دولة القرآن: ما وراء “دينية/علمانية” – نحو نظرية مواطَناتية عالمية

ياسين الطالبي

منذ أن وُجد الإنسان على الأرض وهو في صراعٍ مع السؤال السياسي: كيف تُدار الجماعة؟ وبأي معيار يُوزَّع الحق والواجب؟ وما الذي يحفظ الكيان من الانهيار حين تتكاثر المصالح وتتنازع القوى؟ وقد تنوعت الإجابات بقدر تنوع التجارب: فكان للفراعنة تصورهم القائم على التأليه والقداسة، وكان للإمبراطوريات الكبرى تصورها القائم على الجبروت والسيطرة، وكان للمجتمعات الدينية تصوراتها التي ألبست الدولة ثوب الوحي، ثم جاء العصر الحديث بصيغه المتعددة من جمهوريات وديمقراطيات ولائكيات، كلّها تعلن، في لحظة بروزها، أنها النموذج النهائي الذي يطوي ما قبله ويمنح البشرية ضمان البقاء، غير أن التاريخ، وهو أصدق الشهود، أثبت أن جميعها لم يكن أكثر من مرحلة عابرة في امتحانٍ طويل لا يُستثنى منه أحد، وأن كل دولة، مهما تزينت بالقوة أو ادعت الخلود، تحمل في داخلها بذور فنائها ما لم تستقم على قانون الحق.

وفي زمننا المعاصر، حين بلغت التقنية ذروتها وصارت الأرض قرية مترابطة بالاتصالات والشبكات، وأصبحت مفردات مثل “التنمية” و”الحداثة” و”الديمقراطية” و”حقوق الإنسان” شعاراتٍ عالمية تُرفع في كل محفل، تخيّل الناس أن الدولة قد اكتشفت أخيرًا سرّ البقاء، وأنها تجاوزت أزمات الماضي وانعتقت من لعنة التاريخ، غير أن الوقائع تكشف شيئًا آخر تمامًا: حروبٌ لا تنقطع، فسادٌ ينهش البنى الداخلية، طغيانٌ يتجدد بأقنعة جديدة، حريةٌ تُختزل في شعاراتٍ إعلامية بينما تُصادر في العمق، وعمرانٌ مادي يزداد بهرجة بينما تغيب روحه التي تحفظ توازنه؛ وكأن العالم، في أبهى لحظاته المادية، يعيش أعمق لحظات فراغه الروحي.

هنا يتدخل القرآن لا بوصفه وثيقة تاريخية تُحيلنا إلى عصور مضت، ولا بوصفه برنامجًا سياسيًا ينافس النماذج المطروحة، بل بوصفه مرآةً كونية تكشف القانون السرمدي الذي تخضع له الدول كما يخضع له الأفراد: قانون الميزان. فالعدل، الذي قد يتصوره الناس قيمة أخلاقية اختيارية، يظهر في القرآن كشرطٍ للوجود ذاته، والحرية، التي تُختزل في السياسة المعاصرة إلى مطلب حقوقي أو شعار انتخابي، تكشف في القرآن عن حقيقتها كشرط للحياة نفسها، والعمران، الذي يحسبه الناس مجرد حركة مادية للبناء والاقتصاد، يتجلى في النص القرآني باعتباره الترجمة العملية للعدل والحرية معًا، أي ثمرة التوازن بين ميزان القيم وطاقات الإنسان. ومن وراء هذه الأركان الثلاثة يمتد الوعي بالامتحان الذي لا يتوقف لحظة، والذي يجعل كل قرار سياسي وكل تشريع وكل انحراف أو إصلاح جزءًا من مسار المصير الذي لا يرحم الغفلة ولا يُجامل القوة.

إن هذا العمل ليس بحثًا في الفقه السياسي بمعناه التقليدي، ولا هو جدل مع المدارس الفكرية حول صيغ الحكم ومفردات الدولة، ولا هو محاولة لإحياء نموذج تاريخي بعينه كأنه الحل النهائي، بل هو قراءة وجودية ترى الدولة في ضوء القرآن ككائنٍ حي يولد وينمو ويشيخ ويموت، له جسد يتمثل في مؤسساته وقوته المادية، وله روح تتمثل في وعيه بالعدل والحرية والعمران. وإذا كان الفرد يُمتحن في اختياراته الصغيرة، فإن الدولة تُوضع على محكّ التاريخ بأفعالها الكبرى، فإذا استقامت على القانون الأبدي كُتب لها البقاء، وإذا عطّلت الموازين كان سقوطها مسألة وقت، مهما بدت متماسكة في أعين الناس.

وغاية هذه الصفحات ليست أن تضع الدولة في خانة “إسلامية” أو “علمانية”، ولا أن تُحاكمها وفق مقاييس الفقهاء أو السياسيين، بل أن تزنها بالميزان الذي وضعه الوحي: هل أقامت العدل حقًا أم لا؟ هل صانت الحرية فعلًا أم لا؟ هل شيّدت عمرانًا متوازنًا يحفظ معنى الحياة أم بنت زخرفًا يخفي خرابًا داخليًا؟ هنا فقط يتحدد المصير.

فالقرآن، وهو يروي قصص القرى والإمبراطوريات، لا يروي للتسلية ولا للموعظة المجردة، بل ليقول إن كل كيان سياسي، مهما كان اسمه أو زمانه، ليس استثناءً من الامتحان، وأن التاريخ السياسي للإنسان ليس خطًّا صاعدًا يقطع مع الماضي، بل دائرة امتحان تُعاد في كل جيل. وهذا الكتاب محاولة للوقوف أمام هذه الدائرة بوعي جديد، ليقرأ الماضي والحاضر والمستقبل بلغة الميزان، وليكشف أن الدولة، كالفرد تمامًا، لا تنجو إلا بالعدل والحرية والعمران، ولا تهلك إلا إذا استسلمت للوهم والطغيان والفساد.

ولعلّ أوضح مثال على خطورة الانحراف عن الميزان القرآني هو ما شهده الشرق الأوسط في العقود الأخيرة، حيث تحوّل الواقع إلى ساحة صراع على الشرعية باسم الدين، وتصدّر الفكر السلفي المشهد بادعائه امتلاك المفاتيح النهائية لفهم النص، فاختزل القرآن في شعارات “الحاكمية” و”الولاء والبراء” و”الخلافة” باعتبارها جوهر المشروع السياسي، وكأن إقامة دولة ترفع لافتة “الإسلام” كافية في ذاتها لضمان البقاء. غير أن التجربة الملموسة أثبتت العكس: إذ إن ما أُقيم باسم الخلافة لم يكن سوى صورة جديدة للطغيان، وما رُفع تحت شعار “الحاكمية” تحوّل إلى قهرٍ واستبداد، وما بُشّر به باعتباره “تحكيم شرع الله” انتهى إلى قتل الإنسان وسلبه حريته وكرامته.

لقد قرأ الفكر السلفي الواقع قراءةً قاصرة؛ إذ جعل من النص مطيةً لسلطةٍ بشرية تتحدث باسم السماء، فحوّل القرآن من ميزانٍ مفتوح يزن الجميع إلى رايةٍ يحتكرها فريق ويقصي بها غيره. وهكذا ضاعت الفكرة الجوهرية التي يؤكدها الوحي: أن بقاء الدولة لا يتوقف عند تسميةٍ أو شعارٍ أو هويةٍ لفظية، بل عند إقامة العدل وصيانة الحرية وتحقيق العمران. وما دام هذا القانون قد عُطّل، فقد كان طبيعيًا أن تنتهي تلك المشاريع السلفية إلى فوضى وخراب، وأن تتحول شعاراتها الكبرى إلى وهمٍ قاتل يكرر مآسي الماضي بأدواتٍ جديدة.

إن الواقع في الشرق الأوسط اليوم يكشف أن المشكلة لم تكن في غياب الدين من الدولة، كما يدّعي دعاة اللائكية، ولا في غياب الخلافة كما يتوهم السلفيون، بل في غياب الميزان القرآني ذاته؛ فالعدل غُيّب لصالح الاستبداد، والحرية صودرت باسم الاستقرار أو باسم العقيدة، والعمران تحوّل إلى تكديسٍ مادي ينهشه الفساد من الداخل. ومن هنا فإن استدعاء القرآن في هذا السياق ليس تكرارًا لشعارات قديمة، بل محاولةً لتحرير النص من أَسْر القراءة السلفية التي جعلت منه أداة قمع، ومن أَسْر القراءة العلمانية التي جعلت منه غريبًا عن الدولة، وإعادته إلى أفقه الأصيل: ميزان أبدي يزن الإنسان والدولة معًا بلا استثناء.

الباب الأول: الميزان القرآني – الأساس الوجودي
العدل كقانون وجودي

ليس العدل في القرآن قيمة أخلاقية يُستحسن أن يتحلى بها الناس إذا أرادوا حياة طيبة، بل هو قانون وجودي يتوقف عليه بقاء الدولة كما يتوقف عليه بقاء الإنسان نفسه. فالآيات التي تُكرر معنى العدل لا تخاطب فقط الضمير الفردي، بل ترسم سنّة كونية: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان}، {وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل}. هذه ليست وصايا عابرة، وإنما إعلان لقانون لا يُستثنى منه أحد.

الدولة، مهما كان شكلها أو اسمها، لا تملك أن تتجاوز هذا القانون. فغياب العدل لا يعني نقصًا أخلاقيًا وحسب، بل يعني خللاً في التوازن الوجودي يقود حتمًا إلى السقوط. هكذا يخبرنا القرآن أن ظلم قومٍ لأنفسهم هو عين سقوطهم: {وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم}.

العدل إذن ليس خيارًا سياسيًا يمكن أن يُقبل أو يُرفض، بل هو شرط البقاء. فحين يختل ميزان العدل، تتحول الدولة إلى طغيان، وحين يتحول الطغيان إلى نظامٍ راسخ، يبدأ العدّ العكسي لانهيار الكيان، ولو بدا في لحظةٍ من اللحظات أنه في أوج القوة.

ولذلك، فالعدل في القرآن يسبق كل تنظيم سياسي، ويعلو فوق كل دستور. إنه ليس قانونًا وضعيًا يمكن تعديله، بل هو الناموس السرمدي الذي يحكم حركة الدول كما يحكم حركة الأفراد. والقرآن يجعل منه المعيار الأول الذي يُقاس به أي كيان: فإن تحقق، كُتب له الاستمرار؛ وإن غاب، بدأ مسار الزوال.

الحرية كشرط للحياة
إذا كان العدل هو ميزان الوجود، فإن الحرية هي الهواء الذي تتنفسه الحياة نفسها. في القرآن، الحرية ليست شعارًا سياسيًا ولا امتيازًا تمنحه سلطة حاكمة، بل هي حقّ وجودي لا تقوم الحياة الإنسانية بدونه.

الآية الجامعة {لا إكراه في الدين} لا تتعلق فقط بالاختيار العقدي، بل تكشف قاعدة عامة: لا حياة حقيقية حيث يُصادر وعي الإنسان ويُكره على مسار لم يختره. فالحرية شرط تكوين الإنسان، وبغيرها يختنق الفرد وتنهار الدولة.

الدولة في ضوء القرآن لا تُقاس بقوة جيوشها أو اتساع عمرانها، بل بقدرتها على أن تضمن للإنسان فضاء الحرية الذي يُمكّنه من الامتحان الواعي. لأن الامتحان – وهو جوهر الحياة – يفقد معناه إذا انتُزعت حرية الاختيار. فالحرية ليست “ترفًا سياسيًا”، بل ضرورة وجودية تعادل الماء والهواء.

وحين تصادر الدول حرية شعوبها، فإنها لا تقيّد الأفراد فقط، بل تخنق ذاتها. فالمجتمع الذي يُلغى فيه حق الاختيار يتحول إلى جسد بلا روح، وكل ما يبدو من انتظام وقوة ليس إلا قشرة هشة سرعان ما تنهار عند أول صدمة.

إن الحرية في القرآن ليست انفلاتًا ولا فوضى، بل هي الشرط الذي يسمح بامتحان الوعي وتحقيق العمران. ولذلك فإن أي دولة تحرم شعبها من الحرية، ولو باسم الأمن أو الاستقرار، تكون قد حكمت على نفسها بالموت البطيء، لأنها عطّلت شرط الحياة الذي لا غنى عنه.

مثال: الصوم ورمضان

في ضوء الميزان القرآني، يتضح أن الصوم ليس طقسًا جماعيًا تُشرف عليه سلطة قهرية، بل امتحان فردي يخاطب الضمير: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه}، ولم يقل النص: “فليُجبر على الصيام”. فالدولة القرآنية ليست شرطياً على بطون الناس، وإنما ميزان يضمن حرياتهم، ويترك الامتحان لضمائرهم.

من هنا نفهم أن وجود مطاعم مفتوحة في رمضان لا يتناقض مع روح القرآن؛ إذ الامتحان في جوهره فردي، لا قيمة له إذا فُرض بالقوة. ومع ذلك، يحافظ المجتمع على رمزية الصوم كهوية روحية جامعة، أي أن الحرية الفردية لا تُلغي المعنى الجماعي، لكنها لا تختزل في قانون قمعي يقتل روح الامتحان.
العمران بين البناء والخراب
العمران في القرآن ليس مجرد حركة مادية لبناء البيوت والطرقات، بل هو مفهوم وجودي يعبّر عن قدرة الإنسان على تحويل الأرض إلى فضاءٍ للحياة المتوازنة. فالآيات تقول: {هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها}، أي أنه خلقكم لتُقيموا العمران، لا لتجعلوا الأرض خرابًا.

العمران إذن هو ترجمة عملية للعدل والحرية:

بالعدل يُصان الإنسان ويستقيم ميزانه.

بالحرية يُطلق وعيه ليبدع ويعمّر.

ومن تزاوج الاثنين يولد العمران المتوازن.

لكن العمران ليس مضمونًا دائمًا؛ فهو قابل لأن ينقلب إلى خراب إذا انفصل عن قيم الميزان. فقد تبني الدول قصورًا شامخة ومدنًا عظيمة، لكنها إن أهملت العدل والحرية، فإن عمرانها يتحول إلى قشرة خاوية سرعان ما تنكسر.

هكذا يخبرنا القرآن عن سبأ: {لقد كان لسبإ في مسكنهم آية… ففجّرنا عليهم سيل العرم}. كان لهم عمران باهر، لكنه انهار حين انفصل عن شكر النعمة وتحقيق التوازن.

والعمران في القرآن ليس ماديًا فقط، بل يشمل كل أشكال الإبداع والمعرفة والتنظيم الاجتماعي. فإذا استُخدمت هذه الطاقات في خدمة الحق، صار العمران شاهدًا على رسالة الإنسان؛ وإذا استُعملت في الظلم والطغيان، صار العمران ذاته شاهد إدانة على صاحبه، يتحول من دليل قوة إلى مقدمة سقوط.

إن العمران هو المرآة التي تُظهر مدى التزام الدولة بالعدل والحرية:

عمران متوازن = دولة باقية.

عمران منفصل عن الميزان = خراب مؤجل.

الامتحان والمصير
الامتحان في القرآن ليس حادثة استثنائية تقع مرة وتنتهي، بل هو المسار الدائم للوجود الإنساني. والفرد كما الدولة معرّضان لهذا الامتحان في كل قرار وكل لحظة. الدولة ليست كيانًا محايدًا، بل كائن ممتحَن: تُعرض عليها خيارات العدل والظلم، الحرية والقهر، العمران والخراب، ومن جوابها يتحدد مصيرها.

يقول الله تعالى: {ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون}. هذه الآية تُلخص المسار: كل قوة، كل ثروة، كل فرصة، هي امتحان. فإذا استُعملت في الحق، صارت بركة ونماء، وإذا استُعملت في الظلم، تحولت إلى لعنة وزوال.

أما المصير فليس نهاية سردية تُكتب في كتاب التاريخ بعد أن تنقضي الأحداث، بل هو النتيجة الطبيعية لمسار الامتحان. فالانحراف الصغير الذي يتكرر بلا وعي يتحول إلى انهيار شامل، والعدل القليل الذي يُصان بوعي يمكن أن يمنح دولة صغيرة مناعة في وجه أعظم الإمبراطوريات.

المصير إذن ليس مفاجأة، بل ثمرة حتمية:

دولة اختارت العدل والحرية والعمران = بقاء ونماء.

دولة استسلمت للظلم والطغيان = سقوط محتوم، ولو بعد حين.

وهكذا يعلّمنا القرآن أن الامتحان لا يتوقف عند الفرد، بل يشمل الجماعة والكيان السياسي. وأن المصير لا يُقاس بالعمر الطويل ولا بالقوة العسكرية، بل بمدى مطابقة الدولة لميزان الحق الذي لا يتغير.

مثال: عقد النكاح والفنادق

لا نجد في القرآن عقدًا إداريًا اسمه “النكاح” بالمعنى الذي تطبّقه الدول الحديثة، بل نجد تركيزًا على الميثاق والدين بوصفهما جوهر العلاقة الإنسانية. النكاح في النص القرآني هو ميثاق غليظ، أي التزام روحي وأخلاقي بين طرفين يدركان أنهما داخل امتحان العمران، لا مجرد توقيع على ورقة قانونية.

تحويل الزواج إلى ورقة رسمية هو نتاج الدولة البيروقراطية التي جعلت من النكاح إجراءً إداريًا يخضع لسلطتها، أكثر مما هو التزام بميزان العمران. ولذا حين تضع بعض الدول شرط “عقد النكاح” لولوج الفنادق، فإنها تكشف عن نفسها كجهاز مراقبة للأجساد، لا كميزان يضمن العدل والحرية.

في التصور القرآني، الدولة ليست وصية على الفراش ولا رقيبًا على الغرف المغلقة، بل حَكم يزن العلاقات الإنسانية بقدر مساهمتها في العمران. فالنكاح، في جوهره، علاقة تقوم على إدراك الامتحان والالتزام بالعدل، لا على ورقة يطلبها موظف. فإذا حضر الوعي والمسؤولية كان الارتباط نكاحًا بالمعنى القرآني، حتى لو غابت الوثائق. أما إذا غاب الوعي وحضر الاستهلاك، فإن العقود تبقى شكليات فارغة لا تنهض بالعمران.

الباب الثاني: الدولة خارج التصنيفات البشرية
القرآن والدولة ما وراء “دينية/علمانية”

حين تُوضع الدولة في موازين البشر فإنها تنحصر بين ثنائيات لفظية ضيقة، تُختزل في توصيفات مثل “إسلامية” أو “علمانية”، وكأن التاريخ لم يعرف غير هذه الثنائية، وكأن الكيان السياسي محكوم إلى الأبد أن يتأرجح بين سلطةٍ تنسب نفسها إلى نصٍّ مقدّس أو سلطةٍ ترفع شعار الانفصال عن الدين؛ غير أنّ القرآن حين يقترب من الدولة، لا يدخل هذه الجدلية أصلاً، لأنه لا ينتمي إلى جنسها ولا يتحدث بلغتها، بل يتجاوزها إلى أفقٍ أعلى يجعل منها جميعًا تفاصيل عابرة في لوحة أوسع، حيث تصبح التسميات مجرد أقنعةٍ متغيرة تخفي خلفها السؤال الجوهري: هل استقام الميزان أم اختلّ؟

إنّ القرآن لا ينظر إلى الدولة من زاوية الشعار الذي تتزيّن به أو الدستور الذي تصوغه، بل من زاوية ما إذا كانت قد وعت قانون الحق الذي يحكم وجودها، فدولة تُسمي نفسها “خلافة” قد تسقط في الطغيان إذا عطّلت العدل، ودولة تُعلن نفسها “علمانية” قد تُقيم العدل والحرية فتكتسب بقاءً من صميم الميزان، وهنا ينهار السجال البشري المألوف لأن القرآن لا يزن بالأسماء بل بالحقائق، ولا يقيس بالتصنيفات بل بالنتائج التي تنبثق من وعي الامتحان.

ومن هنا يظهر أن كل خطابٍ يُحاول أن يحتكر المشروعية باسم وصفٍ سياسي هو في حقيقته مجرد محاولة لتزييف الميزان، لأن معيار البقاء لا يتوقف عند نطق الشعار بل عند إقامة القانون السرمدي؛ فالدولة ليست “إسلامية” بقدر ما هي عادلة، وليست “علمانية” بقدر ما هي قادرة على صون حرية الإنسان، فهي تنتمي إلى الحق أو تنحرف عنه بصرف النظر عن التصنيف، وتبقى أو تزول بقدر مطابقتها للناموس الكوني الذي لا يعترف بالاستثناءات.

إنّ أعظم ما يميز الميزان القرآني أنه يفضح الادعاءات قبل أن تختبرها الوقائع، فيكشف أن كل دولة تُقدّم نفسها باعتبارها النموذج النهائي ليست إلا نسخة جديدة من وهمٍ قديم، وأنّ الطريق إلى البقاء لا يُختصر في الهوية اللفظية بل في القدرة على حمل العدل والحرية والعمران في امتحان التاريخ، حيث يتحدد المصير بعيدًا عن كل ما صنعه البشر من تقسيمات لفظية لا وزن لها في قانون الوجود.

الخلافة والملك والجمهورية – قراءة قرآنية
حين ينظر المؤرخ إلى أشكال الدولة في مسار البشر، يراها متتابعة في صور الخلافة والملك والجمهورية والديمقراطية، كأنها محطات طبيعية في تطور الوعي السياسي، لكنّ القرآن، وهو يقف على الضفة الأخرى من الزمن، لا يتعامل مع هذه الصور باعتبارها مراتب نهائية أو نماذج مقدّسة، بل كأوعية متغيرة يجري بداخلها الامتحان السرمدي، أو كأقنعة يتبدل لونها وشكلها بينما يظل السؤال ثابتًا: هل تحقق العدل والحرية والعمران أم أنها مجرد زخارف تغطي انحراف الميزان؟

فالخلافة، التي توهّم بعض الناس أنها الضمان المطلق للمشروعية، قد تنقلب في لحظة إلى استبداد إذا تعطّلت روحها، فيتحول اسمها من رمزٍ للعدل إلى غطاءٍ للطغيان؛ والملك، الذي يراه آخرون مرادفًا للجبروت، قد يحمل في بعض تجاربه شيئًا من الإنصاف والرحمة فيكتب له بقاءٌ أطول مما يتوقع خصومه؛ والجمهورية، التي يُرفع شعارها كعنوانٍ للحرية، قد تنحرف هي الأخرى إلى قهرٍ مقنّع إذا فرّغت من مضمونها وتحوّلت إلى مجرد مسرحٍ للواجهة السياسية دون أن تصون كرامة الإنسان أو تحمي حريته.

إنّ القرآن وهو يستعرض مصائر الأمم لا يمنح قداسةً لأيٍّ من هذه الصيغ، بل يجعلها جميعًا عُرضة للاختبار، لأن القداسة لا تسكن في الشكل بل في الجوهر، ولا في الاسم بل في الفعل؛ وهكذا فإن كل محاولة لتعليق النجاة على صورة من صور الدولة دون وعي بميزانها هي في حقيقتها هروبٌ من السؤال الأصلي، لأن الامتحان لا يُختصر في رفع راية الخلافة أو الجمهورية أو أي صيغة أخرى، بل في المآلات التي يفضحها التاريخ حين يُعيد إنتاج السنن الكونية في كل جيل.

فالقرآن إذن يعيد ترتيب البوصلة: لا خلافة تُنقذ من السقوط إذا غاب العدل، ولا ملك ينهار بالضرورة إذا صان الموازين، ولا جمهورية تضمن الخلود بمجرد دستورٍ أو برلمان، لأن القانون القرآني لا يُقاس بالهياكل السياسية ولا ينحني أمام التوصيفات، بل يقيس الكيان بمدى اتساقه مع الحق الذي لا يتبدل، وبذلك تتحوّل هذه النماذج من نهاياتٍ متوهمة إلى محطات امتحانٍ مفتوحة، تتبدل وجوهها بينما يبقى المعيار واحدًا لا يزول.

الطغيان والوهم والخراب
حين يُحرم العدل من مكانته في صميم الدولة، يتحول الكيان السياسي، مهما كان اسمه أو هيكله، إلى طغيان، والطغيان في القرآن ليس مجرد صورة حُكم قاسٍ أو تسلّط فردٍ على رقاب الجماعة، بل هو انكسار في التوازن الكوني يجعل من القوة أداة تدمير للذات قبل أن تكون أداة قهر للآخر، إذ إن الدولة التي ترفع سيف البطش على شعبها إنما تزرع بذور فنائها في عمقها، وتستبدل رصيد البقاء بوهمٍ من الاستقرار، حتى إذا جاء الامتحان الأكبر انكشف الغطاء وتبدّد الوهم في لحظة.

والوهم، في ميزان القرآن، لا يعني فقط تصوّراً خاطئًا عن الذات أو الغير، بل هو البنية الخفية التي تُشيَّد عليها دولٌ كاملة، حيث يُغريها العمران المادي أو القوة العسكرية فتظن أن الزمن استثناها من السنن، فإذا بها أسيرة خداعٍ داخلي يُصوّر لها أنّ جبروتها كافٍ لصيانة بقائها، غير مدركة أن كل عمران بلا ميزان قيمي ليس إلا خرابًا مؤجلاً، وكل حرية بلا عدل ليست سوى سرابٍ لا يلبث أن يتبخر أمام أول عاصفة.

أما الخراب، فهو الوجه الأخير لهذا المسار، الوجه الذي لا يظهر فجأةً من العدم، بل يتشكل ببطءٍ من تآكل الموازين، حتى إذا اكتمل الانحراف لم يعد العمران القائم سوى أطلالٍ تحمل أسماء الأمجاد الغابرة، وأبنيةٍ شاهقة تُخفي خلفها هشاشة الكيان؛ فالخراب ليس سقوط الجدران فقط، بل هو تعطيل القانون السرمدي الذي يُبقي الدولة حيّة، وحين يتعطل هذا القانون تتحوّل كل قوة إلى عبء، وكل إنجاز إلى شاهد إدانة، وكل وهمٍ إلى حقيقة دامغة لا ينفع معها أسف ولا يجدي معها خطاب.

وبذلك يكشف القرآن أنّ الدولة، حين تفقد العدل، تدخل مسار الطغيان، وحين تُخدَع ببريق القوة تدخل مسار الوهم، وحين تنفصل عن الموازين تدخل مسار الخراب، وهذه ليست احتمالات جزئية بل حلقات متتابعة في سنّة لا تتوقف، بحيث يصبح مصير أي كيانٍ متروكًا لوعيه بهذا القانون: إمّا أن يُدرك أنّ قوته لا تساوي شيئًا بلا عدل، وإمّا أن يمضي في الوهم حتى ينتهي إلى خرابٍ لا مردّ له.

الأمة والكيان السياسي
حين يرد لفظ “الأمة” في القرآن، لا يُفهم على أنه مجرد كيان سياسي أو جماعة بشرية محدودة بالجغرافيا والحدود، بل يُفهم كأفق جامع يتجاوز الدولة ويمنحها معناها؛ فالأمة في التصور القرآني هي الطاقة الوجودية التي تُمكّن الكيان السياسي من الاستمرار إذا اتصلت بالحق، وتُسقطه إذا انقطعت عنه، إذ ليست الأمة مجرد كثرةٍ عددية أو اتفاقٍ عَرَضي على لغة أو نسب، بل هي وعيٌ مشترك بالامتحان ومسؤوليةٌ جماعية أمام ميزانٍ لا يُستثنى منه أحد.

أما الدولة فهي الوعاء السياسي الذي يتجسد فيه هذا الوعي أو يتشوه، فهي المظهر الظاهر لجوهر الأمة، فإذا تحقق التوازن بينهما كانت الدولة قوةً للأمة والأمة سندًا للدولة، أما إذا انفصلت الدولة عن طاقة الأمة، صارت سلطةً عارية بلا روح، وإذا انحرفت الأمة عن رسالتها، تحولت الدولة إلى قشرةٍ تُغطي فراغًا داخليًا، وسرعان ما ينكشف ذلك الفراغ عند أول اختبار.

ولأن الأمة في القرآن ليست صنفًا واحدًا بل تنقسم إلى أممٍ راشدة وأخرى ضالة، فإن الدولة تنعكس بالضرورة في مرآة هذه الثنائية: دولةٌ تعي امتحانها فتُقيم العدل وتستمسك بالحرية وتبني العمران فتصبح شاهدًا على رسالتها، ودولةٌ تتنكر لرسالتها فتتحول إلى طغيانٍ ووهمٍ وخراب، مهما كانت تسمياتها. وبذلك يغدو الفارق بين الأمة والدولة كالفرق بين الروح والجسد: روحٌ تُعطي الحياة ومعنى، وجسدٌ لا يستقيم إلا بقدر صلته بتلك الروح.

إن القرآن حين يربط مصائر الأمم بمصائر الدول، لا يذيب الواحد في الآخر، بل يكشف أن الدولة ليست سوى امتحانٍ للأمة، وأن الأمة ليست سوى امتحانٍ للدولة، وأنهما معًا يخضعان لقانون واحد لا يتبدل، بحيث لا يستطيع كيان سياسي أن يتذرع بضعف الأمة ليبرر انحرافه، ولا تستطيع الأمة أن تُلقي بوزرها على الدولة لتتنصل من مسؤوليتها، فالمصير مشترك والامتحان واحد والميزان قائم على الدوام.

االسلفية والقفز على القرآن – من الدين إلى الشريعة ومن التحرير إلى القهر
حين نتأمل مسار الدولة في القرآن، نجد أن الميزان الذي يحكم وجودها قائم على أركان واضحة لا لبس فيها: العدل كقانون وجودي لا تُستثنى منه أمة ولا فرد، الحرية كشرط للحياة والامتحان، والعمران كترجمة عملية لهذه المبادئ في بناء الأرض وصيانة التوازن بين المادة والروح. غير أن التاريخ البشري كثيرًا ما يشهد انحرافات كبرى لا تأتي من خارج النص المقدس بل من داخله، حين يُستعمل القرآن نفسه غطاءً لمشاريع سياسية أو أيديولوجية تُعطّل معاييره الجوهرية وتحوّله من رسالة تحرير إنساني إلى أداة هيمنة واستبداد، وهنا تبرز التجربة السلفية بوصفها أخطر صور هذا الانحراف في العصر الحديث، لأنها لم تكتفِ بالالتفاف على مقاصد القرآن، بل قفزت فوقه وخلقت إسلامًا بديلًا صُمِّم بعناية ليخدم السلطة من جهة ويُغذّي التكفير والعنف من جهة أخرى.

إن أول قفزة قامت بها السلفية هي تحويل مركز الثقل من “الدين” إلى “الشريعة”؛ ففي القرآن يتكرر لفظ الدين أكثر من مئة مرة ليشير إلى العلاقة الكونية بين الإنسان والحق، علاقة تتجسد في الامتحان الحر، في العدل والرحمة والعمران، بينما لا يرد لفظ الشريعة إلا مرة واحدة في قوله تعالى: {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا}، أي باعتبارها طريقًا نسبيًا ومختلفًا باختلاف الأمم والتجارب. لكن السلفية، في عملية هندسية دقيقة، قلبت المعادلة فجعلت الشريعة، وهي مفهوم جزئي نسبي، أعلى من الدين الذي هو كوني ووجودي، فتحوّلت الشريعة من أداة داخل الدين إلى غاية سياسية قائمة بذاتها، وبهذا الانقلاب صار شعار “تطبيق الشريعة” مدخلًا لاحتكار الحديث باسم الله وتكفير المخالف، بينما غُيبت حقيقة “إقامة الدين” التي تعني في القرآن إقامة العدل والحرية، لا فرض قوانين إدارية باسم السماء.

والقفزة الثانية كانت جعل السنة قبل القرآن؛ فالقرآن قدّم نفسه بصفته المهيمن على ما سواه: {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقًا لما بين يديه ومهيمنًا عليه}، أي أن المعيار النهائي للفهم والميزان هو الكتاب، حتى وهو يصدّق ما جاء قبله، فهو المهيمن لا المهيمن عليه. غير أن السلفية أعادت ترتيب المرجعيات فجعلت “السنة” هي التي يُفهم القرآن من خلالها، وكأن القرآن عاجز عن البيان إلا إذا قُدّم عبر وسيط بشري. هذا الترتيب لم يكن بريئًا، إذ سمح بانتقاء أحاديث جزئية وتوظيفها كأداة لتجميد النص القرآني، فغُيّب خطاب القرآن الواسع الكوني، وحُصر في قوالب ضيقة تتحكم فيها سلطة المرويات، وبذلك تحولت المرجعية من نصّ مفتوح على العقل والحرية إلى نصوص انتقائية تُستعمل كسلاح إقصاء وإلغاء.

أما القفزة الثالثة، فهي الاستعمال الانتقائي للآيات الثلاث الشهيرة: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون}، {… فأولئك هم الظالمون}، {… فأولئك هم الفاسقون}. هذه الآيات في سياقها الأصلي موجهة إلى أهل الكتاب الذين بدّلوا حكم التوراة، فجاء القرآن ليكشف انحرافهم ويعيد ميزان الحق إلى نصابه، وهي آيات تؤكد أن الانحراف درجات: كفر وظلم وفسق. لكن السلفية انتزعتها من سياقها وعممتها على المجتمعات الإسلامية نفسها، فصاغت منها مثلثًا تكفيريًا محكم البناء: الحاكم كافر لأنه لا يحكم “بالشريعة”، الدولة ظالمة لأنها لم ترفع شعار التطبيق الحرفي، والشعوب فاسقة لأنها رضيت أو سكتت. وهكذا صُمِّم خطاب لا يترك لأحد مخرجًا من دائرة الاتهام، بل يجعل المجتمع كله مدانًا ومطلوبًا للخلاص على يد “الطليعة المؤمنة” التي تحتكر تفسير النص.

هذه الهندسة الأيديولوجية الدقيقة، التي حولت الدين إلى شريعة، والقرآن إلى تابع للسنة، والآيات الثلاث إلى مثلث تكفيري، لم تكن مجرد خطأ في الفهم أو قصور في التفسير، بل كانت انقلابًا كاملًا على معايير القرآن، لأن القرآن جعل العدل هو المعيار لا الشعارات، والحرية هي الشرط لا الطاعة العمياء، والعمران هو الثمرة لا الخراب. وبذلك تحولت “دولة الشريعة” التي بشّرت بها السلفية إلى نقيض للدولة القرآنية: الأولى تُقيم بنيانها على القهر باسم السماء، بينما الثانية تُقيمه على التحرير باسم الحق.

ومن هنا يظهر أن المشروع السلفي لم يكن عودة إلى “السلف الصالح” كما ادّعى، بل كان في جوهره قفزة على النص لتصنيع “إسلام وظيفي” يخدم السلطة ويُنتج الطغيان؛ إسلام يجعل الطقوس بديلاً عن الجوهر، والجسد (خصوصًا جسد المرأة) بديلاً عن الروح، والعقوبات والحدود بديلاً عن الرحمة، والطاعة العمياء بديلاً عن الحرية. إن هذا الإسلام البديل لم يفسر القرآن بل تجاوزه، لم يُحي مقاصده بل عطّلها، لم يُقم العمران بل أنتج خرابًا. وهكذا يصبح الفكر السلفي أوضح صورة حديثة لمسار الطغيان والوهم الذي حذّر منه القرآن: طغيان باسم الله، ووهم بشعار الشريعة، وخراب يلتهم شعوبًا بأكملها لأنه عطّل الميزان السرمدي للعدل والحرية.

الباب الثالث: القرآن والتاريخ السياسي للإنسان
القرى القرآنية كنماذج سياسية

حين يروي القرآن قصص القرى، لا يقصد بها مجرد أماكن صغيرة في الجغرافيا القديمة، بل يقصد أن يجعل منها مرايا كونية تُعكس عليها مصائر الدول والإمبراطوريات عبر العصور، فـ”القرية” في لسان القرآن ليست وحدة عمرانية محدودة، بل صورة رمزية لكيان سياسي اكتمل بنيانه ثم دخل امتحان الوجود، فانكشف ميزانه: إما أن يستقيم بالعدل والحرية والعمران، فيكتب له البقاء، أو ينحرف في طريق الظلم والطغيان فيتحول إلى أثر بعد عين.

فعاد وثمود وسبأ لم تُذكر قصصهم للتسلية أو للوعظ الأخلاقي المجرد، بل لأنهم كانوا دولًا قائمة لها قوة وهيبة وعمران، ثم انتهت إلى مصائر مأساوية حين تعطلت الموازين. عاد اغترت بجبروتها في البناء والبطش، فصارت قوتها دليل سقوطها، وثمود انشغلت بعمران الصخور ولم تُدرك أن العمران بلا عدل يتحول إلى قبر مفتوح، وسبأ غرّتها وفرة النعمة حتى صارت النعمة نفسها امتحانًا عظيمًا، فلما انحرفت عنه انفجر عليها سيل العرم الذي لم يترك من حضارتها إلا أثرًا يرويه التاريخ.

وهكذا فإن القرى القرآنية ليست أحداثًا من الماضي، بل نماذج متكررة في كل عصر، يُعاد إنتاجها في صورٍ مختلفة: دول عظمى اليوم تتباهى بقوتها التكنولوجية كما تباهت عاد ببنيانها، وأخرى تُشيّد عمرانًا ماديًا هائلًا بلا أساس قيمي كما فعلت ثمود، وثالثة تُسرف في استهلاك نعمها دون وعي بالامتحان كما فعلت سبأ، وكلها في النهاية تخضع للميزان ذاته، إذ لا حماية من السقوط إلا بالعدل والحرية.

وبذلك يُثبت القرآن أن التاريخ السياسي للإنسان ليس خطًّا صاعدًا يتجاوز الماضي إلى مستقبل مختلف بالكلية، بل هو دائرة امتحان تتكرر فيها السنن، بحيث تصبح القرى القرآنية علامات خالدة على الطريق، تنذر كل دولة بأنها ليست استثناءً، وأن المصير الذي لحق بغيرها مرهون بالميزان ذاته الذي لا يتغير ولا يزول.

الإمبراطوريات الكبرى والميزان
حين نقرأ تاريخ الإمبراطوريات الكبرى من خلال المنظور القرآني، ندرك أنها لم تكن مجرد كيانات توسعية أو آلات حرب وسيطرة، بل كانت تجارب إنسانية كاملة وضعت على محكّ الامتحان، فأظهرت كيف أن القوانين السرمدية تعمل بلا هوادة، وكيف أن الميزان لا يُجامل قوةً عسكرية ولا يُغريه بريق حضارة. فالفراعنة الذين ملؤوا وادي النيل بآثار شامخة، لم يسقطوا لأن جدران معابدهم تهاوت، بل لأنهم جعلوا من الطغيان قانونًا، ومن الاستعباد نظامًا، فانكسرت روح دولتهم قبل أن تنكسر حجارتها؛ وبابل التي تصوّرت أنها عاصمة الدنيا، لم تُدمرها الأسوار العالية، بل دمّرها الغرور الذي جعلها تحسب أن النصر قدر أبدي، فإذا بها تنهار في لحظة أمام سنّة لا تعرف الاستثناء.

أما روما، التي امتدت من أطراف الصحراء إلى قلب أوروبا، فقد أعطت المثال الأوضح على أن القوة العسكرية والهيمنة الإدارية لا تحصّن كيانًا إذا تعطّل الميزان؛ فقد بدت وكأنها سيدة العالم، لكنّها تحولت إلى جثةٍ تاريخية حين استبدلت العدل بالنهب، وجعلت من الحرية امتيازًا للنخبة، ومن العمران أداة ترف لا يطال إلا القلة، فكان سقوطها أشبه بزلزالٍ أعاد توزيع موازين الأرض.

وهكذا يضع القرآن القاعدة: الإمبراطوريات الكبرى لا تسقط لأنها عانت من أزمة اقتصادية أو هزيمة عسكرية عابرة، بل تسقط لأنها فقدت صلتها بالحق، إذ العدل إذا غاب تحوّل العمران إلى عبء والوحدة إلى هشيم، والحرية إلى وهم لا يصمد. ومن هنا فإن كل إمبراطورية، مهما بلغت من جبروت، محكومة بالامتحان نفسه: أن تختار بين ميزان الحق وسنن الانحراف، فإذا اختارت الأول كتبت اسمها في سجل البقاء، وإذا اختارت الثاني تحولت قوتها إلى لعنة تدمر ذاتها من الداخل.

إن قراءة الفراعنة وبابل وروما بالميزان القرآني تكشف أن التاريخ ليس مجرد توالي أحداث، بل هو كتابٌ مفتوح للسنن، يذكّر كل دولة معاصرة أنها ليست أبدًا خارج الحساب، وأن جبروتها أو ضعفها لا يغيّر من القانون شيئًا، لأن الميزان خالد، ولأن الحق وحده هو الذي يمنح الكيان معنى البقاء.

من التاريخ إلى الحاضر
حين ننتقل من صفحات التاريخ القديم إلى العصور الأقرب، ندرك أن السنن لم تتوقف يومًا، وأن الميزان الذي أسقط الفراعنة وبابل وروما هو نفسه الذي أعاد رسم مصائر كياناتٍ ظنّت أنها عصيّة على السقوط، فالأندلس التي جمعت بين روعة العمران وبهاء المعرفة، لم تُفقدها مكانتها جحافل الأعداء فحسب، بل أضاعتها لحظة غياب العدل بين مكوناتها، وانقسامها على نفسها، وتناسيها أن العمران وحده لا يحمي إذا تعطّل الميزان. وكذلك العثمانيون، الذين مدّوا سلطانهم قرونًا طويلة، لم تنهِ قوتهم الهائلة معركة واحدة، بل أنهى مسارهم الطويل تفكك داخلي أكل من صميمهم حين استبدلت الحرية بالقهر، ومالت الكفة من إقامة العمران إلى استهلاكه، فكان سقوطهم دليلًا على أن الامتحان لا يُستثنى منه أحد.

والحاضر ليس بمنأى عن هذه القراءة؛ فما نراه اليوم من دولٍ ترفع رايات الحداثة والعلم والتقدم لا يعني أنها تجاوزت ميزان القرآن، بل يعني أنها تخضع له بطرقٍ أخرى: فكل نظام يفرغ الحرية من معناها، أو يجعل من العدل امتيازًا لفئة دون أخرى، أو يحوّل العمران إلى مظاهر سطحية تعجز عن صون الإنسان، إنما يعيد إنتاج مصائر عاد وسبأ وروما والأندلس والعثمانيين في ثوبٍ جديد. وهكذا يصبح الحاضر مجرد فصلٍ آخر من كتابٍ قديم تُعاد قراءته بلغة مختلفة، لكنه يظل خاضعًا لنفس القانون.

إن الانتقال من التاريخ إلى الحاضر ليس قفزة زمنية، بل هو انتقال في المرآة نفسها: كل حضارةٍ أو دولةٍ تُطل على نفسها من خلال القرآن تدرك أنها تعيش لحظة امتحان متجددة، وأن مصيرها ليس رهينًا بما تملكه من أسلحة أو تقنيات أو أسواق، بل بما تحمله من وعي بالميزان، وأن هذا الوعي هو الذي يحدد ما إذا كانت ستبقى جزءًا من حركة العمران المتوازن، أو ستُطوى صفحتها لتصبح مثالًا جديدًا على سنن الزوال.

قراءة الواقع المعاصر
حين نُسقط المرآة القرآنية على حاضرنا، لا نجد أمامنا كيانات استثنائية ولا دولًا محصّنة بالعلم أو التقنية أو القوة الاقتصادية، بل نجد قرى قرآنية معاصرة، تتكرر فيها السنن كما تكررت في الماضي، إذ تبدو الأمم المتحدة كمنصةٍ جامعة للإنسانية، لكنها في حقيقتها امتحان عالمي لمدى قدرة البشر على جعل العدل معيارًا فوق مصالح القوة، والاتحاد الأوروبي، الذي يُقدَّم بوصفه تجربة وحدوية متقدمة، ليس إلا نسخة حديثة من امتحان التوازن بين الحرية والعمران، فإما أن يُقيم العدل بين مكوناته وإما أن تتحول وحدته إلى هشيم يذروه الريح، وأمريكا، التي تُهيمن على العالم بالمال والسلاح والتقنية، ليست كيانًا محصنًا من السقوط، بل دولة ممتحَنة مثل غيرها، محكومة بالقانون نفسه: إن غاب العدل استحال جبروتها إلى لعنة، وإن صودرت الحرية تحوّل عمرانها إلى قشرة فارغة لا تصمد أمام امتحان التاريخ.

وحتى الدول الصغيرة، التي تظن أن ضعفها قدر محتوم، تقرأ نفسها في ضوء القرآن فتدرك أن الضعف ليس هزيمة إذا استمسكت بالعدل، وأن قلة الموارد ليست عائقًا إذا جعلت الحرية والوعي أساسًا لعمرانها، إذ إن القرآن يكشف أن البقاء لا يُقاس بالمساحة ولا بالعدد، بل بمقدار مطابقة الكيان لقانون الحق، وأن الدولة التي تحمل وعي الامتحان قادرة على الصمود في وجه قوى أعظم منها، بينما الدولة التي تغفل عن هذا الوعي تسقط حتى لو تزينت بمظاهر القوة.

وبذلك فإن قراءة الواقع المعاصر بالميزان القرآني تكشف أن الحضارة الحديثة، بكل ما تملكه من علوم وأقمار صناعية وأسواق عابرة للحدود، ليست خارج دائرة الامتحان، بل هي نسخة متجددة من عاد وثمود وسبأ وروما، مهددة بالزوال إن غابت عن وعيها شروط البقاء، ومؤهلة للاستمرار إذا أقامت العدل وصانت الحرية وشيّدت العمران المتوازن؛ وهكذا يظهر أن القرآن ليس نصًا يُقرأ للتاريخ فحسب، بل ميزان حيّ يزن الحاضر لحظةً بلحظة، ويكشف أن المستقبل ليس إلا امتدادًا لقانونٍ قديم لا يتبدل.

الباب الرابع: الدولة المعاصرة في ضوء القرآن
الدولة الحديثة وإغراء التقنية

الدولة الحديثة حين تنظر في مرآتها ترى صورةً باهرة، مؤسسات معقدة، نظم دقيقة، تقنيات هائلة تمتد من الأرض إلى الفضاء، وتتصور أن هذه الأدوات حصانة كافية ضد السقوط، غير أن القرآن حين يزنها يكشف أن التقنية ليست درعًا واقيًا، بل امتحانًا جديدًا قد يتحول إلى لعنة إذا انفصل عن الموازين، إذ إن العمران المادي حين يُقدّم كبديلٍ عن العدل، والقوة الرقمية حين تُستعمل لمصادرة الحرية بدلًا من حمايتها، يتحول كل ما في الدولة من مظاهر حداثة إلى قشرة هشة لا تختلف عن جدران عاد ولا أسوار بابل.

إن التقنية ليست في الميزان القرآني إلا وسيلةً تابعة، إما أن تكون أداةً لتمكين الإنسان من أداء رسالته في العمران، وإما أن تصبح أداة لتسليع الإنسان وتشييئه حتى يفقد وعيه بالامتحان، وحينها تنقلب الدولة على ذاتها دون أن تشعر، لأن التطور العلمي إذا لم يُوازن بالعدل، يتحول إلى استعباد جديد، وإذا لم يُقترن بالحرية، يصبح مراقبة خانقة، وإذا لم يُتوج بالعمران المتوازن، يصير زخرفًا يخفي خرابًا داخليًا يفتك بالكيان من جذوره.

ولذلك فإن الدولة الحديثة، على الرغم من قوتها الظاهرة، تبقى خاضعة للقانون نفسه الذي أسقط الإمبراطوريات القديمة: العدل شرط البقاء، لا التقنية؛ الحرية شرط الحياة، لا الأنظمة الأمنية؛ العمران المتوازن شرط الاستمرار، لا ناطحات السحاب ولا العواصم الذكية. فالامتحان لم يتغير، وإن تغيّرت أدواته، والمصير لم يتبدل، وإن تبدلت مظاهره، والميزان لم يَهن، وإن تخيلت البشرية أن العلم قد أغناها عن الحق.

الدولة الصغيرة والعدل
في عالمٍ تتحكم فيه القوى العظمى وتتصارع فيه الإمبراطوريات الحديثة على النفوذ، قد تظن الدول الصغيرة أن ضعفها قدرٌ محتوم، وأنها ليست سوى فراغات بين خرائط الكبار، لكنّ القرآن يقدّم قراءة مغايرة تمامًا، إذ يكشف أن العدل الذي تقيمه الدولة الصغيرة في حدودها الضيقة يمنحها مناعة لا تملكها دول جبارة تملأ الدنيا صخبًا وضجيجًا، وأن الحرية التي تتيحها لمواطنيها تصنع من قوتها المعنوية ما يجاوز كل المقاييس العسكرية أو الاقتصادية، وأن العمران المتوازن الذي تبنيه في محيطها قد يجعلها أشد ثباتًا من كياناتٍ عظمى تهتز من الداخل وإن بدت متماسكة من الخارج.

فالعدل في الدولة الصغيرة ليس رفاهية أخلاقية، بل هو حائط الصدّ الأول ضد الفناء، إذ لا تملك هذه الدول ترف المغامرة بالقهر ولا مساحة الانحراف عن الميزان، فإن فعلت انهارت سريعًا لأن مواردها لا تسمح لها بالاستمرار في الوهم طويلًا، أما إذا استمسكت بالعدل، فإن ضعفها المادي يتحول إلى قوةٍ رمزية، وتجربتها تتحول إلى نموذج يُحتذى، فتنجو من مصائر الطغاة العظام الذين أسقطتهم سنن الله بعد أن ركنوا إلى القوة وغفلوا عن الحق.

إن الدولة الصغيرة حين تُقيم العدل تكتسب شرعية وجود لا تُقاس بجيشٍ ولا بحدود، بل تُقاس بمدى انسجامها مع الناموس السرمدي الذي يهب البقاء لمن وعاه، والقرآن يُعلّمنا أن الكثرة ليست دليل نجاة، وأن الضخامة ليست ضمانة حياة، فـ”كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله”، والمعنى ممتد إلى الدولة كما هو ممتد إلى الفرد، إذ إن العبرة ليست بمقدار الإمكانات بل بمدى الوعي بالامتحان، وكل دولة صغيرة أدركت هذا القانون وأقامته كانت أكبر من حجمها الجغرافي، وأبقى من إمبراطورياتٍ ضاعت في زحام الوهم والخراب.

الاختبار المتكرر
الدولة المعاصرة، مهما بلغت من التقدم أو أحكمت من أنظمتها، ليست في مأمن من الامتحان الذي يرافقها في كل خطوة؛ فالاختبار لا يقع مرة واحدة في لحظة حاسمة ثم يُطوى، بل يتكرر في كل قرار سياسي، في كل قانون يُسنّ، في كل موقف تُتخذ فيه الكلمة إزاء الحرية أو العدل أو العمران، وكأن التاريخ يعيد عرض الأسئلة نفسها بأشكال جديدة، ليتبين هل تعلّمت الدولة درس البقاء أم أنها ما تزال تكرر انحرافات الماضي بأدواتٍ مختلفة.

فالاختبار قد يأتي في صورة أزمة اقتصادية تُجبر الدولة على الاختيار بين حماية الضعفاء أو حماية مصالح الأقوياء، وقد يأتي في صورة اضطراب أمني يُغريها بمصادرة الحريات تحت ذريعة الحفاظ على الاستقرار، وقد يأتي في صورة وفرةٍ من النعم تجعلها أمام سؤال الشكر: هل تُسخَّر النعمة لإقامة العمران المتوازن أم تتحول إلى وسيلةٍ للاستهلاك واللهو؟ وكل هذه ليست أحداثًا عرضية بل وجوه متعددة لامتحان واحد يتكرر: هل الدولة واعية بالميزان أم غافلة عنه؟

وإذا كان الفرد يُمتحن في كل تفاصيل حياته الصغيرة، فإن الدولة تُمتحن في القرارات التي تُغيّر مصائر الملايين، ومن هنا فإن خطأها ليس خطأً عابرًا بل انحراف في مسارٍ كامل، ولذلك كان وعيها بالامتحان شرطًا لنجاتها؛ إذ الدولة التي تدرك أن كل أزمة ليست سوى اختبار جديد، تبقى يقظة، تراجع نفسها وتعود إلى الموازين، أما الدولة التي تتصور أن الاختبار انتهى بمجرد قوتها العسكرية أو الاقتصادية، فإنها تنام على وهمٍ قصير لا يلبث أن ينقلب عليها في صورة سقوطٍ مدوٍّ.

إن الاختبار المتكرر هو البرهان على أن القرآن لا يتحدث بلغة الماضي فقط، بل يرافق الدولة لحظة بلحظة، ويكشف لها أن الامتحان لا يُؤجل إلى نهاية التاريخ، بل يُسجَّل في تفاصيل حاضرها، وأن مصيرها ليس مفاجأة تأتي من خارجها، بل نتيجة تراكمية لاختباراتٍ وُوجهت بها وأجوبتها عليها.

الوعي بالمصير
المصير في القرآن ليس غيبًا مؤجَّلًا يظل معلقًا حتى نهاية الزمن، بل هو خاتمة منطقية لمسارٍ اختارته الدولة بوعي أو بغير وعي، ولذلك فإن أخطر ما يواجه الكيانات السياسية ليس مجرد قراراتها المباشرة، بل مستوى إدراكها لحقيقة أن كل خطوة في طريقها إنما تُنقش في سجل المصير؛ فإذا غاب هذا الوعي، عاشت الدولة في وهم أن حاضرها مضمون وأن مستقبلها ملك يدها، بينما هي في الحقيقة تنسج بخيوط قراراتها مصيرًا محددًا لا مرد له.

إن الدول التي تتوهم أن قوتها المادية أو هيمنتها الاقتصادية تصنع لها حصانة مطلقة، تُشبه من يمشي على أرضٍ رخوة وهو يظنها صلبة، فلا يشعر إلا والانهيار يبتلعه فجأة؛ أما القرآن فيكشف أن المصير يُبنى لحظة بلحظة: كل عدل يُكتب في رصيد البقاء، وكل ظلم يُخصم من عمر الكيان، وكل حرية تُمنح تعطيه روحًا جديدة، وكل قيدٍ يُفرض يخنقه من الداخل، حتى إذا اكتمل الميزان ظهرت النتيجة لا كحادثة مفاجئة بل كحصادٍ طبيعي لمسار طويل.

والدولة التي تُدرك أن مصيرها ليس خارجًا عنها بل منبثق من صميم قراراتها، تعيش يقظة دائمة، فترى في كل امتحان إنذارًا أو فرصة، وتقرأ في كل أزمة مآلًا محتملًا، فتصوغ سياساتها بروح من يعي أن كل انحراف صغير يمكن أن يتضخم حتى يصير قدرًا محتومًا، وأن كل خطوة وئيدة نحو الحق تُضاعف عمرها وتمنحها معنى يتجاوز اللحظة.

وهكذا يتضح أن الوعي بالمصير هو أعمق ما يميز الدولة الراشدة عن الدولة الغافلة؛ فالراشدة ترى في نفسها كائنًا يُمتحن في كل حين، والمصير حاضر أمامها كمرآة تكشف نتائج أفعالها قبل أن تقع، بينما الغافلة تنظر إلى المصير كحدثٍ بعيد لا يعنيها الآن، فإذا بها تُفاجأ بأن نهايتها بدأت منذ اللحظة التي غفلت فيها عن الوعي بالامتحان، وأن سقوطها لم يكن إلا تحصيل حاصل لمسارٍ تجاهلت معالمه.

الباب الخامس: الفلسفة القرآنية للدولة
الدولة ككائن حي

حين يُطلّ القرآن على الدولة، لا يتعامل معها كآلة إدارية باردة أو مجرد جهاز قانوني ينظم العلاقات، بل يرسمها ككائن حيّ يولد وينمو ويُبتلى ويشيخ ويموت، له جسد يتمثل في مؤسساته وقوته المادية، وله روح تتمثل في وعيه بالعدل والحرية والعمران، فإذا فُصل الجسد عن الروح صار كيانًا ميتًا وإن بدا متحركًا، وإذا اجتمع الاثنان اكتسب معنى البقاء في دورة الحياة الكبرى التي يخضع لها كل موجود.

فالدولة تولد حين تكتشف جماعة بشرية توازنًا جديدًا بين عناصرها، وتنمو حين يُصان العدل وتُطلق الحرية وتُشاد معالم العمران، وتُبتلى حين تُعرض عليها مغريات القوة والثروة والهيمنة، فإن وعَت أن هذه كلها امتحانات عابرة ثبتت واستمرت، وإن غفلت انحرفت مسالكها وبدأت رحلة الشيخوخة التي لا توقفها قوة السلاح ولا بريق العلم. ثم تموت الدولة حين يكتمل الانفصال بين جسدها وروحها، فيبقى الاسم والحدود بينما يذوي المعنى وينهار الكيان من الداخل.

وهذا الفهم القرآني يُغيّر نظرتنا إلى السياسة رأسًا على عقب؛ فالدولة ليست معادلة قانونية ولا تنظيرًا بشريًا خالصًا، بل كائنٌ يخضع للناموس الكوني، يُمتحن كما يُمتحن الفرد، ويُحاسب كما تُحاسب الأمة، ويُسجل في كتاب التاريخ كما تُسجل مصائر القرى، ليُقال عنه: عاش لأنه أقام الميزان، أو مات لأنه عطّله. وهكذا يغدو الكيان السياسي في القرآن صفحةً من كتاب الحياة، تتنفس وتخطئ وتُجازى، فلا خلود بلا عدل، ولا حياة بلا حرية، ولا شباب بلا عمران متوازن، ولا موت إلا حين تُهمل هذه الأركان.

الدولة كمرآة للإنسان
حين نضع الإنسان أمام الدولة في ضوء القرآن، لا نراهما ككيانين منفصلين، بل كصورتين متقابلتين في مرآة واحدة: الفرد يُمتحن في ضميره واختياره وفعله، والدولة تُمتحن في قوانينها وسياساتها ومسارها، فإذا صلح الفرد بالعدل والحرية والعمران انعكس ذلك في الدولة، وإذا فسدت الدولة بالظلم والطغيان أعادت إنتاج الفساد في نفوس الأفراد، حتى يصبح الكيان السياسي مجرد صورة مكبرة لوعي الناس أو غفلتهم.

فكما أن الإنسان يملك جسدًا وروحًا، إرادةً وشهوة، وعيًا وغفلة، كذلك الدولة تملك مؤسسات وقوانين، لكنها لا تنجو بهذه الأدوات وحدها إن لم تُدار بوعي أخلاقي وروحي، إذ إن القرآن يجعل من الدولة امتحانًا للجماعة كما يجعل من الإنسان امتحانًا لنفسه، فلا يمكن أن ينفصل المصير الفردي عن المصير الجماعي، ولا يمكن أن تتحصن الدولة عن فساد الإنسان الذي كوّنها، ولا أن ينجو الإنسان من تبعات الدولة التي عاش في ظلها.

ومن هنا نفهم أن الدولة ليست شيئًا خارج الإنسان، بل هي ظلّه المكبَّر: إن كان الفرد صادقًا مع نفسه، انعكست الصدق في منظومة تحكمه، وإن كان غارقًا في الوهم، تجسّد الوهم في دولة تزين لنفسها الخلود وهي سائرة إلى السقوط، وإن كان الوعي حاضرًا في الفرد، تبلور في دولة تُدرك امتحانها وتعي مصيرها. وهكذا يغدو الكيان السياسي مرآة لا تُخفي شيئًا: تعكس صورة الإنسان كما هو، لا كما يتوهم أن يكون.

فالقرآن إذن يجعل من الدولة امتحانًا للإنسان، ومن الإنسان امتحانًا للدولة، وكأنهما يكتبان معًا قصة واحدة، لا يمكن فهم أحد طرفيها دون الآخر، ولا يمكن النجاة في أحدهما إلا بالوعي المتبادل بأن الميزان واحد، وأن ما يصلحه في الفرد يصلح في الدولة، وما يفسده في الدولة يفسد في الفرد، وأن كليهما في النهاية سيقف أمام المصير نفسه: جزاءً بما كسبت الأيدي، على مستوى الإنسان، وعلى مستوى الأمة والكيان السياسي.

الدولة في القرآن: ليست ثيوقراطية ولا لائكية

الدولة الثيوقراطية كما عرفها التاريخ هي التي تحكم باسم الله من خلال طبقة رجال دين ينطقون باسم السماء، فتختزل إرادة الله في سلطتهم، وتجعل طاعتهم مرادفة لطاعة الحق. أما الدولة اللائكية فهي التي أقامت جدارًا عازلًا بين الدين والسياسة، ففصلت القانون عن أي مرجعية متجاوزة، واعتبرت الإنسان هو المصدر الأوحد للشرعية والمعنى. كلا الصورتين ولد من سياق تاريخي مخصوص: الأولى من هيمنة الكنيسة في العصور الوسطى، والثانية من التمرد الأوروبي على ذلك الإرث.

لكن حين نقرأ الدولة في ضوء القرآن، نجد أنفسنا أمام شيء مختلف تمامًا: ميزان أبدي لا ينتمي إلى هذه الثنائية، لأنه لا يقوم على سلطة رجال دين يحتكرون الحقيقة، ولا على قطيعة كاملة مع السماء، بل على قانون سرمدي مفتوح للجميع: العدل، الحرية، العمران، الوعي بالامتحان، والمصير. فالقرآن لا يمنح سلطة مطلقة للبشر باسم الله، ولا يترك البشر في فراغٍ بلا معيار، بل يجعل الدولة ممتحنة مثله مثل الفرد، خاضعة لناموسٍ يراقبه الجميع ويزنونه.

الحرية الفردية والجسد في الدولة القرآنية

القرآن حين يتحدث عن الحرية، لا يقف عند حرية الرأي أو الاعتقاد، بل يفتح الباب واسعًا لحرية الإنسان في جسده واختياراته، لكنه في الوقت نفسه يضع هذه الحرية في إطار الامتحان. أي أن الإنسان حرّ في أن يختار، لكن اختياره ليس بلا معنى، بل هو مسؤولية وجودية، وسيُحاسب عليه أمام ميزان الحق. هذا يعني أن الدولة القرآنية لا تُقيم جهازًا بوليسيًا لمطاردة الحياة الخاصة للأفراد، لأنها ليست دولة وصاية أخلاقية، بل دولة امتحان تتيح للإنسان أن يعيش حرًّا ليختبر وعيه.

ولهذا يمكن تخيّل أن الحرية الجنسية الفردية موجودة في إطار الدولة القرآنية، بشرط ألا تتحول إلى اعتداء على العمران أو تعطيل للبنية الاجتماعية التي تُبقي المجتمع قادرًا على أداء رسالته. أي أن حرية الفرد تبقى قائمة ما دامت لا تتحول إلى قوة هدم لبنية العمران، مثلما أن حرية الاقتصاد مشروعة ما دامت لا تتحول إلى احتكار يقتل التوازن. فالميزان هنا يضبط العلاقة: لا قمع يميت الحرية، ولا فوضى تفتك بالعمران.

سرّ الخلود

حين ننظر في مصائر الدول في ضوء القرآن، يتبدى لنا أن الخلود ليس وهمًا أسطوريًا ولا امتيازًا تمنحه السماء لطائفة بعينها، بل هو سرّ الميزان الأبدي الذي يجعل من العدل روحًا متجددة، ومن الحرية نسغًا جاريًا، ومن العمران ثمرًا حيًا لا يذبل؛ فالكيان السياسي الذي يعي هذا السر يكتسب بقاءً يتجاوز عمر الأجساد والأبنية، ويترك أثرًا ممتدًا في التاريخ حتى إذا زالت حدوده الجغرافية أو تبدلت مؤسساته.

الخلود في القرآن ليس استمرار الجسد، بل دوام الروح؛ فكم من دولة عمّرت قرونًا ثم اندثرت ولم تترك أثرًا إلا في سجلات الآثار، وكم من كيان عاش عقودًا قصيرة لكنه ترك من الرسالة ما أبقى اسمه خالدًا في ذاكرة البشر. فالقرآن يجعل الخلود مرهونًا بالقدرة على أن تعيش الدولة ككائن واعٍ بامتحانه، يختار العدل في وجه الظلم، ويصون الحرية أمام غواية القهر، ويشيّد العمران في مواجهة الخراب، فإذا فعلت ذلك صارت جزءًا من حركة الحق التي لا تبيد، أما إذا عطّلت الموازين، فإن قوتها كلها لا تحفظها من الفناء، بل تُسرّع سقوطها.

وسرّ الخلود إذن لا يكمن في الشكل السياسي ولا في النظام المؤسسي، بل في تجدد الوعي بالامتحان؛ فالدولة التي تعرف أن كل لحظة اختبار، وأن كل قرار يرسم مآلها، تبقى يقظة فلا تفقد روحها، وإذا فقدت جسدها بقيت في الذاكرة الإنسانية شاهدًا على الحق؛ أما الدولة التي تتوهم أن الخلود يُشترى بالقوة أو يُصان بالقهر، فإنها تهلك حتى لو امتدّ عمرها زمنًا، لأن الخلود في جوهره ليس طول البقاء، بل أن يبقى الكيان متصلًا بالحق الذي لا يزول.

وهكذا يظهر أن الدولة في القرآن ليست موعودة بالخلود المادي، بل بخلود الرسالة؛ فالبشر يبنون ويهدمون، والدول تقوم وتنهار، لكن ما يظل حيًا هو ما صلح من العدل والحرية والعمران، وما وعاه الكيان من امتحانه ومصيره، وهذا هو السرّ الذي يجعل القرآن ميزانًا لا يتقادم: إنه يمنح الدولة معنى البقاء حتى بعد موتها، ويمنح الإنسان وعيًا بأن الخلود ليس وعدًا بالزمن، بل وعدًا بالحق.

الباب السادس: القرآن ومصائر الدول
العدل والحرية كأساس للبقاء

حين يتحدث القرآن عن مصائر الأمم لا يربط بقاءها بوفرة الموارد ولا بقوة الجيوش ولا باتساع الرقعة الجغرافية، بل يربطه بشرطين لا ثالث لهما: العدل والحرية. فهما ليسا قيمًا أخلاقية يُستحسن التزين بها، بل هما الأساس الذي يقوم عليه العمران كله، وهما الروح التي تمنح الدولة حق البقاء، فإذا تعطلا تحوّل الكيان إلى جسدٍ بلا نفس، يتآكل من الداخل وإن بدا شامخًا من الخارج.

العدل في الدولة هو ما يحفظ ميزان العلاقات بين الأفراد والجماعات، وهو ما يمنع القوة من أن تتحول إلى طغيان، وهو ما يجعل القانون أداةً لحماية الإنسان لا أداةً لإذلاله. وحين يغيب العدل، تتحول الدولة إلى وحشٍ مفترس يلتهم أبناءه، ثم ينهار حين يفقد جسده القدرة على احتمال هذا التناقض.

أما الحرية فهي الشرط الذي يمنح الإنسان معنى وجوده، فإذا سُلبت تحوّل المجتمع إلى قطيعٍ بلا وعي، وتحولت الدولة إلى قفصٍ كبير يختنق فيه الجميع، ولا يلبث أن ينفجر عند أول امتحان. الحرية في القرآن ليست ترفًا سياسيًا، بل شرطًا للامتحان ذاته: إذ كيف يُمتحن الإنسان إن لم يكن قادرًا على الاختيار؟ وكيف تُحاسب الدولة إن كانت شعوبها محرومة من أن تقول “لا” أو أن تُفكر خارج ما يُملى عليها؟

ومن هنا يظهر أن العدل والحرية ليسا منفصلين: فالعدل بلا حرية قهرٌ مُقنّع، والحرية بلا عدل فوضى مُدمرة، ولا يُكتب البقاء إلا حين يجتمع الاثنان في كيان واحد، فيكون العدل أساس القانون، وتكون الحرية فضاء الامتحان، وحينها يزدهر العمران ويُكتب للدولة أن تبقى في سجل الحق. أما إذا اختل الميزان وغاب أحد الشرطين، فإن المصير محتوم، لأن القرآن لا يقيس الأعمار الزمنية بل يقيس الاتساق مع الناموس السرمدي، وكل دولة عاشت بالعدل والحرية بقيت، وكل دولة غفلت عنهما مهما بلغت قوتها هلكت.

الطغيان والفساد طريق إلى الزوال

الطغيان في القرآن ليس مجرد صورةٍ لحاكمٍ متجبّر يرفع صوته فوق أصوات الناس، بل هو انحراف شامل يصيب الكيان كله حين يُستبدل ميزان العدل بسلطان القوة، وحين تتحول الدولة من راعٍ للإنسان إلى سيفٍ مسلطٍ على عنقه، فينقلب الوجود السياسي من امتحانٍ للوعي إلى مسرحٍ للقهر، ويصبح الجبروت الذي يبدو للعيان قوةً متماسكة في الحقيقة بذرةً لخرابٍ محتوم.

أما الفساد فهو الوجه الآخر لهذا الانحراف؛ إذ يبدأ خفيًّا في تفاصيل صغيرة: رشوةٌ تُغضّ عنها الأبصار، قانونٌ يُفصّل لمصلحة الأقوياء، ظلمٌ يُبرَّر بذريعة الأمن، ثم ما يلبث أن يتسع حتى يصير شبكةً خانقة تحكم المجتمع وتُفرغ العمران من معناه. والقرآن حين يصف الذين “طَغَوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد” يعلن أن النتيجة ليست احتمالًا بل يقينًا: {فصبّ عليهم ربك سوط عذاب}.

فالطغيان والفساد ليسا ظاهرةً عابرة بل طريقًا واضحًا إلى الزوال، لأن الدولة التي تُقيم بنيانها على الظلم تكون كمن يبني قصرًا على الرمال: قد يعلو في نظر الناس، لكنه ينهار عند أول موجة. وما يبدو من تماسك ليس إلا وهماً يخفي وراءه انكسار التوازن الداخلي، فإذا اكتمل الانحراف انهار البناء كله دفعة واحدة، كما انهارت القرى القرآنية والإمبراطوريات التي خلّدها التاريخ في سجل العِبر لا في سجل البقاء.

ومن هنا يتضح أن الطغيان والفساد ليسا انحرافًا أخلاقيًا فقط، بل انتحارًا وجوديًا، لأنهما يقطعان صلة الدولة بالناموس السرمدي، ويحوّلان القوة إلى لعنة، والعمران إلى خرابٍ مقنّع، والحرية إلى فراغٍ لا يُطاق، حتى إذا جاء الامتحان ظهر أن الكيان كله كان يعيش في وهمٍ لم يحمه من المصير المحتوم.

الإمبراطوريات المعاصرة في مرآة القرآن

الإمبراطوريات الحديثة، بما تملكه من جيوش جرّارة، وأسواقٍ عابرة للقارات، وشبكاتٍ تكنولوجية تُحكم قبضتها على تفاصيل الحياة اليومية، تبدو وكأنها خرجت من دائرة السنن التي أسقطت الفراعنة وبابل وروما، غير أنّ القرآن حين يُسقط ميزانه عليها يكشف أنها ليست استثناءً، بل نسخة جديدة من القرى القرآنية وقد أُعيد إنتاجها بأدوات مختلفة: فالقوة الاقتصادية التي تُسخّر الملايين ليست إلا وجهًا آخر للجبروت القديم، والتقنية التي تغزو العقول والبيوت ليست إلا صيغةً حديثة للطغيان، والعمران الشاهق ليس إلا زخرفًا يخبئ هشاشة الداخل.

إن هذه الإمبراطوريات، وهي تقدم نفسها باعتبارها نهاية التاريخ أو النموذج النهائي للإنسانية، تغفل أن القرآن يُعرّي الوهم قبل أن يكشفه السقوط، فيبين أن ما لم يُبنَ على العدل والحرية مصيره الزوال، ولو أُحاط بسياجٍ من العلم والقوة، وأن العمران الذي يُشيَّد على الاستهلاك المفرط والتفاوت الفاحش إنما يحمل بذور خرابٍ مؤجل، وأن الحرية التي تُختزل في شعاراتٍ سياسية بينما تُصادر في العمق عبر أدوات السيطرة الإعلامية أو التقنية، لا تختلف في جوهرها عن قهر الجيوش القديمة.

فالقرآن لا ينظر إلى أمريكا أو أوروبا أو القوى الصاعدة في آسيا بوصفها كيانات محصّنة بالحداثة، بل يقرأها في سلسلةٍ واحدة مع الأمم الماضية، ويضعها أمام الامتحان ذاته: هل تُقيم العدل حقًا؟ هل تصون الحرية فعلًا؟ هل تجعل من عمرانها وسيلةً لكرامة الإنسان أم مجرد زخرفٍ يلهيه عن امتحانه؟ فإذا أجابت بنعم، كتبت لها البقاء في سجل الحق، وإذا أجابت بغير ذلك ولو في صورة إنكار، فإن مصيرها ليس سوى صورة جديدة لزوالٍ قديم، يختلف في الوسائل لكنه يتطابق في الجوهر.

وهكذا يُعيد القرآن وضع الإمبراطوريات المعاصرة في مرآة التاريخ: ليست هي نهاية المسار ولا خاتمة العمران، بل كائنات ممتحنة مثل غيرها، محكومة بقانون لا يتبدل، تُقاس لا بما ترفعه من شعارات ولا بما تُحققه من تفوقٍ مادي، بل بمدى مطابقتها للميزان الأبدي الذي يزن الدول كما يزن الأفراد: عدلٌ يضمن الحياة، حريةٌ تُبقي الروح، وعمرانٌ متوازن يقي من الخراب.

البقاء والزوال – القوانين الكونية

البقاء في القرآن ليس مصادفةً تُمنح لدولة وتُحرم من أخرى، ولا الزوال حدثًا عشوائيًا يأتي من فراغ، بل كلاهما نتيجة محتومة لالتحام الكيان السياسي أو انفصاله عن القوانين الكونية التي لا تعرف استثناء ولا تتحيز لأمة على حساب أمة. فالعدل حين يُقام يصبح قانونًا للبقاء يعمل من الداخل كما يعمل الجاذب الكوني في الفضاء، يمسك البنيان كله ويمنعه من التصدع، والحرية حين تُصان تُطلق في جسد الدولة نسغًا متجدداً يحفظ حيويتها، والعمران حين يتوازن بين المادة والروح يُعطي الكيان معنى متجاوزًا لعمره الزمني.

أما حين يختل الميزان، فإن الزوال لا يأتي فجأة، بل يبدأ صامتًا كتيارٍ خفي ينخر في أساسات الدولة، يظهر أولاً في انقسام ضمائر الأفراد، ثم في فساد مؤسساتها، ثم في تشوه عمرانها، حتى إذا اكتمل الانحراف وقع الانهيار دفعة واحدة. ولأن هذه القوانين لا ترحم الغفلة، فإن الدول التي تتوهم أنها محصّنة بحضارتها أو قوتها لا تدرك أن ساعة سقوطها بدأت منذ لحظة اختلال الميزان، وأن ما تراه من جبروتها ليس إلا أصداءً أخيرة لجسدٍ في طريقه إلى الموت.

إن سرّ هذه القوانين أنها تعمل بصرامةٍ وهدوء، فلا تحتاج إلى تدخل خارق لتُسقط كيانًا أو تُبقيه؛ يكفي أن يُعطَّل العدل أو تُصادَر الحرية أو يُشوَّه العمران حتى يبدأ الانهيار الذاتي، ويكفي أن يُصان الميزان حتى يُكتب للدولة عمرٌ جديد، ولو كانت صغيرة ضعيفة في نظر الجغرافيا. وهكذا يُثبت القرآن أن مصائر الدول ليست بيد السياسة وحدها ولا الاقتصاد ولا السلاح، بل بيد ناموسٍ أبدي يجعل من البقاء ثمرةً طبيعية للتوازن، ومن الزوال نتيجةً حتمية للانحراف.
الحاكم في الدولة القرآنية

الحاكم في الدولة القرآنية ليس سيدًا متسلطًا، ولا وصيًا على الضمائر، ولا متحدثًا باسم الله ليفرض على الناس طقوسًا أو شعائر شكلية، بل هو حامل أمانة ثقيلة عُرضت على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها، وحملها الإنسان، فهو في جوهر فلسفة القرآن عبدٌ مُبتلى بالميزان، مُختبرٌ في عدله وإحسانه، مسؤولٌ أمام الناس والحق معًا، محكومٌ بالقانون السرمدي الذي لا يحابي أحدًا، ولا يعترف بانتماء طائفي ولا ديني ولا مذهبي، بل يقيس الشرعية بمقدار ما يُقام من قسط، وما يُصان من حرية، وما يُبنى من عمران، وما يُحقق من نفعية قصوى لصالح الجماعة الإنسانية.

وإذا كانت الفلسفات القديمة قد نظرت إلى الحاكم باعتباره ظلًا للإله أو تجسيدًا للقوة أو رمزًا للسيادة، فإن القرآن نقض هذه التصورات جميعًا حين جرّد الحاكم من ألقاب القداسة، فلم يمنحه مقام النبوة ولا العصمة، بل جعله إنسانًا كغيره، مكلفًا بامتحان العدل، فإن نجح صار نصيرًا للإنسانية، وإن فشل هلك في دوائر الكفر والفسق والظلم، ولو رفع ألف راية دينية، إذ أن العدل وحده هو الفاصل بين شرعية الحكم وبطلانه.

ولذلك لم يذكر القرآن عقيدة ملك مصر حين عرض قصة يوسف، لأن الشرط لم يكن في الشعار العقدي بل في القدرة على الحكم بالميزان: لقد برّأ يوسف حين اتهم ظلمًا، وسلمه خزائن الأرض حين لمس فيه الكفاءة، وأخذ بمشورته في مواجهة المجاعة، وهذه كلها دلائل على أن الامتحان القرآني للحاكم يقوم على الرشد والحكمة والعدل، لا على الهوية الدينية، ولو كان الدين بمعناه الطائفي شرطًا للشرعية، لما سكت النص عنه، ولكنه تركه عمدًا ليؤكد أن الأمانة فوق الشعار، وأن الكفاءة فوق الانتماء.

وعلى هذا المثال يرد القرآن قصة ذي القرنين الذي لم يأتِ ليبسط هيمنة طقوسية، بل ليقيم السدود ويحمي الناس من الفساد، فيضرب نموذج الحاكم المهندس للعمران، الموزع للموارد، الحارس للحدود، وهو يفعل ذلك بلا وصاية على عقائد الشعوب، لأن مهمته ليست أن يكون إمامًا في الدين بل وكيلًا على الميزان، ضامنًا للعدل، صائنًا للكرامة الإنسانية، مؤكدًا أن الحرية شرط في الامتحان، وأن الطغيان هو جوهر الفشل السياسي.

وفي المقابل، يُبرز القرآن صورة فرعون: ليس لأنه لم يطبق الشريعة بالمعنى الطقوسي، بل لأنه استعلى في الأرض وجعل أهلها شيعًا يستضعف طائفة منهم، أي أنه عطّل العدل، وأسس حكمه على الاستعباد والقهر والتمييز، فصار عدوًا لله وللإنسانية معًا، وهذا ما يجعل سقوطه عبرةً للزمن: أن الحاكم إذا رفع نفسه فوق الناس واحتكر السلطة وأهدر الحرية، فإن مصيره إلى الهلاك، ولو زيّن سلطانه بشعائر دينية وطقوس ظاهرة.

هكذا يتضح أن الحاكم في الدولة القرآنية هو امتحان إنساني كوني:

يُحاسب على عدله لا على مظاهره.

يُسأل عن إحسانه ونفعيته لا عن شعاراته.

يقف على الميزان لا على منصة الوصاية.

ينال الشرعية من إقامة العمران وصيانة الحرية، لا من فرض الطقوس على الشوارع والبيوت.

إنه ليس زعيم طائفة ولا أمير جماعة، بل وكيل على الإنسانية في بقعة من الأرض، مكلّف بأمانة ثقيلة، فإن أقامها كان مؤمنًا بالمعنى الوجودي – أي منقادًا للحق – وإن عطلها كان خائنًا للأمانة ولو نطق بكل شعارات الدين.

بهذا المعنى، الحاكم في الدولة القرآنية ليس فوق الناس بل معهم، ليس سيدًا عليهم بل عبدًا للعدل بينهم، ليس ظلًا لله على الأرض بل عبدًا لله في امتحان دنيوي، فإذا نجح رفعته الأمة ورفع معه القرآن، وإذا فشل أسقطته الأمة وأسقط معه نفسه، لأن الشرعية في القرآن لا تُشترى بالشعارات، بل تُكتسب بالفعل، ولا تُكتسب بالفعل إلا إذا طابق فعله الميزان.

الدولة القرآنية أفقًا مواطَناتيًا عالميًا

حين نتأمل خيوط المسار الذي تتبّعناه من خلال القرآن الكريم، نكتشف أنّ الدولة ليست مجرد جهاز سياسي أو عقد اجتماعي بين بشر يوزّعون الأدوار ويضبطون المصالح، بل هي انعكاس لناموس كوني أوسع: ناموس العدل، الحرية، والعمران. هذه الأركان ليست اختيارات ظرفية، بل قوانين خُلقية كُتبت في كتاب الوجود ذاته. وكل دولة، أيًّا كان اسمها أو شكلها، إنما تُختبر بمدى انسجامها مع هذا الميزان.

من هنا نفهم أنّ الدولة القرآنية ليست دولة طائفية أو قومية أو دينية مغلقة، بل هي دولة مواطَناتية بالمعنى الأعمق للكلمة: دولة تُقيم المواطن، أي الإنسان، على أساس كرامته ووعيه وحريته، لا على أساس انتماء ضيق أو شعار أيديولوجي. “المواطَناتية” هنا ليست مجرد قانون جنسية، بل هي إعادة اعتبار للإنسان بوصفه خليفة في الأرض، حرًا مسؤولًا، يُسأل عن اختياره، لا عن نسبه أو لونه أو مذهبه.

وبما أنّ القرآن لم يربط قيام الدولة بعرق أو لغة أو حدود جغرافية، فإنّ الأفق القرآني يتجاوز الدولة القطرية التي ورثناها عن خرائط الاستعمار، ويتجاوز كذلك الأوهام الطوباوية عن “دولة دينية” تُقصي المخالف. بل هو يفتح المجال نحو دولة عالمية، ليس بمعنى حكومة كوكبية شمولية، بل بمعنى مرجعية كونية موحِّدة حيث يجتمع البشر على قواعد العدل والحرية والعمران، مهما اختلفت أنظمتهم السياسية.

إنّ الدولة القرآنية –بهذا المعنى– لا تنفي خصوصيات الشعوب، ولا تلغي تنوّع الحضارات، لكنها تقيم مبدأ جامعًا: أن الإنسان مواطن في وطن الإنسانية قبل أن يكون مواطنًا في وطن القطر. هذا الأفق لا يُلغي الدول القائمة، لكنه يجعلها جميعًا تُقاس بميزان واحد: هل أقامت العدل؟ هل حفظت الحرية؟ هل شجعت العمران؟

ومن هنا يصبح القرآن ليس “دستورًا قانونيًا” لدولة بعينها، بل بوصلة كونية للدول كلها. البوصلة التي تقول: إذا عُدِل عُمِّر، وإذا حُوربت الحرية سقط، وإذا عُطّل العمران خُرِّبت الأرض. وهذه القوانين لا تسقط بالتقادم ولا تُلغى بالمواثيق؛ هي باقية لأنها مكتوبة في كتاب الوجود قبل أن تُكتب في كتاب التشريع.

وهكذا، فإنّ الدولة القرآنية هي دولة مواطَناتية عالمية، لا لأنها تلغي الحدود وتفرض وحدة قسرية، بل لأنها تحرر الإنسان من سجن الانتماءات الضيقة، وتعيد له هويته الكبرى: إنسانًا حرًّا مكرّمًا، يُسائل السلطة ويُسائل نفسه أمام الله والناس والتاريخ.

وفي زمن العولمة المتوحشة، حيث تُختزل الدولة في آلة اقتصادية أو جهاز أمني، يُعيد القرآن فتح النقاش من جديد: الدولة ليست رهان هيمنة، بل امتحان أخلاقي–حضاري. والنجاح فيه لا يُقاس بالثراء والقوة، بل بالقدرة على إنصاف المواطن أيًّا كان، وبفتح الطريق نحو حضارة عالمية متوازنة، تُحفظ فيها الحريات، ويُصان فيها العمران، ويُستعاد فيها العدل كقانون كوني لا يتغير.

بهذا الأفق، تتحول الدولة القرآنية إلى أفق خلاص إنساني، لا لطائفة ولا لأمة وحدها، بل لكل البشر، باعتبارهم شركاء في امتحان واحد: امتحان الحرية والعدل والعمران. وإذا كان التاريخ قد شهد انهيار دول عظمى بزوال هذه القيم، فإن الدولة التي تُقيمها تبقى، لأنها تسير في انسجام مع ناموس الكون، لا ضدّه.

أضف تعليقك

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)

تعليقات ( 0 )