نعمان صاري عندما بدأت الطائرة بالتسارع على مدرج مطار فرانكفورت استعدادًا للإقلاع، بدأت كعادتي أردد بعضًا مما اعتدنا على قراءته من آيات وأدعية في مثل تلك الأحوال، في الوقت عينه كانت السيدة ذات الملامح اللاتينية، التي تجلس أمامي، ترسم بأصابعها الخمس المضمومة إشارة الصليب على الطريقة الكاثوليكية.. حينها قفزت إلى ذهني مقولة ابن عربي، الملقب بإمام العارفين وصاحب الفتوحات المكية: "طرق معرفة الخالق بعدد نفائس خلقه". كانت تلك أول رحلة لي أعبر فيها الأطلسي -أو بحر الظلمات حسب التعبير التراثي- نحو العالم الذي ما زال يدعى جديدًا رغم انقضاء ما يزيد عن خمسة قرون على اكتشافه، أو إعادة اكتشافه إذا صدّقنا من يقول إن ثمة من وطِئت أقدامه ذلك العالم قبل كولومبوس بسنين طوال. الشاشة التي أمامي تعرض خيارات من الأفلام والأغاني والمسلسلات والصحف وبرامج الترفيه، لكنني أختار ذلك البرنامج الذي يعرض موقع الطائرة وتغيره حسب وجهة الرحلة، مستعينًا بالصور الحية والخرائط، ومعلومات أخرى عن السرعة والارتفاع ودرجة الحرارة. نحو الجنوب الغربي تتجه الطائرة العملاقة إيرباص 380.. شبه القارة الإيبيرية، أو ذلك الحيز الجغرافي الذي يضم إسبانيا والبرتغال، يبدأ بالظهور على طرف الشاشة، إذًا فعبورنا للأطلسي سيكون على خطى كولومبوس، لكن ليس بسفينته التي لم يتجاوز طولها العشرين من الأمتار، وبحارتها الثمانين، والتي تتوسل حركة الرياح لتكون مع الأشرعة البيضاء وسيلة السير، لكن عبر مركبة تحلّق على ارتفاع عشرات آلاف الأمتار مزودة بوسائل الدفع النفاثة، ومؤمّنة لركابها الذين يزيدون عن السبعمائة أفضل وسائل الراحة، لتجتاز خلال سبع ساعات ما احتاجَ أكثر من ثلاثة أشهر من رحلات الاستكشاف. رحلات كان هدفها الوصول إلى الهند لتأكيد نظرية كروية الأرض عمليًا، وللحصول على الذهب للعرش الإسباني، وكانت حصة كولومبوس منه عشرين بالمائة خالية من الضرائب، وليكون اكتشاف العالم الجديد صدفة لم تكن بالبال، بل إن بعض من شاركوا بذلك الاكتشاف ماتوا، وهم لا يدرون أن قارة جديدة أضيفت إلى الخرائط والمصورات؛ بسبب مغامرتهم، معتقدين أن الأرض التي وطئتها أقدامهم بعد أيام طويلة من الإبحار هي جزر غرب الهند.. الشاطئ الإسباني المفتوح على المحيط بخلجانه العديدة يرتسم على الشاشة أمامي. على خطى كولومبوس ربما من واحدة من تلك الخلجان انطلقت سفينة كولومبوس في ذلك اليوم الخريفي من أيام عام 1492، في مغامرته التي اعتبرها كثير من المؤرخين فيما بعد نقطة الفصل التي انتهت عندها القرون الوسطى. في ذلك العام، وقبيل فترة ليست بالطويلة من إبحار السفينة "سانتا ماريا" عبر بحر الظلمات، كان ثمة رحلة أخرى، أو – للدقة- رحيل آخر.. كان آخر ملوك العرب في الأندلس، الملقب "أبو عبد الله الصغير"، يسلّم مملكة غرناطة للإسبان، معلنًا بذلك ختام ثمانمائة عام من الوجود العربي في شبه القارة الإيبيرية، في احتفال أقامته "إيزابيلا"، ملكة قشتالة التي رعت بنفسها رحلات كولومبوس الاستكشافية. بل إن من المؤرخين من يعتقد أن كولومبوس كان مدعوًا لحضور حفلة التسليم تلك، وليكون شاهدًا على إنزال أعلام بني الأحمر عن أبراج قصر الحمراء لتحل مكانها أعلام مملكة قشتالة، وربما في اللحظة ذاتها التي اجتاز فيها المركب منكس الأعلام مضيق جبل طارق حاملًا معه آخر ملوك غرناطة وأسرته وحاشيته متجهين نحو المغرب، طاويًا حقبة الأندلس، كان كولومبوس يوجه بحارته لضبط أشرعة "سانتا ماريا" نحو الغرب، مقتحمًا عالمًا وعصرًا جديدين. الشاشة أمامي تشير إلى أننا اجتزنا البر الأوروبي، وقد بدأت المضيفة بتوزيع وجبة الطعام الأولى.. هل خطر ببال كولومبوس حين كان يشرف بنفسه على توزيع جرعات الماء واللحم المقدد شديد الملوحة، والخبز الذي علته طبقة خضراء من العفن، أن ثمة من سيعبر الأطلسي يومًا، وهو يتمتع بوجبة ساخنة وتنويعة من المشروبات؟ أسترق النظر إلى الشاشة أمامي، لا شيء إلا لجة البحر العظيم، وبعض الجزر المتناثرة غير المأهولة؛ لكن ذلك لا يمثل الواقع، إذ إن ذلك الفراغ البحري العظيم كان – ولسنوات طوال- يموج بأحداث ساهمت بصنع تاريخ الإنسان المعاصر، كان شاهدًا على هجرة الملايين من الطامحين والطامعين والمغامرين والهاربين نحو العالم الجديد، حاملين معهم طموح الثراء، ورغبات الاستكشاف والتفلت من واقع مرير في عالمهم القديم. كان شاهدًا على بؤس ملايين العبيد الذين يتم أسرهم في أدغال أفريقيا وسهوبها، ليجدوا أنفسهم مثخنين بالأصفاد في عنابر مراكب شراعية قذرة، تحملهم ليكونوا عبيدًا في مزارع السكر والقطن والدخان، والخدمة في المنازل في عالم آخر غير عالمهم الذي ألفوه. كان شاهدًا على آلاف السفن تنطلق من العالم الجديد نحو أوروبا، محملة بالعتاد والأسلحة والذخائر والجنود خلال الحربين العالميتين: الأولى والثانية.. كان شاهدًا على حركة تجارة وانتقال وسياحة بين ضفتي الأطلسي، طبعت ملامح عصرنا الحديث. تمثال الحرية المشهد أمامي ينذر باقتراب الطائرة من شواطئ العالم الجديد، يظهر أول المعالم على طرف الشاشة مع إعلان الطيار عبر مكبر الصوت عن بدء الانحدار التدريجي، يقفز إلى ذهني مشهد تقليدي في أفلام القراصنة ومستكشفي البحار، مشهد أحد البحارة وقد اعتلى أعلى نقطة من السفينة بالمنظار المقرب ذي العين الواحدة، وهو يصيح بأعلى صوته: "اليابسة.. اليابسة". تتابع الطائرة انحدارها نحو خليج هدسون النيويوركي، تمثال الحرية بدأت ملامحه تتضح، كان هدية فرنسا للذكرى المئوية الأولى للثورة الأميركية عام 1866، والتي انتهت بالاستقلال، الشعلة التي تحملها تلك السيدة عاليًا تتجه نحو أوروبا والعالم القديم، وعلى قاعدة التمثال أبيات شعرية فيها "ابعثوا إليَّ متعبيكم وفقراءكم وهؤلاء التواقين إلى الحرية، ابعثوا المشردين الذين تتقاذفهم العواصف الهوجاء، ها أنا في استقبالهم رافعة مصباحي على مقربة من الباب الذهبي".. لقد لبَّى الملايين هذا النداء، ولكننا لسنا على معرفة يقينية إن كان قد تحقق لكثيرين منهم الوعد الذي تحمله تلك الأبيات. تقترب عجلات الطائرة من ملامسة مدرج مطار جون كينيدي، أُعاود بصمت ترديد تلك الآيات والأدعية المعتادة، والسيدة ذات الملامح اللاتينية تعاود أمامي رسم إشارة الصليب بأصابعها الخمس المضمومة.. ابن عربي كان حاضرًا مرة أخرى.