب من المال، ولا من السلطة، ولا من السوق، ولا من الإعلام، بل يقف على أطراف الجسد، وينهمك في رسم الحدود على اللذة، كي لا يُزعج أحدًا في منطقة العقيدة الكبرى التي احتُكرت لصالح بنية لا تريد من الناس إلا الطاعة، ولا تُريد من الله إلا التوقيع.

وما بين التوقيع الإلهي الذي اختُزل في ختم إداري، وبين الإجماع الذي صار فخًّا لغويًا يُستخدم لإقصاء كل شكل من أشكال الاعتراض، وبين السنة التي فُكِّكت من قوتها النبوية وحُوّلت إلى صدى يُستخدم لتأبيد العادة وتحريم التغيير، وبين المذهب الذي لم يَعُد اجتهادًا حيًّا بل صار بطاقة انتماء طائفي، وبين المسجد الذي أُعيد تصميمه ليكون جهازًا صوتيًا لا مسرحًا للرفض، كانت رحلة موت النبي تمضي بلا ضجيج، حتى صار الناس يُحبّون الرسول، ويبكون في ذكرى ميلاده، ويحملون صورته، ويقرؤون سيرته، لكنهم لا يعرفون أنه قد اختفى من حياتهم منذ أن لم يعد لأحد منهم أن يقول للحاكم: لا، باسم الله، دون أن يُرمى بالخيانة، أو يُتهم بالضلال، أو يُحاصر بتهم التطرّف، أو يُسحَب إلى ما وراء الجدار الحديدي الذي يفصل بين “الدين المسموح” و”الوحي الحقيقي”.

لقد دخلنا عصرًا لم تَعُد فيه النبوة سؤالًا حيًّا، بل صارت منتجًا لغويًا، يُدرَّس في الجامعات، ويُناقَش في الندوات، ويُدرَج في المناهج، ويُختَصر في صفات أخلاقية تصلح للاستهلاك البصري، وتُروَّج إعلاميًا كما تُسوَّق المنتجات العضوية، دون أن يُسمَح لها بالعودة إلى الشارع، أو إلى السياسة، أو إلى الاقتصاد، أو إلى قانون الأرض، بل تُحصر في “التدين” بوصفه طمأنينة شخصية، وسلوكًا هادئًا، لا يخدش النظام، ولا يُربك السوق، ولا يُثير الجدل، بل يتعايش مع العالم كما هو، يُسلّم له، يُداريه، يُلطّفه، ويطلب الجنة بصمت.

وفي هذا الزمن بالذات، لم تَعُد الحاجة إلى النبي، بل إلى صورة النبي، ولم تَعُد الحاجة إلى الوحي، بل إلى نسخته المؤسسية، ولم تَعُد الحاجة إلى “دين يُغيّر”، بل إلى “دين يُخفّف”، دين يُعيد إنتاج الخضوع لا الثورة، يُزيّن السقف لا يُكسره، يُعيد تشكيل العبودية على هيئة رضا، يُلقّن الناس أن ما هم فيه مكتوب، وأن الفقر امتحان، وأن الظلم بلاء، وأن الحاكم قدر، وأن الصمت فضيلة، وأن الأسئلة سمّ، وأن الفقهاء الأحياء خطرٌ على الاستقرار.

ما بعد الله: حين أُعيد تعريف الإله ليخدم الدولة لا الإنسان

لم يكن إعلان موت الله، كما نُسب إلى نيتشه، لحظة إلحاد صريح أو موقفًا عبثيًا ضد الدين، بل كان في عمقه الفلسفي والوجودي، تعبيرًا صارخًا عن بداية مرحلة جديدة من تاريخ الوعي، لم تَعُد فيها كلمة “الله” تعني ما كانت تعنيه من قبل، لا في وجدان الفرد، ولا في أفق الجماعة، ولا في بنية اللغة، بل صارت مجرّد رمزٍ خافت لسلطة عليا غائبة، يُستدعى اسمها حين تُراد الطمأنينة، ويُغيب أثرها حين تُراد الهيمنة، ويُستخدم نطقها في المحاكم، والمناسبات، والمجالس، لكنها لا تعود لتكون حضورًا يقظًا في القرار، ولا نارًا تشعل الضمير، ولا قوةً تمزّق ستائر الزيف، ولا مطلقًا يبعثر نِسبيّات القوة البشرية التي نصّبت نفسها آلهة داخل النظام السياسي الحديث.

فحين خرج الإنسان من العصر الإلهي إلى العصر الإداري، لم يعُد الله، في تمثيله الاجتماعي، كائنًا متجاوزًا يُحدّد الشرعية ويهدم الطغيان ويعيد تعريف الخير في وجه رغبة النظام، بل صار، بعد سلسلة من التدجين التدريجي، حاشية على قرارات الملوك، وديباجة افتتاحية لخطابات السيادة، وصورة مزيّنة في المحاكم، وشعارًا يُطبع على العملات، وأحيانًا صوتًا باكيًا في جنازات القتلى الذين سقطوا بأوامر صادرة من دول ترفع اسمه، وتُقسم عليه، وتستحضره في كل مناسبة تتطلب شرعنة الدم، وتمرير القهر، وتثبيت البنية كما هي، دون مساءلة، ودون أن يبدو أن ثمة تناقضًا بين القتل باسم الوطن، والصلاة باسم الله، بل إن هذا التداخل أصبح هو نفسه النسخة الجديدة من الإله: إله بلا صوت، بلا موقف، بلا اعتراض، بلا إرادة، بلا وعد حقيقي، سوى وعد الطاعة، ووعد البقاء داخل حدود الممكن السياسي.

وحين أصبحت الدولة الحديثة، ومن خلفها القوة المالية العظمى، بحاجة إلى نوع من الغلاف الروحي الذي يُحيّد القلق، ويُطفئ التمرد، ويُعيد تعريف الحريّة باعتبارها انضباطًا، ويُحوّل المطلق الديني إلى حكاية هادئة تُروى قبل النوم، صاغت من صورة الإله التقليدية تمثالًا غير مرئي، يُوضع في نهاية كل مشهد، ليُغلق الجدل، ويُنهي النقاش، ويُثبّت القرارات، ويضمن أن لا أحد سيطلب أكثر مما يُمنح له، ولا أحد سيتجاوز ما رُسم له، ولا أحد سيظن أنه يُمكنه مخاطبة الله كما كان الأنبياء يفعلون، بل فقط يُردّد ما كُتب له، ويُكرّر ما قيل له، ويُنفّذ ما تقرّر له، باسم الله، الذي لم يَعُد هو، بل صار اسمه فقط.

وقد أُعيد تعريف الإله، لا من خلال الفلسفة أو اللاهوت، بل من خلال إعادة تشكيل المنابر، والخطب، والمناهج، والمصطلحات، والصور، والأحكام، بحيث صار الربّ الذي كان يومًا يخاطب موسى من النار، ويحذّر فرعون من الغرق، ويأمر إبراهيم بكسر الأصنام، ويرسل محمّدًا ليُخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ربًّا آخر تمامًا، يُذكَر في الإعلام كما تُذكر الملكة، ويُحترم كما يُحترم العلم الوطني، ويُستخدم كما يُستخدم النشيد الرسمي، دون أن يكون له في الفعل اليومي أثر، أو في القرار السياسي سلطة، أو في الخطاب الديني سيادة، سوى ما يخدم هندسة الانقياد، وإعادة إنتاج القبول، وإخماد الشكوك، وتذويب التوترات التي قد تعيق الاستهلاك، أو تُربك الأمن، أو تُسيء إلى هيبة النظام.

وهكذا دخلنا، دون إعلان، ودون مفكّرين حقيقيين، ودون ثورات معرفية، عصرًا جديدًا يمكن تسميته ـ دون مجاز ـ “ما بعد الله”، حيث الإله لم يُنفَ، ولم يُلغَ، ولم يُستبدل، بل فقط أُعيد تدويره، كما تُعاد تدوير المواد المستعملة، ليُصبح متوافقًا مع البنية، ومفيدًا للسلطة، ومنسجمًا مع السوق، ومقبولًا من المنظمات الدولية، ولا يطلب من عباده إلا أن يطيعوا من فوقهم، ويحبّوا أوطانهم، ويصوموا بشروط الوزارة، ويُزكّوا ضمن القانون، ويُجاهدوا بالضرائب، ويخافوا من الحساب الإداري أكثر مما يخافون من حساب اليوم الآخر، ويُساووا بين رضاء البنك ورضاء الله، ولا يترددوا في التصفيق لحاكم يبني مساجد فاخرة، ولو كان يهدم الإنسان كل صباح.

ولأن هذا الإله الجديد لا يعترض، ولا يغضب، ولا يتكلم، فقد أصبح مثاليًا لكل نظام، ولكل جهاز، ولكل حكومة، ولكل مشروع يريد أن يُظهر وجهًا دينيًا دون أن يدفع ثمن الوحي، وأن يتزيّن بالإيمان دون أن يتحمّل وزر الحقيقة، وأن يُخضع الشعوب باسم الماوراء، دون أن يسمح لها بلمسه، أو مناقشته، أو الاستئناس به خارج حدود المسموح، فتفكّكت العلاقة القديمة بين الإنسان والله، تلك العلاقة التي كانت تقوم على الشوق، والخوف، والسؤال، والمواجهة، والدمع، والاحتجاج، والحبّ، واليقين المُكلف، لتتحوّل إلى علاقة من نوع جديد: علاقة يقدّم فيها الإنسان نفسه إلى الله على شكل رقم وطني، ويطلب الجنة بنقرة، ويعتذر له بإيموجي، ويصوم من دون صمت، ويُصلّي من دون قلب، ويقرأ القرآن كما تُقرأ شروط الاستخدام، ثم يعود إلى وظيفته اليومية في بناء عالم بلا قداسة، ولا دعاء حقيقي، ولا ارتعاشة روح، ولا مطلق ينتظر أن يُستعاد.

الإنسان في زمن ما بعد الجوهر: حين صارت الحياة تمرينًا في الأداء

لم يكن التحول من الإنسان بوصفه كائنًا أخلاقيًا يسائل المعنى، ويُحمّل نفسه مسؤولية خياراته، ويخوض معارك الوجود وهو ممزق بين الخوف والرجاء، إلى الإنسان بوصفه وحدة أدائية منضبطة داخل سلسلة وظيفية مصممة بإحكام لخدمة آلة أكبر منه، مجرد انقلاب في أسلوب الحياة، أو تعديل في نمط الاستهلاك، أو تسوية حداثية فرضها تداخل الاقتصاد بالثقافة، بل كان ذلك، في جذره الفلسفي العميق، انتزاعًا صامتًا للجوهر من قلب الكائن، واستبداله ببنية سطحية محسوبة، يمكن مراقبتها، وتصنيفها، وتحليل سلوكها، وتوجيه استجاباتها، دون أن يكون لها أيّ بعد داخلي يُفاجئ النظام أو يُربك التوقع، وهو ما جعل الكائن البشري الحديث، رغم ضجيجه الحرّ، وعريه الجنسي، وجرأته في التعبير، وسرعته في الحركة، أضعف كائن عاش على الأرض من حيث القدرة على اتخاذ قرار غير مبرمج، أو قول كلمة ليست ناتجة عن تغذية إعلامية، أو خوض تجربة لا تمرّ عبر شاشات التأمين، أو اختيار موت له معنى في زمن لم يَعُد فيه للموت معنى إلا كرقم في نشرات الأخبار، أو كفقدٍ رقميٍّ في أجهزة إدارة الكوارث.

وقد تمّ هذا التحوّل، لا عن طريق القمع المباشر، ولا عبر السجون الحديدية، بل من خلال إعادة صياغة الإنسان نفسه، بدءًا من لغته، التي فُصِلت عن الصمت العميق الذي كان يربطها بالمقدّس، وصارت مجرّد أداة تقنية للتواصل السريع، وانتهاءً بجسده، الذي لم يَعُد موقعًا للشهادة أو ساحة للتجلي، بل تحوّل إلى منتج قابل للتعديل، والترميم، والعرض، والتسويق، والبيع، والتحكم، والتجميل، والتعقيم، والتكييف وفق معايير الجودة الإعلامية، بحيث أصبح الإنسان نفسه، لا يسكن ذاته، بل يسكن صورته، ولا يحيا حياته، بل يُؤدي دوره، ولا يكتب مصيره، بل يُمارس تعليمات التطبيق، ولا يُراجع وجوده، بل يُحدّث سيرته، ويشارك موقعه، ويُحمّل تجربته، ويُظهر سعادته، ويُوثّق معاناته، ويشكو لقطيعٍ رقميٍّ لا يملك له نفعًا ولا ضرًا.

وما بين اللغة المبتورة، والجسد المبرمج، والوعي المُجهد، والمجتمع المُراقب، والاقتصاد المُخصخص، والدين المُرخص، والسياسة المُختزلة في إدارة الموارد البشرية، انسلخ الإنسان الحديث من جوهره دون أن يشعر، لأنه في الأصل لم يُطلَب منه أن يشعر، بل طُلب منه فقط أن يعمل، وينتج، ويستهلك، ويبتسم، ويوقّع، ويُعيد تغريدات المعنى التي صاغها له خبراء الإدارة، فيصبح صالحًا للاستعمال في كل الأنظمة، من دون أن يُفكر يومًا إن كان صالحًا للقاء نفسه، أو للجلوس مع ندمه، أو للنظر في مآله، أو لتفسير كوابيسه، أو لتسمية ذلك الفراغ المتزايد في صدره رغم كلّ النجاحات الشكلية التي تُغرقه بها شبكات الإنجاز الرقمي.

وحين أُعيدت برمجة الإنسان ليكون صالحًا للعرض لا للتأمل، وللتنفيذ لا للتساؤل، وللنجاح لا للمعنى، وللأداء لا للحضور، صارت حياته سلسلة من المحاولات المضبوطة للتكيّف مع إيقاع لا يصدر من داخله، بل من شاشة تُملي عليه النبرة، ومن مؤشرات تُحدّد له متى يبتسم ومتى يركض ومتى يصمت، ومن توقعات تُصيغه كما تُصاغ النماذج الإحصائية، فلا يخطئ إلا بمقدار، ولا يُصيب إلا بشرط، ولا يحلم إلا بما أُتيح له أن يحلم به، فيستيقظ كل صباح ليُعيد إنتاج ذاته كما يراها الآخرون، لا كما يشتهيها هو، ويقيس سعادته بمعايير لا يعرف من وضعها، ويضبط انفعالاته وفق الخوارزميات، ويُعدّل جسده ليناسب الصورة، ويُخفّف من لغته كي لا تُربك الإيقاع، ويُمارس الحبّ على هيئة خدمة، والعبادة على هيئة التزام، والصداقة على هيئة تفاعل، حتى إذا ما التفت إلى نفسه يومًا ظنّ أنه موجود، لا لأنه يشعر، بل لأنه يُبثّ، ولا لأنه يُحب، بل لأنه يُشاهَد، ولا لأنه ينجو، بل لأنه لم يُحذف بعد.

الرمز كبديل عن الحقيقة: حين أصبحت الصور تُعبد بدل المعاني

لم يكن الصنم في صورته البدائية كتلة من الحجر أو الخشب تُعبد لأن أحدهم اقتنع فعلًا أنها تخلق أو تُميت، بل لأنه، على نحو غير واعٍ، وجد في شكلها المحدود مهربًا من المطلق الذي يعجز عن إدراكه، وملجأً شكليًا من النداء الخفي الذي لا تُسكت صرخته الآلهة الصغيرة، وكان الإنسان، كلما تعذّر عليه بلوغ المعنى، كلما لجأ إلى الصورة، وكلما فشل في التماس الحقيقة، كلما احتضن الرمز، لا لأنه أكثر صدقًا، بل لأنه أكثر وضوحًا، وأقل توترًا، وأقدر على التكيّف مع الحواس، وأيسر في التداول، وأسهل في الاستدعاء، وأسرع في التحوير، وأضمن في البقاء، وهكذا كانت بداية الطريق نحو عبادة الشكل، لا بوصفه مدخلًا للحقيقة، بل بوصفه بديلًا مكتفيًا بذاته، حتى تحوّلت الديانات التي نزلت لتوقظ الإنسان على الغيب إلى احتفالات شكلية بالأسماء، وتحول الإله الذي لا يُدرك إلى لافتة تُعلّق، وتحولت الكلمة التي كانت تُحرك الوجود إلى ملصق على جدار، وتحول النبي من مُزعج يُقلق النظام إلى أيقونة مُطمئنة تُبارك الاستقرار.

ثم جاءت المرحلة الحديثة، لا لتكسر هذه الحلقة، بل لتُتْقِنَها، فاستثمرت الصورة لا بوصفها تمثيلًا ناقصًا لمعنى مفقود، بل بوصفها حقيقة قائمة بذاتها، مكتفية بأثرها، مستقلة عن الأصل الذي كانت تنوب عنه، ثم قرّرت أن تُعيد تشكيل الواقع كله بحيث لا يعود فيه مكانٌ لشيء لا يُرى، أو لا يُصور، أو لا يُؤرشَف، أو لا يُسوَّق، أو لا يُستهلَك، ومن ثمّ تمّت إعادة تعريف الوجود، لا بوصفه حضورًا في الزمن، بل بوصفه قابلية للعرض، وتمت إعادة تعريف الإنسان، لا بوصفه كائنًا يشعر ويختار ويتألم، بل بوصفه منتجًا رمزيًا يُقيَّم بعدد المشاهدات، وتمت إعادة تعريف الإله، لا بوصفه مطلقًا يستحيل تمثيله، بل بوصفه صورة قابلة للاستثمار، توضع على الجدران، وعلى بطاقات المعايدة، وتُدمج في الإعلانات، وتُستدعى عند الحاجة لإضفاء العمق على ما لا عمق له، أو لإقناع الجماهير بأن الماركة الفلانية لديها بُعد روحي.

وفي هذا المسار الصاعد من السطح نحو الأعلى، لا من الجذر نحو العمق، صارت الرموز تُنتَج بالجملة، وتُوزَّع كالأدوية، وتُستعمل كالمسكّنات، وتُدَمج في المناهج التعليمية، وتُحقَن في الإعلانات، وتُطبَع على الأزياء، وتُتلى في المناسبات، وتُسجَّل كبراءات اختراع ثقافي، دون أن يسأل أحد عن المسافة بين الرمز وما كان يُفترض أن يُشير إليه، لأن الزمن لم يَعُد يسمح بالسؤال، بل فقط بالاستهلاك، ولا يُكافئ على التأمل، بل على التفاعل، ولا يطلب منك أن تفهم، بل أن تُشارك، وأن تُحب، وأن تُصفّق، وأن تُردّد، وأن تُجامل، وأن تضع إيموجي القلب الأحمر على صورة تقول ما لا تفهمه، وأن تُعيد نشر شعار لا تعرف تاريخه، لأن المهمّ ليس أن تؤمن، بل أن تُعلن إيمانك، والمهمّ ليس أن تُدرك، بل أن تُشارك في الطقس، والمهمّ ليس أن ترى الحقيقة، بل أن تُمثّلها، ولو بصورة خادعة، لأن الجميع متفق أن الصدق ليس شرطًا، ما دام الإخراج جميلًا.

وهكذا، دخل الإنسان ـ دون أن يشعر ـ إلى عصر عبادة الرموز المطلقة، لا تلك القديمة التي كانت تُصنَع في الورش، بل تلك الجديدة التي تُنتَج في المختبرات الذهنية، وتُحقن في الإدراك الجماعي على شكل صور، وعلامات، وشعارات، وألوان، وإيماءات، ولغة جسد، وكلمات مفتاحية، وصيغ جاهزة، وبطاقات هوية، وشاشات مضيئة، وقصص قصيرة قابلة للمشاركة، بحيث لم يعُد المطلوب من الإنسان أن يبحث، بل فقط أن يُعيد إنتاج ما أُنتِج له، ولم يعُد مطلوبًا منه أن يشعر بالله، بل فقط أن يحتفي بصورة عن الله، ولم يعُد يُسأل عن موقفه من العدالة، بل فقط عن موقفه من العلم الوطني، ولم يعُد يُطلب منه أن يواجه، بل فقط أن يردّد، ولم يعُد يُكلفه أحد أن يُفكر في الحياة، بل فقط أن يُحمّل النسخة الأخيرة من تمثيلها.

حين صارت المعرفة جزءًا من إدارة الرضا

لم تكن نهاية الحقيقة حدثًا مدويًا يصاحبه انهيار منظومات الفكر، ولا انقراضًا مفاجئًا لحَمَلة اليقين، ولا انقلابًا تكنولوجيًا نسف العقل البشري من جذوره، بل كانت فعلًا بطيئًا، تسلّليًا، جرى بتؤدة داخل أنظمة الإدارة، والمؤسسات الإعلامية، وهياكل التعليم، وشبكات التسويق، حيث جرى تفكيك المعنى من داخله لا من خارجه، وتفريغ الكلمة من وزنها دون إلغائها، وتشتيت الدلالة دون المساس بالعبارة، وترويض السؤال ليصبح استبيانًا، وتشويه المنطق ليُصبح أداةً في خدمة القرار لا وسيلة لفحصه، وتذويب اليقين في بحر من البدائل الزائفة، حتى صار كل شيء قابلاً لأن يكون صحيحًا ما دام مقبولًا، وكل رأي جديرًا بالاحترام ما دام لا يُقلق السطح، وكل معرفة مرغوبًا فيها ما دامت تُبقي على النظام، وتُعيد إنتاج الرضا، وتخدُم استقرار الجمهور، وتغذّي السوق، وتملأ فراغ الإنسان دون أن تجرحه بالحق.

ولأن الحقيقة كانت في جوهرها تنزع إلى التجاوز، وكانت، بطبيعتها، لا تستقر في الأطر ولا تُختزل في الأرقام، بل تُقلق، وتُشوش، وتُفكك، وتفتح المجرى أمام السؤال الجارح، فقد كانت دائمًا مكروهة في أعين الأنظمة التي تبحث عن النظام لا عن النجاة، وعن الاستقرار لا عن المعنى، وعن الامتثال لا عن الفهم، وعن الرضا لا عن الصدق، فتمّت تصفية الحقيقة من برامج التعليم تحت عنوان “المهارات”، ومن الخطاب العام تحت عنوان “الرأي والرأي الآخر”، ومن البحث العلمي تحت عنوان “التمويل”، ومن الدين تحت عنوان “الاعتدال”، ومن الفلسفة تحت عنوان “الواقعية”، ومن الفن تحت عنوان “التفاعل”، حتى لم يبق منها سوى ظلال قديمة تُستدعى حين يُراد التزيين، وتُقمع حين يُخشى أن تُربك المزاج العام.

ولأن إدارة الرضا أصبحت غاية السياسة، وهدف الاقتصاد، ووظيفة الإعلام، ووسيلة السيطرة، فقد صارت المعرفة نفسها ـ وهي التي كانت يومًا طاقة تحرّر وشرارة يقظة ـ أداة من أدوات صناعة القبول، تُنتقى بعناية، وتُصاغ بلغة مريحة، وتُصمَّم على شكل جرعات قابلة للهضم، وتُجرَّب على جماعات التركيز، وتُروَّج على المنصات، وتُدرّس بما ينسجم مع الخطة الاستراتيجية للسلامة النفسية والهوية الإيجابية والتنمية البشرية، دون أن يُطلب منها أن تُنتج تفكيرًا صادقًا، أو تُعرّف الإنسان بمحدوديته، أو تُصالحه مع هشاشته، أو تُنبّهه إلى خطر خضوعه، بل فقط أن تُسكّنه، وتُقنِعه، وتُحسّن مزاجه، وتُعيد طمأنته، ليواصل أداءه داخل المنظومة بوصفه مواطنًا صالحًا، مستهلكًا متوازنًا، موظفًا منتجًا، إنسانًا ناجحًا، ولو كان في داخله حفرة سوداء تُفرغ كل ما يتلقاه من معنى.

ولم تعد القيمة المعرفية تُقاس اليوم بقدرتها على طرح سؤال لم يُطرح، أو على زعزعة مسلّمة مستقرة، أو على هدم خرافة كبرى، بل أصبحت تُقاس بمدى انتشارها، وسرعة تداولها، وعدد مرّات مشاركتها، ومدى قدرتها على الإقناع اللحظي، والانفعال الآني، والتأثير الجماهيري، وكلما كانت أقل إزعاجًا، وأكثر تلاؤمًا مع الحسّ العام، وأقل توتّرًا في اللغة، وأكثر رشاقة في التعبير، وأسرع قبولًا من قبل الخوارزميات، كلما كانت أكثر جدارة بالحياة، وأكثر قابلية للتمويل، وأكثر قابلية للتحول إلى تدريب، أو كتاب تحفيزي، أو وثائقي مُلهم، أو تطبيق إلكتروني يذكّرك كل صباح بأنك بخير، وأنك على الطريق الصحيح، وأنك فقط بحاجة إلى أن تبتسم أكثر، وتغفر أكثر، وتعمل أكثر، وتصمت أكثر، لأنك إن فعلت ذلك، ستحظى بالسكينة… ولو فقدت الحقيقة.

المعنى المصمَّم: من الإله إلى المحتوى

لم يكن الانتقال من الكلمة المتجاوزة التي كانت تنزل على قلب النبي لترجّ الجبال، وتكسر البنى، وتُربك التقاليد، وتوقظ الإنسان على ليل داخلي لم يكن يعرف أنه يسكُنه، إلى الكلمة المصمَّمة التي تُكتب في استوديوهات التسويق وتُذاع في مقاطع دقيقة لتُنتج أثرًا محسوبًا داخل جمهور مُجزأ، خاضع لتوقعات الخوارزميات، مجرد تحول في الوسائط أو اختلاف في الأنماط التعبيرية، بل كان ذلك لحظةً فارقة في تاريخ العلاقة بين الإنسان والمعنى، لحظةً تحوّل فيها ما كان يُنتظَر بوصفه وحيًا إلى ما يُطلَب بوصفه محتوى، وتحول فيها ما كان يُدرك عبر الوحي إلى ما يُصمَّم عبر السوق، وتحول فيها ما كان يُحمل بشوق إلى ما يُمرَّر بترفيه، وتحول فيها ما كان يُستقبل بخشوع إلى ما يُستهلك بتسلية، وتحول فيها الإله من مطلقٍ يهزّ الكيان إلى عنوان مرن يدخل في النصوص التحفيزية والإعلانات الأخلاقية، ويتسلل إلى مقاطع الفيديو بوصفه لمسةً وجدانية تُعزز ولاء المستخدم، وتحفّز تفاعل المنصة.

ولأن الشعراوي، الذي ابتدأت عنده هذه الرحلة، لم يكن صانع محتوى بل كان حاملًا لشرارة بقيت مُعلقة في هواء ملوّث، لم يكن يقول ليُرضي، ولم يكن يُفسّر ليبني علامة تجارية، ولم يكن يُفكّك اللغة ليجمع المتابعين، بل كان يتكلّم بغير حاجة إلى مونتاج، ولا إلى تسويق، ولا إلى فلترٍ صوتي، لأن المعنى في زمنه، وإن تمّت محاصرته، كان لا يزال قادرًا على أن يتسرّب من بين شقوق المؤسسة، وكان لا يزال يُشعر المتلقي ـ ولو من غير وعي ـ أن ثمة شيئًا آخر غير المنظومة، وأن ثمة ما لم يُهندس بعد، وما لم يُختزل بعد، وما لم يُحترَف بعد، وكان الشعراوي في لحظاته الأكثر صفاءً يُعلن، دون تصريح، أن الله لا يزال حيًّا في اللغة، وأن القرآن لم يُحوَّل بالكامل إلى أداة طمأنينة، وأن الكلمة إذا صدرت من جوفٍ مؤمن قد ترتجّ لها قشرة النظام، ولو للحظة.

لكن تلك اللحظة لم تُترك لتتكرر، ولم يُسمح لها أن تتحول إلى تيار، أو أن تُصبح مرجعية، أو أن تُنتج نظامًا معرفيًا، بل تمّ استيعابها داخل الآلة الكبرى، وتمّ تجزئتها، وتحويلها إلى مقاطع مجتزأة تُذاع في المناسبات، ثم تمّ تقديم النُسَخ المُخففة منها بوصفها النموذج المثالي للخطاب الديني المعاصر، ثم جاءت مرحلة الإنتاج الكامل للمعنى داخل مصانع المنصات، حيث لم يَعُد المحتوى يُطلب ليُستَفهم، بل ليُشعَر، ولم يَعُد المتكلم مطالبًا بأن يُنير، بل بأن يُؤثّر، ولم يَعُد يُنتظَر من المادة أن تفتح الوعي، بل فقط أن تُحرّك الحواس، وتُهدّئ القلق، وتُعطي المتلقي انطباعًا سريعًا بأنه فهم شيئًا، دون أن يعرف ما هو، وبأنه تفاعل مع قضية، دون أن يعرف إن كانت قضية أصلًا، وبأنه اقترب من الله، دون أن يكلّفه ذلك شيئًا سوى متابعةٍ لا تتجاوز الدقيقة، أو إعادة إرسالٍ تُشعِره بأنه بلغ القمة الروحية، وهو لا يزال في ملابسه الداخلية، تحت أضواء الهاتف.

وهكذا، لم يعُد الإله يسكن النصّ، بل أصبح يُسكنه، ولم يعُد يخلق الكلمة، بل يُستدعى ليُزيّنها، ولم يعُد يقود الفكر، بل أصبح مكمّلًا عاطفيًا يُدرج في آخر السطر، ليمنح المحتوى بُعدًا روحيًا يزيد من نسبة المشاركة، كما لم يَعُد القرآن يُتلى بوصفه حدثًا وجوديًا، بل يُبَثّ بوصفه منتجًا جاهزًا للاستعمال، ولم تَعُد العبادات تُمارَس رجاءً للحقيقة، بل تُختصر في طقوس قابلة للعرض، ولم تَعُد المعاني تُعاش في الصمت، بل تُدرّب ضمن كورسات التعبير، وتحلّل في تطبيقات المشاعر، وتُستخرج وفق نماذج الذكاء الاصطناعي، الذي بات يعرف متى يحتاج الإنسان إلى جرعةٍ من الحديث النبوي، ومتى يحتاج إلى جرعةٍ من الأمل، ومتى يكون الوقت مناسبًا لآيةٍ عن الصبر تُرسل إليه في لحظة انهيار، لا لأنّ الله بعث بها، بل لأن النظام التنبؤي رصد ذلك، وضبط التوقيت، واختار الآية، ووضعها على خلفية وردية، بحروف شفافة، لتناسب مزاجه العام.

السلطة كنسيج لا يُرى: من الفقيه الموظف إلى الرئيس المبرمج

لم يكن التحوّل من العالم الذي كان يحمل في صدره بقايا النبوة، إلى الموظف الذي يرتدي عباءة الفقيه ويوقّع على أوراق فُصّلت مسبقًا في مكاتب السيادة، مجرّد تطوّر في العلاقة بين الدين والدولة، بل كان انعكاسًا ميتافيزيقيًا لانقلابٍ هائل في مفهوم الفاعلية الإنسانية، حيث لم تَعُد السلطة شيئًا يُمارَس من فوق نحو تحت، ولا حتى من مركزٍ نحو هامش، بل أصبحت كنسيجٍ غير مرئيّ، تمتد خيوطه داخل اللغة، والسلوك، والتصورات، والعلاقات، والاقتصاد، والمعرفة، والتقوى، والضحك، والبكاء، والنصوص، والخطاب، وحتى في أكثر لحظات الخشوع التي يظن الإنسان أنها لحظة تحرّره من البنية، فإذا بها لحظة أخرى من لحظات إعادة إنتاج البنية ذاتها، بوجه أكثر لطفًا، وأقل مقاومة.

ولم يكن الفقيه، في هذه المنظومة، رجلاً كاذبًا أو متواطئًا دائمًا، بل كان، في كثير من الأحيان، مخلصًا، تقيًّا، يخاف الله، ويحب الناس، ويقرأ القرآن بدمعٍ حار، لكنه كان قد تلقّى تعريفًا لله لا يسمح له بأن يخرج عن النظام، وتصورًا للنبوة يمنعه من الصراخ، وفهمًا للسكينة يجرّمه إن غَضِب، ونموذجًا للفتوى لا يتيح له إلا إعادة الصياغة، وتدريبًا مؤسسيًا يجعل منه حاملًا للأمانة طالما لم تُمسّ المنظومة، وأحيانًا، دون أن يعلم، كان يمثل الدور ذاته الذي مثّله بايدن لاحقًا: أن يُجسّد واجهة النظام، لا لأنه يتحكم فيه، بل لأنه يُخفيه، ويمنحه شكلًا مقبولًا، ويقنع الجمهور أن كل شيء لا يزال بخير، ما دام هناك شيخ يُفتي، ورئيس يُبتسم، ومصلّون يمتلئون في صلاة الفجر، وقطارات تُعلن عن الوقت بدقة، والناس يتحدثون عن الله، لكن لا أحد يجرؤ أن يسأل: من يُدير العالم فعلًا، من يُقرّر أن يُقتل ألف طفل في غزة، من يصوغ الخطاب الديني الجديد، من ينتج الرموز، من يَختار نماذج النجاح، من يُعرّف الإسلام نفسه.

لقد أصبح كل شيء يُدار من الداخل، دون مركز، دون شخص، دون جهازٍ واحد يُحاكم أو يُهاجم، لأن السلطة نفسها لم تَعُد سُلطة، بل أصبحت غلافًا لذكاء شبكيّ عابر للأفراد، يُعيد تشكيل الإدراك، ويصنع الفقيه المناسب، ويُبرمج الرئيس المناسب، ويختار الشاعر المناسب، ويُظهر العالم الذي يشبه العالم، لكنه لا يحمل ناره، ويُبقي على النبي في الخطاب، بعد أن فرّغ الأرض من أثره، ويدخل إلى كل مسجد، وكل شاشة، وكل عقل، من دون أن يُدركه أحد، لأن الجميع يبحثون عن السلطة في مكان آخر، في مكان قديم، فوق، خلف، بجانب، بينما هي الآن تسكن تحت الجلد، وتتكلم من داخل المألوف، وتُخاطب الناس بلغتهم، وتُقنعهم أنهم أحرار، ما داموا قادرين على تغيير خلفيات هواتفهم، أو كتابة آيات مُحببة في تعليقاتهم، أو الاستماع إلى الخواطر القرآنية كل مساء، دون أن يسألوا من كتب عناوين هذه الحلقات، ولماذا توقفت الآيات عند هذا الحدّ، ومن قال لهم إن الشعراوي، الذي أحبوه، لو كان حيًّا الآن، لربما لم يجد مقعدًا في هذه المنظومة، لأنه كان سيبكي من هول ما صارت إليه الكلمة.

وها نحن، في هذا المنعطف، وقد سرنا في أطول طريق ممكن من طلب الشعراوي للسادات أن يُعيد الأزهر إلى القلب السياسي، حتى لحظة بايدن التي أُعلن فيها موت الذات السيادية دون جنازة، ثم إلى لحظة التقديس البلاستيكي، والرمزية المشفّرة، والإله الذي يُعاد تدويره، والإنسان الذي أُعيدت برمجته، والمعنى الذي صار محتوى، والحقيقة التي أُدرجت ضمن معايير تحسين المزاج العام، والسلطة التي لم تَعُد تُمارَس من مكانٍ واضح، بل من كل مكان، وكل خطاب، وكل صورة، وكل صمت، وكل فتاوى السكوت التي تُقال باسم الحكمة، لم يعد أمامنا سوى أن نتهيّأ لا للخاتمة بمعناها الأدبي، بل للخروج ـ إن أمكن ـ من هذا النسيج الذي يتكلم بألسنتنا، ويُحب بقلوبنا، ويعبد الله نيابة عنّا، بينما نحن نحيا داخله… دون أن نكون قد عشنا فعلًا.

محاولة أخيرة لاستعادة النبي من يد الغياب

ربما لم يكن الإنسان، في تاريخه كلّه، بهذا القدر من الرضا العميق عن نفسه، ولا بهذا الإحساس الغامض بالاكتفاء، كأن شيئًا ما أُنجز أخيرًا، وكأن المشروع الذي لم يكن له اسم قد وصل إلى نهايته، وكأن الآلة التي ظلّت تدور داخله وخارجه، فوقه وتحته، قد انتهت من تصميم النسخة الأخيرة من الوجود، فلم يبق عليه إلا أن يُجيد استخدام خصائصها، أن يتعلّم كيف ينام في الوقت المحدد، ويأكل ضمن توصيات التغذية السليمة، ويُحبّ بمستويات عاطفية لا تؤذيه، ويعبد الله بما لا يُفرغه من طاقته، ويؤمن دون أن يطلب اليقين، ويضحك دون أن يُفكّر، ويبكي بموسيقى خلفية، ويحلم بما يُمكن تحقيقه، ويتألم بقدرٍ معقول، ثم يستيقظ كل يومٍ وهو يشعر أنه بخير، فقط لأنه ليس مريضًا، ولأنه يملك جهازًا ذكيًا يُنظّم مواعيده، و”مرشدًا روحيًا” على الشاشة يُذكّره أن الحياة جميلة، وأن السلام الداخلي لا يحتاج أكثر من تنفّس عميق، وتأمل في غروب الشمس.

لكن ما لا يُقال، وما لا يُقاس، وما لا يظهر في تحاليل الدم، هو أن هذا الكائن، رغم كل شيء، لا يثق بشيء، لا يثق بضحكته، ولا بصلاته، ولا بذاكرته، ولا بتاريخه، ولا حتى بلحظاته الحميمة، لأنها تمرّ كما تمرّ الإعلانات، وتتسرب كما يتسرّب الماء من الأصابع، ويعرف، في قرارة روحه التي لم تَمت تمامًا، أنه لم يَعُد يعرف لماذا يقرأ، ولا لماذا يصمت، ولا لماذا يصبر، ولا لماذا يتزوج، ولا لماذا ينجح، وأن الكلمات الكبرى التي كان يُفترض أن تحمله من الهاوية إلى المعنى، صارت أخف من الهواء، وأبرد من الزجاج، وأن “الحق” لم يَعُد يُطلب إلا في المسلسلات، و”العدل” يُنشد في الأغاني، و”النبي” يُذَكَّر به كل جمعة، لكنه لم يَعُد يَشعر أن النبي معه، لا في النوم، ولا في البكاء، ولا في ضيق الجبين، ولا في تلك اللحظات الصغيرة التي كان فيها من قبل يشعر أن الله أقرب إليه من نبضه، وأن الحياة، رغم ظلمها، قابلة للتبرير، لأنه كان هناك مَن يُمسك المعنى من أعلاه، ويقول له ـ وإن بصمت ـ: لا تخف.

الآن لا أحد يقول له ذلك.

لا لأنه لم يَعُد هناك من يعرف، بل لأن الذين يعرفون، إمّا فقدوا الجرأة على النطق، أو فقدوا اللغة التي تُقال بها الأشياء، أو فقدوا الجمهور الذي ينتظر منهم القول، أو لأنهم، بكل بساطة، تعلّموا أن الصمت أكثر أمانًا، وأن الحديث عن النبي ـ النبي الحقيقي، لا الذي يُوزَّع في الملصقات ـ بات يُقلق، يُربك، يُثقّل، يُربك السوق، يُربك الناس، يُربك حتى الدين نفسه، فصارت الكلمات تُقال بحذر، والمواقف تُقصّ بالأظافر، والحبّ يُوزَن بالقطّارة، واليقين يُخفّف، والإيمان يُخاط، والإشارات تُشفّر، حتى إذا ما أراد الإنسان أن يُصرّح بشيءٍ عميق، نظر في نفسه، ثم بلع صوته، ثم كتب شيئًا آخر، ثم عاد إلى يومه كأن شيئًا لم يكن.

ووسط هذا الركام البصريّ، وهذا الهدوء الذي يشبه ما قبل الانهيار، لم تَعُد الحاجة إلى النبي لأن يُؤسس دولة، أو يُغيّر نظامًا، أو يُواجه طاغية، بل فقط لأن يُقال له: عدْ، فقط تعالَ واجلس هنا، في قلب هذا الإنسان الذي صار يشبه كل شيء إلا نفسه، فقط خذ بيده في هذا الليل الذي لا يراه، فقط انفخ فيه من الكلمة التي كانت إذا نزلت على الرمال نبت فيها المعنى، فقط قل له، مرة واحدة، كما كنت تقول للضعفاء الذين تكسّرت قلوبهم على أبواب الطغاة، إن الله لا يزال يُحب، وإنه لم يتغيّر، وإنه لا يزال يراك، لا بما ترتديه، ولا بما تحققه، بل بما تبحث عنه.

لأنّ أكثر ما يُنهِك هذا الكائن الآن، ليس أنه لا يملك الطريق، بل لأنه نسي أنه كان في يومٍ ما، كائنًا يسير… نحو شيء.

ربما لا نحتاج أن نبدأ من جديد، ولا أن نثور، ولا أن نهدم، بل فقط أن نجلس لحظةً في صمتٍ عميق، كما يجلس النبي قبل الوحي، ونضع أيدينا على صدورنا، ونسأل دون صوت:

هل ما نحن فيه… هو نحن؟

ثم ننهض، لا لنُغيّر العالم، بل لنبحث، لأول مرة، عن الطريق… دون خارطة.

أضف تعليقك

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)

تعليقات ( 0 )