قناة الجزيرة وغزة: حين تصبح التفاصيل أهم من الكارثة

ياسين الطالبي

لم تكن الحرب في غزة مجرد معركة عسكرية، بل كانت معركة على الوعي، على كيفية إدراك ما يجري، على ما يجب أن يراه المشاهد وما يجب أن يظل غائبًا عن عينيه. لم يكن المطلوب أن يرى الصورة الكاملة، بل أن يرى المشهد من زاوية محددة، أن يركز على الجزئيات، لا على الكارثة الكبرى، أن يرى الفروع، لا الجذور، أن يُدفع إلى الاهتمام بتفاصيل هامشية، بينما كان المشهد الحقيقي أكثر رعبًا من أن يُروى.

كانت غزة تحترق، كان سكانها يُبادون، كانت مدنها تُمحى من الوجود، لكن ماذا كان المشاهد يرى؟ كان يرى جنديًا إسرائيليًا قُتل برصاصة قناص، كان يرى دبابة دُمرت بصاروخ، كان يسمع أن الإسرائيليين يعيشون في رعب، بينما في الواقع كان الرعب الحقيقي في غزة، لكن لم يكن أحد يتحدث عن ذلك. كان المشاهد يُدفع إلى التفكير في “أين يختبئ السنوار؟”، لا في “أين اختفى سكان غزة؟”، كان يُدفع إلى التساؤل عن عدد الأسرى الإسرائيليين الذين بقوا لدى حماس، لا عن عدد الجثث التي لم تجد من يدفنها تحت الأنقاض.

عندما تكون الصورة الكاملة بشعة إلى حد لا يمكن احتماله، يكون الحل في تفتيتها، في تحويلها إلى سلسلة من التفاصيل الصغيرة التي يمكن احتمالها، في جعلها قصة مجزأة بحيث لا يدرك المشاهد الحقيقة دفعة واحدة. كان المشهد الكلي يقول: غزة تُباد، لكن المشاهد لم يُدفع لرؤية ذلك، بل دُفع لرؤية مشاهد أخرى، كان يُدفع لرؤية فتى فلسطيني يحمل بندقية، وليس الحي الذي أُزيل بالكامل، كان يُدفع لرؤية صاروخ يُطلق على مستوطنة، وليس القصف الذي محا مخيمًا كاملًا من الخريطة.

لم يكن هناك خداع مباشر، لم يكن هناك كذب واضح، لكن كان هناك تلاعب بما يجب أن يُقال وما يجب أن يُنسى، كان هناك هندسة إعلامية دقيقة تضمن ألا يرى المشاهد الصورة كاملة، أن يظل في مساحة محددة من الإدراك، أن يظل مشغولًا بتفاصيل صغيرة تمنعه من إدراك الحقيقة الكبرى، أن يظل مقتنعًا بأن غزة لا تزال موجودة، حتى عندما لم يبقَ منها إلا الرماد.

في الإعلام، الهزيمة لا تعني شيئًا إذا لم يُسمح لها بأن تبدو كهزيمة، النصر لا يحتاج إلى أن يكون حقيقيًا، بل يحتاج إلى أن يكون مقنعًا، يمكن أن تخسر كل شيء، لكن ما يهم هو كيف تُروى الخسارة، كيف يُعاد تأطيرها بحيث لا تبدو خسارة، بحيث تبدو كمرحلة من “المقاومة المستمرة”، بحيث تبدو كجزء من “الصمود الأسطوري”، بحيث لا تكون نهاية القصة، بل مجرد فصل جديد فيها.

لهذا، لم يكن يُقال إن غزة سقطت، بل كان يُقال إن إسرائيل لم تحقق أهدافها، لم يكن يُقال إن معظم سكان غزة قد قُتلوا أو هُجّروا، بل كان يُقال إن “المقاومة لا تزال قائمة”، لم يكن يُقال إن غزة لم تعد موجودة كمدينة حية، بل كان يُقال إن “الاحتلال لم يتمكن من القضاء على الإرادة الفلسطينية”. لم يكن المهم أن تبقى غزة كواقع، بل أن تبقى كفكرة، كرمز، حتى عندما لم يبقَ من سكانها إلا القليل، حتى عندما لم يعد هناك مدينة يمكن العيش فيها.

لم تكن القصة فقط عن غزة، بل عن الرموز، عن الشخصيات التي كان لا بد أن تبقى في الوعي، حتى لو لم تعد تملك شيئًا في الواقع. لهذا، كان هناك سنوار، الرجل الذي كان لا بد أن يُصنع منه أسطورة، الرجل الذي كان يجب أن يكون صورة المقاومة، حتى عندما لم يعد هناك ما يمكن مقاومته.

كانت إسرائيل تلاحقه، لكنه كان “يتحرك بين الأنفاق”، كانت إسرائيل تقول إنها دمرت حماس، لكن الرجل لا يزال حيًا، لا يزال يُدير المعركة من تحت الأرض، لا يزال يُرعب الإسرائيليين، حتى عندما لم يكن هناك ما يمكن إدارته. كان المطلوب ألا يظهر السنوار كرجل انتهى دوره، بل كرجل لا يزال موجودًا، حتى عندما لم يعد هناك جيش يقوده، حتى عندما لم يعد هناك مدينة يمكن الدفاع عنها.

لكن مثل كل القصص الإعلامية، كان لا بد أن تنتهي القصة بطريقة درامية، كان لا بد أن يُقتل السنوار، لكن ليس كمهزوم، بل كبطل سقط في ساحة المعركة، كان لا بد أن يتم اغتياله في اللحظة المناسبة، بعد أن استُخدم لأقصى درجة، بعد أن تم تحويله إلى أيقونة، بعد أن أصبح موته هو النهاية المثالية للسيناريو، نهاية تؤكد أن القائد صمد حتى النهاية، حتى لو لم يكن قد تبقى شيء يمكن الصمود من أجله.

لم يكن المشاهد يُدفع إلى التفكير في حجم الكارثة، بل كان يُدفع إلى التفكير في تفاصيل صغيرة، في عمليات قنص، في إطلاق صواريخ، في “رعب الإسرائيليين”، بينما كان الرعب الحقيقي في غزة، لكن لم يكن أحد يتحدث عنه. لم يكن المطلوب أن يفكر المشاهد في أن المدينة قد انتهت، بل أن يفكر في أن المعركة لا تزال مستمرة، حتى عندما لم يبقَ فيها مقاتلون، حتى عندما لم يبقَ فيها سكان.

كان المطلوب أن تبقى غزة “حية” في وعي المشاهد، حتى عندما لم يبقَ منها شيء، كان المطلوب أن تظل الحكاية مستمرة، حتى عندما لم يعد هناك من يرويها، كان المطلوب أن يظل الناس يتحدثون عن الصراع، عن “المقاومة”، عن “الصمود”، حتى بعد أن أصبحت المدينة مجرد رماد.

لم تكن “الجزيرة” تنقل الواقع، بل كانت تُعيد تصنيعه، كانت تُبقي غزة على قيد الحياة في الشاشة، بينما كانت تموت على الأرض، كانت تُعطي المشاهد وهم المعركة، حتى عندما لم يبقَ فيها مقاتلون، كانت تُعطيه وهم الصمود، حتى عندما لم يعد هناك أحد ليصمد.

لأن الحقيقة كانت أكبر من أن تُروى، لأن المشهد كان أكبر من أن يُحتمل، كان لا بد من أن يتم تقطيعه، أن يتم تقديمه بطريقة تجعله أقل قسوة، أقل وضوحًا، كان لا بد من أن تُروى القصة، لكن ليس كما حدثت، بل كما يجب أن تُفهم، كان لا بد من أن تظل غزة “حية”، حتى عندما لم يعد هناك أحد ليعيش فيها.

أضف تعليقك

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)

تعليقات ( 0 )