قناة “الجزيرة” في ليبيا: من منصة الثورة.. إلى مختبر الثورة المُدارة

ياسين الطالبي

لم تكن ليبيا ساحة معركة سياسية فقط، بل كانت مختبرًا إعلاميًا، حيث لم تكن قناة “الجزيرة” مجرد ناقل للأحداث، بل كانت جزءًا من العملية نفسها، تصوغ السرديات، تُعيد ترتيب المشهد، وتقرر متى يتم إشعال الثورة، ومتى يتم تسليمها للفوضى.

لم يكن سقوط القذافي مجرد حدث تاريخي، بل كان لحظة إعادة تشكيل كاملة للخريطة السياسية، ليس فقط داخل ليبيا، بل في امتدادها الإقليمي، حيث لعب الإعلام دورًا يفوق دور الدبابات، وحيث لم تكن الكاميرا توثّق الحرب، بل كانت تُعيد صناعتها وفق رؤية تُحدّد من يكون المنتصر ومن يكون المهزوم، ليس على الأرض فقط، بل في الإدراك الجماعي للأمة العربية بأكملها.

من التمهيد النفسي إلى الانفجار الإعلامي: كيف بدأت “الجزيرة” صناعة الثورة الليبية؟
قبل أن تشتعل النيران في ليبيا، كانت “الجزيرة” تُعيد رسم صورة البلاد بطريقة تجعل الثورة تبدو وكأنها الخيار الوحيد الممكن. لم يكن الخطاب الإعلامي محايدًا، بل كان تصاعديًا، يبدأ من انتقادات متفرقة لسياسات القذافي، ثم يتحوّل إلى تسليط الضوء على الفساد والقمع، ثم ينتهي بتأطير الرواية الكاملة في شكلٍ لا يسمح بوجود حلول سياسية، بل فقط خيار الثورة. لم تكن الثورة وشيكة، لكن الجزيرة كانت تبني لها أرضية نفسية، بحيث يصبح المشاهد مقتنعًا بأنها أمرٌ لا مفر منه، حتى قبل أن يخرج الليبيون إلى الشوارع.

أول علامات التصعيد كانت في طريقة تصوير القذافي، ليس كديكتاتور تقليدي، بل كـ”مجنون معزول”، يتم السخرية منه وتصويره على أنه عائق أمام التقدم، مما خلق حالة نفسية تجعل من إسقاطه ضرورةً وطنية، وليس مجرد خيار سياسي. كانت هذه الهندسة الإعلامية ضرورية، لأن أي ثورة تحتاج إلى بناء صورة واضحة للعدو، والجزيرة كانت تتولى هذه المهمة بدقةٍ متناهية، حيث لم يكن يُسمح لأي رواية بديلة أن تأخذ حيزًا، ولم يكن هناك نقاش حول إمكانيات الإصلاح، بل كان هناك فقط خيار واحد: “يجب إسقاط النظام”.

حرب الجزيرة في ليبيا: الإعلام كأداة عسكرية
عندما بدأت الاحتجاجات في فبراير 2011، لم تكن “الجزيرة” تُغطي الأحداث، بل كانت تُشارك في إدارتها، حيث لم تكتفِ بنقل الأخبار، بل كانت توجهها، تُحدّد من يجب أن يتحدث، ومن يجب أن يُقصى، كيف يتم تصوير الثوار، وكيف يتم تصوير الدولة. لم تكن مجرد ناقل للمعلومات، بل كانت تلعب دور القائد السياسي، حيث كانت تتحكم في مسار الثورة، ليس فقط عبر التغطية، بل عبر إعادة صياغة سرديات الحدث لحظة بلحظة.

لم تكن الثورة في ليبيا كغيرها، لأنها لم تكن تعتمد فقط على القوة الشعبية، بل كانت مُمهدة لتدخلٍ دولي، وكان لا بد من إقناع الجماهير العربية والدولية بأن التدخل ليس غزوًا، بل “مهمة إنسانية”. لعبت الجزيرة دورًا حاسمًا في شرعنة التدخل العسكري الغربي، حيث تم تقديم العمليات العسكرية للناتو على أنها ضرورة أخلاقية، وتم استخدام لغة مُنظمة تجعل الحرب تبدو وكأنها تحرك إنساني لإنقاذ الليبيين، وليس مجرد حملة عسكرية لإعادة تشكيل الجغرافيا السياسية وفق مصلحة القوى الكبرى.

هنا لم تعد “الجزيرة” مجرد طرف في نقل الأخبار، بل كانت أداة تشغيلية للحرب نفسها، تُمرر الرسائل السياسية، تُعيد ضبط تفاعل الجماهير، تُسوّق للصراع على أنه تحرر، وتُغطي الفوضى بطريقة تجعلها تبدو كمرحلة ضرورية نحو الديمقراطية، في حين أن ما كان يحدث فعليًا هو إعادة تفكيك الدولة الليبية بحيث لا تعود قادرة على النهوض مُطلقًا.

ما بعد القذافي: كيف انسحبت الجزيرة وتركَت ليبيا للخراب؟
مع سقوط القذافي في أكتوبر 2011، تغيرت لغة الجزيرة، لم يعد هناك حديث عن “تحرير ليبيا”، بل تحولت التغطية إلى الحديث عن “أزمة أمنية”، وكأن القناة التي أشعلت الثورة لم تعد معنية بنتائجها. كان هذا التحول متوقعًا، لأن الهدف لم يكن بناء ليبيا جديدة، بل تفكيك الدولة وتحويلها إلى فراغ سياسي وأمني يُمكن إعادة توظيفه في أي وقت.

لم تعد القناة تُسلّط الضوء على الحروب الأهلية، وظهور الجماعات الإرهابية، والاغتيالات السياسية، وانهيار الاقتصاد، بل اكتفت بالتغطيات السطحية، بحيث يُترك المشهد الليبي مفتوحًا دون أي محاولة لتقديم حلول سياسية. كان هذا مؤشرًا واضحًا على أن الجزيرة لم تكن تُدير ثورة، بل كانت تُدير مرحلة من الفوضى الموجهة، بحيث يتم تفكيك ليبيا إلى قطع يمكن إعادة ترتيبها حسب الحاجة الاستراتيجية للقوى التي تدير المشهد من بعيد.

الجزيرة اليوم: كيف تستمر في إدارة الصراع الليبي؟
لم تختفِ الجزيرة من ليبيا، لكنها أصبحت أكثر حذرًا في كيفية التعامل مع المشهد، حيث أصبحت الأداة الإعلامية التي تُعيد ضبط النزاع وفق متطلبات المرحلة. عندما تحتاج قطر إلى دعم طرف معين، تعود التغطيات المكثفة، وعندما يكون هناك خطر من ظهور قوى قد تُعيد الاستقرار، يتم إغفال الأحداث بحيث لا تتحول إلى موجة تؤدي إلى حلٍ حقيقي.

قناة “الجزيرة” لم تعد تُركّز على الحلول، بل أصبحت جزءًا من لعبة النفوذ بين القوى الإقليمية، حيث تُستخدم لإضعاف طرف وتعزيز طرف آخر، ليس لصالح ليبيا، بل لصالح الأجندة التي تُخدم عبر الفوضى المستمرة. لم تعد المسألة تتعلق بالقذافي، أو بالثورة، أو حتى بمستقبل ليبيا، بل أصبحت تتعلق بكيفية إبقاء الدولة في حالة من “عدم الاستقرار المُتحكم فيه”، بحيث لا تنهار تمامًا، لكنها لا تتعافى أيضًا.

الخاتمة: كيف ساهمت الجزيرة في تدمير ليبيا؟
لم تكن الجزيرة أداة تحرير، بل كانت أداة إعادة هيكلة الفوضى، حيث لعبت دورًا محوريًا في تفكيك الدولة الليبية، لكنها لم تكن معنية ببنائها من جديد. لم تكن قناة إخبارية، بل كانت منصة تشغيلية لصناعة الإدراك، بحيث يتم التلاعب بالرأي العام لصالح الأجندة التي تقضي بأن تبقى ليبيا ساحة مفتوحة للصراعات، بحيث لا تنتصر أي جهة انتصارًا كاملًا، ولا تُهزم أي جهة هزيمةً كاملة.

لقد أثبتت التجربة الليبية أن قناة ” الجزيرة” ليست إعلامًا حرًا، بل هي أداة تشغيل سياسي، حيث لا يُستخدم الإعلام لإخبار الناس بما يجري، بل يُستخدم لإخبارهم كيف يجب أن يفهموا ما يجري. لم يكن دورها في ليبيا مجرد نقل أحداث، بل كان هندسةً إعلاميةً تُعيد تشكيل الواقع بحيث يصبح الصراع أبديًا، لا نهاية له، لأن النهاية تعني الاستقرار، والاستقرار لم يكن مطلوبًا في ليبيا.

إذا كانت “الجزيرة: قد لعبت دورًا حاسمًا في إسقاط القذافي، فإنها لعبت دورًا أكبر في إسقاط ليبيا نفسها، حيث لم تكن تُدير الثورة، بل كانت تُدير الطريقة التي يجب أن تُفهم بها، بحيث لا يكون هناك مستقبل، بل فقط إعادة إنتاج مستمرة للحروب، حيث يكون كل طرف ضعيفًا بما يكفي ليحتاج إلى دعم خارجي، لكن قويًا بما يكفي ليمنع أي حل نهائي من التحقق. لقد كانت الجزيرة سلاحًا أشد فتكًا من أي طائرةٍ قصفت ليبيا، لأن ما تم تدميره لم يكن فقط البنية التحتية، بل الإدراك نفسه، بحيث لا يرى الليبيون طريقًا للخروج من الدوامة التي صُممت لهم بعناية.

أضف تعليقك

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)

تعليقات ( 0 )