أحمد الطاهري 1) الرفاق. أود في البداية أن أؤكد أن من ثمرات، بل من خيرات إصدار هذا الكتاب من قبل الزميلين والصديقين العزيزين، عبد العزيز المسيح ونزار الفراوي، كونه أتاح في أول حفل لتقديمه وتوقيعه، فسحة جميلة للقاء وجوه نيرة خيرة.. هم رفاق الأمس واليوم والغد في هذه الدار العاجلة. هم، اختصارا، رفاق درب الحياة الممتعة والشاقة، العذبة والعاقة في آن.. هم رفاق الطفولة، في سلك الثانوية، وفي سلك الجامعة بقلعة (ظهر المهراز) بفاس.. رفاق درب الحياة من الطفولة إلى الكهولة.. رفاق المواقف التي وسمت كينونتنا وكياناتنا الهشة، وثبتت ذواتنا على طريق أدمت أشواكها الكثير من الأقدام المقدامة في أفق بناء مجتمع الحرية والعدالة والكرامة.. هم رفاق مواقف الشهامة، النبل والإيثار.. الصفاء والإخاء.. هم، اختصارا، الرفاق من البداية إلى النهاية، وما بدلوا تبديلا.. نسعد اليوم بحضور رفاق لم نكن نفترق معهم، خاصة على مدى سنوات الدارسة بتلك القلعة المجيدة (ظهر المهراز)، في بداية الثمانينات من القرن الماضي. كما نسعد بحضور زملاء أعزاء. صحفيون قضينا معهم فترة مديدة من العمل، سيظل أثرها محفورا في القلب والذاكرة، لما طبعها من وفاء وحسن تعامل، وما عرفته من حنكة في تذليل صعاب مهنة المتاعب، على المستوى الذاتي والجماعي. أرى الحضور الكريم مبتهجا، مسرورا ومنشرحا في هكذا لقاء حميمي، وهذا يعد، بكل تأكيد، من ثمرات، بل من خيرات هذا الإصدار المميز.. الكتاب الصادر في طبعة أنيقة، والواقع في 241 صفحة من القطع المتوسط، والذي صمم تصميما محكما وبديعا، يشتمل على تقديم وأربعة محاور وخاتمة. المحور الأول الموسوم ب(عتبات ظهر المهراز)، يتحدث عن مباهج الاحتفاء بالمكان، وعن المكان في المدينة، فيما يتضمن المحور الثاني المعنون ب(شهادات من وحي العبور) خمسة عشر نصا حول "القلعة" الشهيرة. أما المحور الثالث (نصوص برائحة المكان) فيحتوي على خمسة عشر نصا تحتفي بالمكان لمفكرين ومبدعين، فيما يتضمن المحور الرابع بورتريها عن وجه ترك أثرا ثقافيا واجتماعيا طيبا في ذاك الفضاء، وقصيدة مرموقة حوله. أؤكد، جازما، أن هذا الكتاب يتبوأ مكانته ضمن خانة الكتب الباعثة للذة القراءة، حيث الاستمتاع على أشده. الاستمتاع بانبثاق حنين جارف ساكن في الدواخل حيال ذكرى عطرة بعينها. فضاء شامخ بعينه. زمن جميل بعينه.. لقد تعودت على تمطيط قراءة الكتب الممتعة، ولا أقبل على التهامها بنهم بل بتقسيط. أتوقف مرات عن القراءة لأعود للمواصلة بعد حين وكأنني أتعمد إطالة أمد المتعة. وهذا ما حصل لي مع هذا الكتاب. ألا تكون أطباق الأكل الشهية لذيذة أكثر كلما تناولناها على مهل؟. فالبطنة تذهب الفطنة، وما يصح على البطن يصح على الذهن أيضا.. كان لابد من هذا الكتاب من أجل إشعال فتيل الذكرى الخامد، ذكرى مكان عصي على النسيان، ومن أجل إطلاق سراح عصفور النوستالجيا الجميل المغرد. ف"ما الذكرى سوى ورقة خريف لا ترتعش في الهواء هنيهة حتى تكفن في التراب دهرا"، كما قال جبران خليل جبران. و"ما الحياة سوى فيض من الذكريات يصب في بحر النسيان، أما الموت فهو الحقيقة الراسخة"، كما قال نجيب محفوظ. ذكرى طقوس النضال والسجال الايديولوجي وتجارب الالتزام والحب. ذكرى مكان بلغ الافتتان به حد تعمد طلاب الرسوب لسنوات، وفاء منهم لقيم النضال ومبادئ الرفاقية، أو إصرارا منهم على مرافقة الحبيب الرفيق، أو لهذين السببين الدافعين المحفزين معا. في التقديم، يشدد الكاتبان الصحفيان، الطالبان النجيبان بقلعة ظهر المهراز، على أنه "آن أوان العودة إلى الفضاء، بساحته الجامعية وفضائه التعليمي ومحافله الطلابية ومحيطه السكاني الحاضن، من أجل سد ثغرة فادحة في واجب الاحتفاء بمكان مكثف بنمط عيشه وأحلام شبابه وسير طلابه وشبكة العلاقات التي نسجت في تربته". ويوضحان أن "الأمر لا يتعلق بتخليد حالة جغرافية أو طبوغرافية مخصوصة، بل باستعادة أوراق من تاريخ الإنسان، وتاريخ الأفكار وتاريخ الأحلام، كان (ظهر المهراز) حديقتها التي أينعت فيها ومنطلقها الذي حلقت منه إلى الآفاق"، حيث ارتبطت سنوات الجامعة ما بين ستينيات وثمانينيات القرن الماضي ب"زمن جميل" طبع الحياة والمجتمع والفن والسياسة، واتسم بالبساطة والقيم الأصيلة.. ولم يفتهما لفت الانتباه إلى الأزمة الشاملة التي تعيشها الجامعة المغربية منذ أزيد من ثلاثة عقود على الأقل، وتراجع وانحسار دورها الأكاديمي والثقافي والفكري والنقابي والسياسي والوطني، مما يقوي الحاجة الماسة إلى تسليط الضوء على المساهمات التاريخية الكبرى للجامعة عموما، وحركتها الطلابية في الدفاع عن تعليم حديث يشكل وسيلة للارتقاء الاجتماعي وتقدم ونهضة البلاد ونصرة قضاياها الوطنية، وفي ذلك الكثير من العبر والدروس لأجيال ومسؤولي اليوم. عن هذه الأزمة، يتساءل الشاعر والكاتب صلاح بوسريف في مقال نشره مؤخرا، أين الخلل، وما الذي حدث لتصبح أعلى وآخر شهادة يحصل عليها الطالب، لا قيمة لها، وليس فيها من روح المعرفة والعلم والتجربة والخبرة شيء، ولماذا الجامعة وصلت إلى هذا المستوى غير المسبوق، في الوقت الذي كانت فيه مناقشة أطروحة ما، حدثا معرفيا وعلميا حقيقيا، وكان من يناقشها، يظهر على منصة المناقشة، وكأنه خرج لتوه من كهف أفلاطون، بعد أن قضى سنوات تصل إلى عقد من الزمن في البحث والتنقيب، وتقليب الكتب، والسفر للبحث عن بعض هذه الكتب غير المتوفرة، وتكون الأطروحة، ليست موضوعا، وهذا ما أصبح شائعا في الأطاريح وهو تافه، بل إشكالية، فيها تظهر شخصية الباحث، وما اختاره من طريق شائك، صعب، شاق، جديد. وقال: "أنا، أتفق، مع وزير التعليم الجامعي، حتى لا أقول العالي، فهذه صفة كبيرة على هذا التعليم في وضعه الراهن، وفي ظل وضع الانحسار الذي توجد عليه الجامعة عندنا، ويوجد عليه التعليم في عمومه، حين قال في البرلمان، جوابا عن تساؤلات بعض النواب: (بغينا على الأقل ألف طالب دكتوراه فيه شوكة البحث العلمي)، ما يعني أن البحث العلمي صار بلا "شوكة"، علما أن الألف لا قيمة لها أمام الأربعين ألفا من الطلاب المسجلين في شهادة الدكتوراه، في جميع الشعب والتخصصات". في إحدى محاضراته، أعرب الكاتب والناقد عبد الفتاح كيليطو، عن أسفه البالغ لكونه التقى خلال السنوات الأخيرة قبل تقاعده بطلبة في سلك الماستر "لم يقرؤوا شيئا حقيقة"، قائلا إن هؤلاء الطلبة لم يعرفوا استشهادات مهمة كان يذكرها، وأعمالا لكتاب كبار كان يستحضرها في حديثه. لقد أضحت ظاهرة ضعف قيمة الثقافة وتقلص حظوتها ظاهرة مستشرية في المجتمع. 2) شهادات حية عما كان في المكان. جاءت الشهادات الحية والمتون السير~ ذاتية لمن عاش المكان والتجربة، والتي تحتفي بعوالم وأزمنة قلعة ظهر المهراز، شفافة في بوحها، عميقة في مقاربتها ودالة في سردها. إنها الكتابة في تجلياتها المتدفقة المشرقة. وهنا، أستحضر تأكيد كيليطو أنه لم يكف عن الانفعال والتأثر بعنوان لبودلير Mon cœur mis à nu (قلبي وقد غدا عاريا). هذه الصورة قد تكون هي الكتابة. ضمن هذه الشهادات، يؤكد الناقد والباحث سعيد يقطين أن المستوى الأكاديمي والعلمي والوعي الوطني كانا على درجة عالية. وكان للأساتذة سواء في شعبة اللغة العربية أو الفلسفة الدور الأكبر في التوجيه والتأطير. كانت النخبة المغربية من الأساتذة، حينئذ، متميزة على الصعيد الوطني والعربي، وأغلبهم سينتقل بعد ذلك إلى الرباط. كما كان الأساتذة العرب من مصر وسوريا والسودان خاصة يختارون بعناية، وكلهم لهم حضور في الثقافة العربية الحديثة، ولائحة أعدادهم طويلة جدا. (ص 33). وفي سرد جميل، يحكي أحمد قاشا عن علاقات الصداقة والنضال التي نسجها رفاق اليسار في السبعينات من القرن الماضي بقلعة ظهر المهراز، وانخراطهم الجدي في الفعل الثقافي، موردا وقائع طريفة لم تخل من جرعات الهزل وحس الدعابة. وقد وسمت هذه التجربة الزمكانية بانتشاء جماعي بمخاتلة سلطة الجد، السخيف أحيانا. ومن جانبه، يوضح الكاتب والناقد عبد المالك أشهبون، أن التخلي عن الحقيبة المدرسية الثقيلة المألوفة، والاكتفاء بدفتر أحمر من الحجم الطويل، موضوع تحت حزام جلد سروال (الجينز) كانا من عناوين تجاوز مرحلة التعلم الثانوي بكل إكراهاتها. فالحياة الجامعية، في تصوره، ستحرره لا محالة من "الزوائد" التي كانت تكبله في ثانويته المحافظة (...). يقول: "ثمة فرح رشق قلبي فجأة، وأنا أرى بعض الطالبات من مختلف ربوع المملكة يصوبن نظراتهن نحوي، وانا أمشي مزهوا، مرفوع القامة، واثق الخطو، وقد استعددت لاستقبال هذه اللحظة العظيمة، بكل ما أوتيت من وسائل التجميل المتواضعة والمتاحة آنذاك، لكي أكون في مستوى التأنق والوسامة، لزوم الدخول في عوالم الفضاء الجديد". (ص 53 و54). "لم نكن أبطالا خرافيين.. كنا فقط شبابا مغاربة حتى رحيق الروح والجسد والأعصاب والعروق والدم.. كنا فقط حالمين.. نحلم بكل ما تملكنا من صحو متيقظ.. نحلم بوطن جميل.. تشرق الشمس من عينيه.. نحلم بزغاريد وأهازيج وأعلام للفرح ترتسم على عيون أهلنا الطيبين، ونهتف وننشد أجمعين: (هذا هو العرس المغربي)". إنه حلم دمقرطة الدولة والمجتمع. وتكتب الأستاذة لطيفة البوحسيني أن درجة الوعي السياسي لدى الطلبة كانت مرتفعة وكان حرصهم على مواكبة المستجدات ومناقشتها أمرا معتادا. كانت الانتماءات السياسية لهذا الجيل من الطلبة والطالبات تدفع بهم إلى تتبع ما يجري على الساحة السياسية. (ص 75). ويقول الكاتب علي بنساعود: "لست مصابا بمتلازمة الحنين، لكن، يحدث لي، أحيانا، أن ألتفت إلى الخلف، لأتفرس في وجه الماضي، وأسترجع قسماته وملامحه وتفاصيله، ولعل سنواتي الجامعية من أهم المحطات التي أتوقف عندها وأنظر إليها مليا...". (ص 81). ويوضح أستاذ الإعلام والتواصل مصطفى اللويزي، أن التكوين السياسي النشيط أو غير النشيط لعدد من الطلاب مكنهم من احتلال مناصب سياسية في أحزابهم بل حتى في أجهزة الدولة، لقدرتهم على فهم وتفسير وتقدير الأمور بشكل أفضل. كما أن أداءهم التواصلي والفكري والسياسي في المجتمع وفي تنظيماته المتعددة تأثر بتفاصيل عيشهم وممارستهم داخل الساحة الجامعية، إذ اكتسبوا ذكاء سياسيا وجماعيا غير يسير، أهلهم لتبوء مكانة مهمة في الحقول النقابية والسياسية والجمعوية. (ص 98). من ناحيتها، توضح الناشطة الاجتماعية والسياسية فاطمة بلعادل، أن المرحلة الجامعية لم تكن مرحلة عابرة كأي مرحلة من مراحل الحياة، بل كانت الهدف وبداية البدايات التي سيبنى عليها أمل ومشروع حياة مغاير كليا عن السائد المهيمن بجبروته وإقصائيته المنتهجة والممنهجة، في جميع دروب وشعاب الحياة. "كنا الحياة نفسها فكرا وروحا وشغبا وتمردا، في كلمة واحدة كنا نمثل خيطا من خيوط الشمس. هاته الشمس التي ستستفز القلوب المظلمة، الحاقدة من فرط هشاشتها وضعف مناعتها. (ص 109). "ظهر المهراز لم نكتب عنها، بل هي من تكتبنا، فهي منارة وبوصلة لكل العاشقين والعاشقات المتيمين بقيم التحرر والحب والعدالة الكونية. (ص 110). وتودع الباحثة في السوسيولوجيا أسماء بنعدادة، الحي الجامعي ظهر المهراز، بتأثر بالغ، إذ كتبت: "الحي الجامعي الذي ولدت بداخله أحلام آلاف الطلبة والطالبات بغد جديد يحقق العدالة الاجتماعية والديمقراطية ويرسم الابتسامة على الشفاه الضائعة. هذا الحي، بتاريخه الذي هو تاريخ آلاف وآلاف الطلبة والطالبات، أصبح في خبر كان.. كيف سنمر من هناك، من جوارك لنعبر إلى الكليات؟؟ لن يكون بعدك لأسوار الجامعة ولفضاءات الكلية نفس الطعم... حرقة كبيرة تتملكني..." (ص 117). صديقنا وزميلنا عبد العزيز المسيح يستحضر بأسلوبه الأدبي الشيق، ذكرى الفضاء الخالدة المؤثثة والمعطرة بثالوث "الإيديولوجيا" و"السياسة" والحب. يكتب: "لفاس رائحة الحنين والبخور والرمان، رائحة عاطفية، تقودك كخارطة سياحية إلى المكان الذي آوى الحب والدرس الجامعي الأول...، في زمن كانت فيه النفوس أبية، والمشاعر صافية حالمة، وأذواق الناس وإحساسهم بالكلمة والفن والجمال والمعنى راقيا". (ص 118). "في ظهر المهراز، موطن اليسار وعاصمته التاريخية، كنا ندمن (الإيديولوجيا) و(السياسة) والحب. بالأولى كنا نعلن انتماءنا للمنظومات والتيارات الفكرية والثقافية التحررية والتقدمية العالمية التي افتتنت بها البشرية خلال القرن الماضي، وبالثانية كنا نمارس المعارضة لكل ما هو قائم، وبالثالث (أي الحب) كنا نشحذ العزيمة والهمم، ونقوي الصمود أمام أسباب القلق الوجودي، والألم والغربة وهشاشة الحياة". (ص 124). ويستعيد المخرج والمنتج السينمائي عز العرب العلوي لمحارزي، ذكرى المرور بالفضاء بقوله: "كلما عادت بي الذاكرة إلى فصول تلك المرحلة إلا وشعرت بفرح غامر وإحساس وجودي ماتع، وعودة إلى زمن جميل، حيث ندرة الإمكانيات وبساطة العيش مقابل وفرة في القيم...". (ص 130). 3) نصوص أدبية تكرم المكان وتخلده. تلي هذه الشهادات نصوص إبداعية لوجوه مرت بقلعة ظهر المهراز وتفرقت في أرض الله. وجوه ألفت المكان وعشقته ولم يفتها واجب تكريمه وتخليده. ومن هذه الأسماء البارزة، الروائي أحمد المديني الذي رصد في رواية "رجال ظهر المهراز"، معالم مرحلة هيمن فيها الاتحاد الوطني للقوات الشعبية على الساحة الطلابية مع بداية ظهور تشكلات اليسار الجديد. هنا تحضر المرأة ويحضر الحب كخلاص من الخيبات والانكسارات التي رافقت تلك المرحلة. تنبثق الكتابة ملاذا لمواجهة خسارة الحب و"أزمة العاطفيين الوجودية". بدوره، يتحدث الكاتب محمد العمري في سيرة ذاتية عن الحي الجامعي والنقاشات الساخنة التي عرفتها الساحة الطلابية نهاية الستينيات وبداية السبعينيات من القرن الماضي، وعن ذروة الصراع بين اليساريين في كلية الآداب بفاس. ويتضمن هذا المحور، أيضا، مقاطع من كتاب "رائحة المكان"، للمفكر عبد الإله بلقزيز الذي تابع دراسته بظهر المهراز، والذي وضع مسافة بينه وبين فصيل طلابي، منتقدا ما اعتبره انغلاقا وتحجرا إيديولوجيا. ومن مقاطع كتابه الذي هو عبارة عن سيرة مصاغة بلغة تمزج بين السرد والتعبير الشعري والتأمل الفلسفي: "... هل صدفة أغراك اليسار حين هجرت المعري، ونقمت على ابن تمام، وهزئت بجبران، وأضربت عن صوت أم كلثوم؟ لذيذا كان اليسار، كالليل كان اليسار، كالليل كان، كصوت فيروز في عميق النفس، كالغاردينيا تتعرى تحت الشمس، كصوت الماء على صخرة ينساب. لكن حلم اليسار قصير وأنت تعشق الليل الأطول... (...) وما صدقت أن ملتحيا ألمانيا يصير لك شيخا فتلتزم طريقته وتنذر ليلك...". وفي "شهادات حية من الماضي"، حكى الكاتب والفاعل السياسي علال الأزهر، عن وقائع وأسماء. عن غليان الستينيات، وتحولات ما بعد هزيمة 1967، والمخاض الذي أفضى إلى معانقة فكر اليسار الجذري ضدا على ما اعتبر إفلاسا للإصلاحية. ومن جانبه، تحدث الباحث أحمد المفتوحي، في نص موسوم ب"في فاس كان الانبهار"، عن تجربة الدراسة بكلية الآداب بظهر المهراز ما بين 1967 و1972. ويتضمن هذا المحور، أيضا، نصا للكاتب عبد الغني أبو العزم، يرصد ملامح الوضع الطلابي بفاس منذ أواسط الستينيات إلى أواخرها، حيث بداية تشكل وتفعيل الهياكل التنظيمية للاتحاد الوطني لطلبة المغرب بهذه المدينة الجامعية، وبروز اليسار الجديد. ومن جانبه، يستعيد الناقد سعيد بنكراد في "سيرة التكوين"، محطات من سيرته كطالب بفضاء ظهر المهراز، الذي يعيش على إيقاع السبعينيات الطافحة بالأحلام وبألوان الحياة المكثفة والمضاعفة... حين "كان شراء الكتب هواية وشغفا وحبا في المعرفة والسياسة وسبيلا يقود إلى الثورة أيضا". يقول: "كنا نعيش بالكتب ونتنفس بالكتب ونجادل بالكتب ونحب ونغري ونعشق بالكتب أيضا". وضمن سيرة روائية موسومة ب"جمر تحت الجلد"، يستعيد الناقد محمد أقضاض بعض أجواء وذكريات ظهر المهراز ما بين 1970 و1974. وتضمن نص "زهرة العمر" للصحفي والمناضل العربي مفضال، شذرات من سيرة ذاتية، مستعيدا قبسا من "أيام ظهر المهراز الجميلة"، ومن ذلك نكهة وجبات المطعم الجامعي، وصدى قصائد أمل دنقل. واعتبر الكاتب والمحلل السياسي عبد الصمد بلكبير، في شهادة له، أن الفترة من 1962 إلى 1972 هي الأهم في تاريخ ظهر المهراز، ذاك المعقل الجامعي والطلابي العتيد حيث انبثقت "هذه البؤرة الثورية حقا حينها، والتي تكاد تكون منعزلة ومعزولة عن مدينتها (فاس)". وضمن الكاتب هذه الشهادة جردا متعدد الأبعاد لفضاء ظهر المهراز في ظل المأسسة الطلابية النضالية. وبدوره، استعاد الكاتب عبد السلام رجواني، أمشاجا من ذاكرة نابضة بالحياة، عن حياة جديدة داخل الحي الجامعي، وعن الانغمار في سيل اليسار الجديد وفتنة الماركسية، وعن تجربة العشق الحار. ومن جهته، مارس الكاتب محمد الهجابي لعبة التذكر واستعادة التجربة روائيا. والحكاية هنا لا تنقل الوقائع كما حصلت تماما في فترة مفصلية من تاريخ المغرب الراهن (نهاية سبعينيات القرن العشرين). إنها سرد تخييلي يحكي عن تجربة في الحياة والسياسة والحب لرفاق شباب التقوا ذات تاريخ، ضمن مسار مشترك عمدته الرغبة في تحقيق أحلام بسعة جموح أفراس البراري والنجود. ويكتب مصطفى المريزق عن مسار في تجربة اليسار. عن المرحلة الممتدة من أواسط الثمانينيات إلى نهايتها، حيث شكل فضاء ظهر المهراز بفاس "قصيدة، وقصة، ورواية، وأغنية، ولوحة، وشهادة، أبطالها هم مناضلوها". ويوضح الكاتب أنها مرحلة اتسمت بصراعات لاعقلانية نالت من حيوية الاتحاد الوطني لطلبة المغرب وجاذبيته، إلا أنها تميزت ب"العفوية والصدقية والشجاعة والجرأة واسترخاص النفس، والدفاع عن القيم والمثل، رغم النواقص والثغرات". ويوثق الدبلوماسي الفلسطيني واصف منصور، في سيرة حياة قادته من حيفا إلى المغرب، قصة مروره ضيفا على الساحة الطلابية بفاس، ونتفا من اشتباكه مع الطروحات الجذرية للطلبة في ذروة هيمنة الماركسية اللينينية. ويتضمن هذا المحور، أيضا، مقتطفات من رواية "الناجون" للزهرة رميج، وهي الرواية التي تحتفي بالحركة الطلابية من خلال استعادة سيرة أحلام وانكسارات جيل بأكمله... تشكل مواد الكتاب مقاربات من زوايا مختلفة لموضوع بعينه، وتنويعات عدة على وتر الفضاء الواحد. فضاء ظهر المهراز الذي أطبقت شهرته الآفاق، ما أضفى على السرد عمقا وغنى كبيرين. يؤكد عبد الفتاح كيليطو في كتابه "الكتابة والتناسخ"، أنه "لكيلا يجف النبع، ينبغي أن يسيل (...) وكلما أعدنا الكلام ورددناه نما وازدهر (...) ففي البدء كان التكرار"، موردا المقولة التي ينسبها ابن رشيق لعلي بن أبي طالب: "لولا أن الكلام يعاد لنفد". أما المحور الرابع والأخير من الكتاب فقد أفرد لوجه وقصيدة. الوجه هو وجه حسن الحلوي، الرجل الذي أطعم أبناء الفقراء كتبا من كل الآفاق. وهنا يرسم نزار الفراوي بورتريها جميلا لهذا الرجل الذي أمضى زهاء نصف قرن في خدمة الكتاب، للرئة التي تنفس منها جيل الكتاب الجامعي وعشاق المصنفات الأدبية والعلمية من أقصى الآفاق. أما القصيدة فهي القصيدة الخالدة للشاعر الراحل أحمد المجاطي. قصيدة "ملصقات على جدار ظهر المهراز" من ديوان "الفروسية"، حيث سحر الصورة الشعرية راق ومبهر.. سحر الصورة الشعرية التي تجعل المتلقي في "حالة غريبة" حسب الجرجاني. في خاتمة الكتاب، يؤكد عبد العزيز المسيح ونزار الفراوي أنها مجرد خطوة في مسار مشروع إعادة بناء الذاكرة المشتركة الذي يطمحان إلى إنجازه مستقبلا، من خلال مواصلة هذه الرحلة في تاريخ هذه القلعة الشهيرة، من منظورات مختلفة تنفتح على فاعلين آخرين بصموا محطات هذا المسار، وعلى الجانب التاريخي والأرشيفي لاستكمال هذا الورش الكبير، ورد الاعتبار لأجيال ساهمت في تقدم البلاد وما تزال، والتوجه نحو المستقبل بأمل.. ختاما، وإذ أشد على يديهما لتجسيد هذا المسعى المبارك، أؤكد أنه مهما قلت في حقهما، فإنني لن أوفيهما هذا الحق المستحق، وعلى الوجه الأكمل والأسلم.. لقد خبرت عن قرب، وعلى مدى سنوات، صدقهما في المواقف وعمقهما في الكتابة، هما اللذان اجتمعت لديهما مواصفات الصحفي الموضوعي المسؤول عن الكلمة الهادفة، والمدافع باستماتة عن القيم النبيلة في المهنة والحياة.. وخصال الصحفي المتواضع المشتغل في الظل..