الطاهر الطويل منذ أن كتب الفنان المغربي الراحل أحمد الطيب العلج أغنيته الشهيرة «جاري يا جاري»، ولحّنها المايسترو عبدالقادر الراشدي، وغنّتها المطربة نعيمة سميح، والناس يتأملون أبعاد هذه التحفة الفنية التي يقول مطلعها: جاري يا جاري يا اللّي دارك حدا داري (يعني دارك قرب داري) خلّينا نمشيو فـ الطريق رفاگة (رفاق) وأصحاب العشرة والدين والنساب (المصاهرة) نوليو دراري (هل يعقل أن نصبح أطفالا) شفايا لعدا (تشفٍّ من طرف الأعداء) وكلنا نسابْ احباب… وإذا كان «اللبيب بالإشارة يفهم»، فإن «أهل الحل والعقد» من جيران المغرب الشرقيين لم يستوعبوا دلالات هذه الكلمات على مرّ السنين. وقد تجسّد ذلك أكثر، منذ أيام فقط، عبر سيل من التقارير الإخبارية والبرامج الحوارية المتشابهة التي تُبَثّ على القنوات المحلية هناك، حيث يركّز الإعلاميون على موضوع أوحد: المغرب… وكأننا أمام إعلام حربي في معركة حامية الوطيس، من طرف واحد فقط! في كل نشرة إخبارية، في كل برنامج نقاش، نسمع النغمة نفسها والنصوص ذاتها، مُعادة بصوت مذيعين مختلفين، يردد كل واحد منهم هذه الجمل المصاغة في قالب واحد: (في المغرب تتوالى النكسات والفضائح المدوية)… (وبداخل المغرب تتوالى الارتدادات والاحتقانات التي باتت ترسم صورة المغرب الجديدة)… (وفي المغرب ما زال الأحرار ينتفضون ضد سياسة المخزن)… (وتداعيات سياسات المخزن العشوائية تلقي بظلالها على الخارج)… (وفي المغرب لم يجد نظام المخزن سوى سياساته المتهورة لمواجهة تصاعد حدة الاحتجاجات اليومية)… المغرب، المخزن، المغرب، المخزن… ! وهكذا تمضي تلفزيونات البلد الجار للمغرب في ركوب القطار المهترئ من العبارات، وكأن الكاتب واحد، أو كأن تلك النصوص مدوّنة وموزّعة مسبقا مع قائمة إجبارية بالالتزام بها. هل هذا اجتهاد إعلامي، أم مجرد تنفيذ لـ»دفتر تحملات» أو «كرّاس شروط» مُعَدٍّ بعناية؟ لا أحد يعرف بالضبط، لكن المؤكّد أن المشاهدين في ذلك البلد الجار صاروا يشعرون بملل شديد، حتى بات البعض منهم (كما أسرّوا لأصدقائهم) يغيّرون القناة فور سماع كلمة «المغرب» أو «المخزن» التي تحوّلت إلى لازمة إعلامية مستهلكة… في حين يبحثون عن حقيقة هذا البلد في المواقع الإلكترونية الموضوعية المحايدة، أو في حكايات الذين زاروه، ووقفوا بأنفسهم على مستجدات مسيرته التنموية. «مانيش راضي»! الأمر المضحك والمبكي هو أن مَن يقفون وراء قنوات البلد الجار للمغرب من جهة الشرق، يصدّرون ضيقهم الداخلي عبر هذه الهجمات اليومية، ويغضون الطرف عن معاناة شعبهم، وما يجري في شوارعهم من قمع للاحتجاجات ومنع للتظاهرات، بل واعتقال لمن ينتقد ولو بهمسة أو بتغريدة. في المغرب، ينزل الناس للشوارع ويعبّرون عن آرائهم يوميا، وينتقدون الحكومة والنظام من دون خوف، ويجاهرون بنصرة فلسطين وبإسقاط «التطبيع» مع الكيان الصهيوني. أما في بلاد الجيران، فتُمنع التظاهرات حتى للتضامن مع غزة، ويوجّه الاتهام للمغرب بتأجيج كل شيء. وحتى الذين أطلقوا حملة «مانيش راضي» وجدوا أنفسهم معتقلين وراء القضبان، في مشهد يذكّرنا بما جرى بعد اندلاع الثورة في مصر عام 2011، حيث سخر جمال مبارك، نجل الرئيس الراحل، من سؤال صحافي حول شباب «الفيسبوك». وعلى المنوال نفسه تقريبا، قال رئيس الدولة التي رُفع فيها شعار «مانيش راضي»: «من يظن أنه يستطيع افتراس (بلاده) بهاشتاغ فهو مخطئ»… وإمعانا في نظرية المؤامرة، وُجّهت أصابع الاتهام إلى «جهات مغربية»، بما أن «الآخرين هم الجحيم»، وفق تعبير سارتر ! لماذا يحاول إعلام الجيران جاهدا تغطية الشمس بالغربال؟ وإلى متى سيبقى منشغلا بالمغرب، متناسيا المعاناة الداخلية للسكان هناك؟ أليس من الأجدر به أن يلتفت قليلا لأوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية؟ أم أن استراتيجيته تقوم على إلهاء الشعوب بـ»فزاعة» المغرب؟ ربما على قنواتهم أن تنتج برامج جديدة، تختار لها عنوانا من قبيل: «في كوكب المغرب»، حتى تستمر في سرد رواياتها الخيالية ! وفي هذا السياق، نضيف مثالا آخر يُظهر الفرق بين البلدين. في المغرب، لا يتوانى العديد من الصحافيين عن توجيه الانتقادات اللاذعة لرئيس الحكومة عزيز أخنوش، بل وحتى لأعضاء حكومته كافة. يقع ذلك بكل تلقائية في الصحف والمواقع الإلكترونية وفي منصات التواصل الاجتماعي. ويندهش «الجيران» الشرقيون للسقف العالي لحرية التعبير عند المغاربة، فيتصوّرون ذلك انتقاصا من صورة البلد وإساءة له. والحال أن مثل هذه المظاهرات والصيغ التعبيرية دليل على واقع بلد متعدد منفتح على العالم، بإنجازاته وإخفاقاته، بقوة نقاباته وأحزابه ومجتمعه المدني، وبنضال الجميع من أجل وطن يطمح إلى ربح معركة محاربة الفقر والفساد والرشوة والبطالة. أما في «البلد الجار»! جرّب فقط أن تجرؤ وتنتقد رئيس الحكومة، وليس رئيس الدولة، وستكتشف سريعا أن سقف الحرية الإعلامية هناك ليس سوى وهم كبير. فالصحافيون يتحوّلون إلى «أبطال» فقط عندما يتعلق الأمر بالمغرب، لكنهم يلوذون بالصمت إذا كانت القضية تمس بلدهم. هل يمكن أن نجد مذيعا أو كاتبا هناك ينتقد الأوضاع الداخلية بالحماس نفسه الذي ينتقد به المغرب؟ يبدو أن الجرأة تُستخدم عندهم بمكيالين: مكيال فارغ للوطن، ومكيال ممتلئ بالشتائم للجيران. والمثير أن التلفزيون المغربي لا يردّ الصاع صاعين، بل يتجاهل كل تلك «المكاييل»، اقتناعًا منه بأنها لا تساوي شيئا في ميزان الإعلام الحقيقي وأدبياته وفي ميزان اللغة السياسية وميزان قيم الجوار والدم المشترك. السيدة الأولى وبينما يواصل جيران المغرب الشرقيون حربهم «الدونكيشوتية» تجاه المغرب والمغاربة من خلال القنوات التلفزيونية ومنصات التواصل الاجتماعي، يظلّ الجيران الجنوبيون (في موريتانيا تحديدًا) يترقبون أخبار السيدة الأولى، الدكتورة مريم بنت محمد فاضل ولد الداه، التي اختارت مصحة مغربية لإجراء عملية جراحية كللت بالنجاح. وزاد الأمر تشويقا أن الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني، طار إلى المغرب من أجل الاطمئنان على صحة زوجته. وحرص، في الآن نفسه، على لقاء العاهل محمد السادس الذي يجتاز فترة نقاهة بعد عملية جراحية ناجحة أجراها على الكتف. وكم بدا مؤثرا اللقاء الذي جمع بين القياديين المغاربيين كما ظهرا في الصور، فكان البعد الإنساني والأخوي حاضرا، أكثر من الأبعاد السياسية والجيوستراتيجية التي حاول محللون استقراءها، من دون أن يتبين لهم الخيط الأبيض من الخيط الأسود. نتوقف أخيرا، على سبيل التأمل، عند الإعلامي نزيه الأحدب الذي اختار أن يستهل إحدى حلقات برنامجه «فوق السلطة» على قناة «الجزيرة» بالحكاية التاريخية التالية: «عندما حرر صلاح الدين الأيوبي بيت المقدس كان ربع جيشه العظيم من المقاتلين المغاربة الذين أرادوا بعد الانتصار العودة الى أوطانهم كغيرهم من المتطوعين من بلاد الشام والعراق ومصر وآخرين… إلا أن السلطان صلاح الدين سمح للجميع بالعودة، إلا المغاربة؛ وحين سئل عن سبب تمسكه بهم وبناء حي مقدسي خاص باسمهم، قال إن المغاربة يعملون في البحر ويفتكون في البر، أشداء على الكفار لا يخافون طرفة عين في الدفاع عن المقدسات والمسلمين».