لا يمسّه إلا المطهَّرون: من التخبط والجزع إلى النور

ياسين الطالبي

حين يتردّد في النص القرآني لفظُ «المسّ»، لا يكون المقصود مجرد اصطدامٍ سطحي أو تماسٍ ظاهري يمكن تجاهله بيسر، بل يُقصد به لحظةً من لحظات النفاذ التي تعبر من الخارج إلى الداخل، طفرةً في علاقة الكائن بذاته وبعالمه قد تُبدّل معادلات وجوده أو تكشف معدنَ بنيته، ومن هنا تبدو الكلمة أقرب إلى رمزٍ بنيوي يفتح أمامنا خرائطَ فهمٍ عميقة، إذ إن التعمّق فيها عبر أبعادها الأربعة — المادي والنفسي والعقلي والروحي — ليس عملاً تأمليًا شكليًا فحسب بل هو بناءٌ معرفيٌّ متكامل ينتج مفاتيحًا وشيفراتٍ تسمح بتعقّب سبل وصول القرآن إلى القلوب ومجيئه كحضورٍ نوراني لا يلمسه إلا من هُيّأ لذلك بإصلاحٍ داخليّ.

في البعد المادي يظهر المسّ بوصفه نفاذًا يؤثر في قوانين الفسيولوجيا ويغيّر أنماطَ الحياة والصمود، وفي هذا المكان يكون الكشف عن المسّ تقنيا بالقياس والتحليل: اضطراباتٌ هرمونية، إشارات عصبية، أمراضٌ أو شفاءات، وهو بابه الأول الذي يُبيّن أن الاختراق يبدأ من حسّ الأرض واللحم قبل أن يعتمل في الوجدان، أما في البعد النفسي فالمسّ يفضح آليات الانفعال فتُرى عيّنات الجزع أو الانغلاق أو التفكّك، فتتكشّف أمامنا برمجةٌ سويةٌ للطاقة الانفعالية تحتاج إلى إعادة ضبط وصيانة، وفي البعد العقلي يصبح المسّ حقنًا شيفريًا يُعيد ترتيب أسبقيات المعنى والمحفزات معرفيًا بحيث يأخذ العقلُ قراءاتٍ مزوّرة أو مبرّرة لخطأٍ ما، فيحيل فهم الناس إلى خرائطٍ دلاليةٍ مشوّهة يجب تصفيتها بملكةٍ نقديةٍ واعية، أما في البعد الروحي فالمسّ هو الامتحان الأعمق الذي يختبر نقاء النية وصحّة الذكر واستقامة القيم، ففي هذا المجال لا تُقاس الإصابة بمِكْرٍ جسديّ فقط بل بانقطاعٍ أو انحرافٍ في صلة القلب بمصدره، وما من نفاذٍ نورانيٍّ يتراءى إلا لمن صُقلت شيفرته الداخلية ونقيت نياته.

بهذه الرؤية يصبح التعرّف إلى «المسّ» بوصفه بناءً معرفيًا مهمّةً من نوع خاص: هو استخراج مفاتيحٍ وكوداتٍ تكشف كيف تنتقل المؤثرات من الخارج إلى الداخل، وكيف يمكن تحويل لحظةِ المسّ من امتحانٍ محضّ إلى فرصةٍ للتصحيح والارتقاء؛ ففهمُ الشيفرات هذه يسمح بتبيان مواقع الضعف وإحداث برامجٍ عمليةٍ لإغلاق الثغرات: تقوية المناعة والاهتمام بالبدن، تهيئة النفس بآلياتِ مرونةٍ ومداواةِ صدمات، صقل العقل بالحصانة المعلوماتية والقدرة النقدية، وصيانة الروح بنقاء نية وممارسة ذكرٍ متواصلة وقيم متجذّرة، وهذه كلها مفاتيحٌ تعيد الشيفرة الأصلية إلى منطقها وتسمح للكيان بأن يُمسَّ بالقرآن مسًّا نورانيًا لا كاختراقٍ مدمر.

ومن هذا المنطلق يكتسب «المسّ» طابعًا فلسفيًا محوريًا في خطاب الوحي: فهو درجةُ الكشف التي تفضح الأنا أو تُطهّرها، وهو آليةٌ تربويةٌ تكشف عن الطريق بين الافتقار والاعتماد على الذات، بين الجزع والغنى القلبي، بين التشوّه المعرفي والوضوح، وبين الضلال والصفاء الروحي؛ وفهم هذه الدرجة يتطلب منا أن ننظر إلى المسّ كمجموعة مفاتيحٍ متداخلة لا بوصفها مجرد حوادثٍ منفصلة بل كرموزٍ لأنماطٍ من النفاذ ينبغي دراستها من داخلها لا من فروةٍ ظاهرية.

وهكذا فإن العمل على قراءة المسّ يمثل محاولةً فكريةً وروحيةً لصياغة كوداتٍ عمليةٍ: كيف نفهم المؤثرات ونسنّن لصدّها، كيف نعيد شيفرة الفطرة إلى سيطرتها حين تتلقّى شيفرةً دخيلة، وكيف نمهّد ما فينا لأن يكون موطئًا لمسٍّ نوراني يضيف لا يستهلك، إنما لا يكون ذلك إلا إذا أُخذت شؤون الجسد والنفس والعقل والروح معًا في لحمةٍ واحدة، لأن الشيفرات التي تُحقَن في أحد الأبعاد تنساب إلى الأخرى ما لم تُصان الأغشية المتبادلة، ومن ثمّ تتولّد استراتيجية صيانةٍ شاملةٌ تجمع بين وقايةٍ صحيةٍ، وعلاجٍ نفسيٍ، وتربيةٍ معرفيةٍ، وترميمٍ روحيٍّ، وإصلاحٍ اجتماعيٍّ، وكلّها تكتب مفاتيحٍ جديدةً للقاء مع القرآن كحضورٍ لا يُمسّ إلا بالمطهّرين.

وإذا كان هذا هو عُمق «المسّ» في الفلسفة القرآنية، فإن من أكبر المفارقات أن يُختَزل قوله تعالى ﴿لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾ في نقاشٍ فقهيٍّ محدود حول جواز أو عدم جواز أن يلمس غير المتوضئ أوراق المصحف، وكأنّ القرآن العظيم، الذي قدّم نفسه للعالم بعبارةٍ كونيةٍ جامعة ﴿هُدًى لِلنَّاسِ﴾، صار رهينًا لشروطٍ شكليةٍ تمنع الناس من تلاوته بحجّة أنهم لم يغسلوا أعضاءً من جسدهم.

لقد تحوّل النصّ إلى حاجز بدل أن يكون جسرًا، وصار «المسّ» محصورًا في الأصابع لا في القلوب، في الطقوس لا في البُنى العميقة، بينما الخطاب القرآني كان يوجّه البصيرة إلى ما هو أبعد: أن المطهَّر هو من نقّى شيفرته الداخلية من الشحّ والغرور والهوى، لا من اكتفى ببلّ كفّيه بالماء. وهل يُعقل أن يَمنع القرآن نفسًا تائهة عطشى من أن تفتح صفحاته، وهو الذي جاء ليوقظ الظمأى في صحارى الروح؟ وهل يجوز أن يُغلق باب الهداية في وجه من يبحث عن خيط نجاة لمجرّد أنه لم يقم بحركة وضوءٍ صحيّةٍ شكلية؟

إن التضييق في هذه الآية لا يصمد أمام منطق البناء القرآني نفسه، لأن «المسّ» فيها ليس تقييدًا جسديًا بل توصيفٌ كونيٌّ: لا يبلغ حقيقة القرآن ولا ينفذ إلى كتابه المكنون إلا من صارت بنيته مطهَّرةً من الداخل، فالمطهرون هنا ليسوا جماعةً فقهيةً تراجع فهارس الطهارة المائية، بل هم الأرواح التي اجتازت امتحانات الضرّ والخير والجزع والمنع والتخبط فخرجت صافيةً قابلةً لحمل النور.

الخطورة أن هذه القراءة الشكلية جعلت القرآن أحيانًا أقرب إلى مَلْكٍ محفوظٍ في رفوف، يُمنَع على العوام أن يقتربوا منه إلا بشروط طقسية، بينما الوحي في حقيقته أُنزِل ليخترق كل الحواجز ويقتحم كل البيوت والقلوب، يقرأه الطاهر والمُلوَّث، التقي والعاصي، الكبير والصغير، لأنه ليس كتاب صفوةٍ مغلقة بل مشروع كونيٌّ لإعادة صياغة الإنسان والمجتمع.

من هنا يحقّ لنا أن نسأل — لا على سبيل الاعتراض بل على سبيل التفكّر: كيف انقلبت الآية التي تشير إلى سرّ العبور النوراني لتصبح قيدًا على الأيدي والأوراق؟ كيف ضاع الجوهر في التفاصيل، حتى غاب أن القرآن أراد «طهارة القلب» فجُعل الأمر متعلّقًا بـ«طهارة الكفّ»؟ وأيّ خطر أكبر على الأمة من أن تحوَّل شيفرات العبور الكبرى إلى جدالات شكلية تُقصي الناس عن الكلمة التي جاءت أصلاً لتكون «هدى للناس»؟

إنّ إدراك معنى المسّ في عمقه ليس ترفًا لغويًا ولا جدلًا تفسيرياً، بل هو ضرورة قصوى للإنسان، لأنه المفتاح الذي يفتح أمامه سرّ العبور من الهشاشة إلى الطهارة، ومن العجز إلى البصيرة، ومن الفوضى الفردية إلى التماسك الجماعي؛ فمن لم يفهم كيف يعمل المسّ في جسده ونفسه وعقله وروحه، ظلّ عُرضةً للاختراقات التي تُهدر حياته وتشتت وعيه وتُفكك مجتمعه، أما إذا وعى قوانينه وبنى جداراته، صار قادرًا أن يبلغ أقصى نفعية ممكنة، لا كفردٍ ناجٍ فقط، بل كجماعةٍ مطهَّرةٍ صالحةٍ لأن تتلقى النور القرآني وتتحرك به في التاريخ.

الفرق بين اللَّمس و المسّ فرقٌ جوهريّ في العمق والدلالة: فاللَّمس هو تماسٌّ خارجيٌّ محدود يقع على السطح، يدركه الحسّ باليد أو بالبشرة، ويظل أثره محصورًا في الطبقة الظاهرة، فلا يتجاوز أن يكون حركةً جسديةً محسوسةً بين شيئين يلتقيان لحظةً ثم ينفصلان. أمّا المسّ فهو نفاذٌ إلى الداخل واختراقٌ للبنية، لا يتوقف عند ظاهر الجسد أو سطح الشيء، بل يترك أثرًا في العمق، فيُحدث تغييرًا في النظام النفسي أو العقلي أو الروحي، ويكشف مقدار صلابة الجدار الحامي أو هشاشته.

فاللمس، بهذا المعنى، هو علاقة سطحٍ بسطح، بينما المسّ علاقة داخلٍ بخارج، حيث لا يقف عند الحِسّ المجرّد، بل يتعلّق بالكيان في أبعاده الخفيّة. ومن هنا كانت دلالة المسّ في القرآن أوسع وأخطر، لأنه يتجاوز الملامسة البدنية ليصف حالاتٍ وجوديةً عميقة، من الضرّ والجزع والوسوسة والتخبط، وصولًا إلى المسّ النوراني الذي لا يناله إلا المطهَّرون.

“المسّ” في منطق القرآن ليس مجرد تماسٍّ عابر على السطح كما يوحي اللمس، بل هو قانون اختراق داخلي يُبيّن كيف يمكن للقوة الخارجية، مهما صغرت أو خفيت، أن تنفذ عبر الجدران الحامية لتترك أثرها في عمق البنية الإنسانية، فتغيّر في نظامها النفسي أو العقلي أو الروحي أو الجسدي، ولذلك فهو مقياسٌ للتماسك الداخلي أكثر منه وصفًا للحركة الخارجية.

حين نتأمل لفظ المسّ في القرآن، ندرك منذ الوهلة الأولى أنّه لا يمكن أن يُختزل في مجرّد تماسٍّ حسيٍّ أو احتكاكٍ سطحيٍّ كما هو شأن اللمس، بل هو أعمق من ذلك بكثير، إذ يصف قانونًا كونيًا يحكم العلاقة بين الخارج والداخل، بين الحدث الظاهر وبين البنية الكامنة، بين ما يُرى بالعين وبين ما يترك أثره في صميم الذرّة الإنسانية. إن المسّ، بهذا المعنى، ليس حركةً جسديةً عابرة، بل نفاذٌ إلى العمق واختراقٌ للجدار الداخلي الذي يحفظ تماسك الكيان، فإذا صمد هذا الجدار ظلّ الأثرُ خارجيًا، وإذا تصدّع تسرّب الداخلُ إلى الخارج وتحوّل الحدثُ الجزئي إلى تجربةٍ وجودية شاملة.

فاللمس يظل في دائرة الحسّ الظاهر: يدٌ تلمس شيئًا فتعرف صلابته أو دفئه، جلدٌ يلامس سطحًا فيدرك ملمسه، وكل ذلك يظلّ مقصورًا على الحواس الخارجية. أما المسّ، فهو تجاوزٌ لهذه الدائرة إلى ما وراء الحسّ؛ إذ يصف لحظةً يدخل فيها العامل الخارجي — ضرٌّ أو خير، فكرة أو وسوسة، طاقة أو صدمة — إلى الداخل، فيعيد توزيع القوى بين الجسد والنفس والعقل والروح، ويُظهر مدى انسجامها أو تشتتها. وهنا نفهم لماذا اختار القرآن هذا اللفظ الدقيق ليعبّر عن حالاتٍ كبرى: مسّ الضرّ، مسّ الشيطان، مسّ السوء، مسّ النور، لأن ما يحدث ليس احتكاكًا بسيطًا، بل إعادة تشفير للنظام الداخلي للإنسان.

إن المسّ قانون اختراق داخلي لأنّه يشتغل وفق معادلة دقيقة: وجود محفّز خارجي يطرق جدارًا من الجدران الأربعة للإنسان (المادي، النفسي، العقلي، الروحي)، فإذا كان الجدار محكمًا بالطهارة والتقوى والوعي النقدي والذكر، ارتدّ الأثر وبقي في الخارج، أما إذا وُجد ضعفٌ أو تصدّعٌ أو غفلة، انفتح الباب وتسلّل المؤثر، وحينها لا يبقى الأمر مقصورًا على لحظة حسية بل يصبح صيرورةً تغيّر نظام الإنسان من الداخل. ولذا فالآية ﴿لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾ لا تتحدث عن أصابع تلمس ورقًا، بل عن بنيةٍ داخلية لا تفتح أبوابها للنور إلا إذا صارت مصفّاةً من الشوائب.

بهذا التصوّر، يتجاوز المسّ كونه وصفًا لحالةٍ ظرفية ليصبح معيارًا وجوديًا: هو البوصلة التي تفضح هشاشة الجدران أو متانتها، وهو الامتحان الذي يحدّد إن كان الإنسان سيظلّ واقفًا على تماسٍّ سطحي لا يترك أثرًا، أم أنّه سيخوض تجربة عبورٍ تمسّ أعماقه وتعيد صياغته. فمن لم يفهم المسّ كقانونٍ داخلي يظلّ حبيس الظواهر، أما من وعاه، فقد بدأ يدرك أنّ الحياة كلّها سلسلة مسّاتٍ متتالية، بعضها يجرّ إلى التخبط إذا لم تُصن الجدران، وبعضها يفضي إلى الطهارة إذا حُفظ الداخل وصُقل.

إحصاء وتصنيف مواضع المسّ في القرآن

عندما نفتح المصحف بعينٍ تترصّد مواضع لفظ المسّ ونقرأ بتأنٍّ كيف وزّع الوحي هذا المفهوم، نجد أنّه لم يرد على سبيل المصادفة ولا بكمٍّ متفرّق، بل جاء في اثني عشر موضعًا محدّدًا كأنها لبناتٌ في بناءٍ متدرّجٍ دقيقٍ يريد أن يصوغ للقارئ خريطةً كاملةً لمسيرة الإنسان مع الابتلاء والاختراق والتطهير، بحيث تبدأ التجربة من الميدان الفردي الضيّق حيث يلمس الضرّ جسدًا أو نفسًا، ثم تتسع شيئًا فشيئًا لتشمل الأبعاد الأخلاقية والاجتماعية والرمزية، ثم ترتقي إلى مواجهةٍ مباشرةٍ مع الاختراق الشيطاني، وأخيرًا تصل إلى القمّة حيث المسّ النوراني الذي لا يبلغه إلا المطهَّرون، وبذلك يتحوّل إحصاء المواضع إلى قراءةٍ تربويةٍ–بنيويةٍ تفضح عن قصدٍ إلهيٍّ محكمٍ لا يكتفي بوصفٍ لغويّ بل يؤسس لمنهجٍ في تربية الداخل.

فالفئة الأولى هي المسّ بالضرّ أو السوء، وقد وردت في ستة مواضع، وهي الأكثر عددًا لأنها الأقرب إلى خبرة الإنسان اليومية والأكثر شمولًا في اختبار هشاشته؛ ففي قوله تعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ﴾ إشارةٌ إلى لحظة مواجهة الخطر المادي المباشر الذي يكسر وهم السيطرة، وفي قول أيوب عليه السلام: ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ تصويرٌ لانكشاف العبد بكليته أمام ربّه حين ينهكه الجسد والنفس معًا، وفي مواضع أخرى مثل ﴿وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ﴾ و﴿وَإِنْ مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعٌ﴾ يُرسم المشهد النفسي للأنا حين تتقلّب بين الضرّ والخير فتتكشف هشاشتها أو طاقتها الكامنة. هذه المواضع الستة تضع قاعدة مفادها أنّ المسّ بالضرّ ليس شذوذًا بل هو المدخل الطبيعي لتربية الأبعاد الإنسانية وإخراجها من الغفلة إلى الافتقار.

أما الفئة الثانية فهي المسّ النفسي/الأخلاقي، وقد ورد في ثلاثة مواضع، وهي تكمل ما بدأه المسّ بالضرّ من خلال نقله إلى مستوىٍ أعمق؛ إذ لا يكتفي النصّ بوصف الألم أو الفقد أو الخوف، بل يصوّر أثر ذلك في النفس حين تتحوّل إلى كائنٍ هلوعٍ، ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا﴾، فالآيات هنا تحوّل المسّ إلى مرآةٍ أخلاقية تكشف هل الإنسان يملك القدرة على الصبر والشكر أو أنّه ينهار عند أوّل اختبارٍ بالشرّ أو يغلّف قلبه بالأنانية عند أوّل مسٍّ بالخير. إنّ هذه الفئة تجعل من المسّ أداة تشخيصٍ للبنية النفسية والأخلاقية، لا مجرد اختبارٍ للجسد، فهي تقيس سلامة القلب من داخل.

ثم تأتي الفئة الثالثة وهي المسّ الشيطاني في موضعين بارزين، وهما قمّة في الكشف عن البنية العميقة للاختراق؛ ففي قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾ تصويرٌ لمشهدٍ يتجاوز مجرد السقوط الجسدي إلى اختلالٍ شاملٍ في التنسيق النفسي والعقلي والروحي، بحيث يصبح الإنسان متخبّطًا كمن فقد نظام تشغيله الداخلي، وفي آيةٍ أخرى على لسان أيوب: ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ﴾ يظهر المسّ هنا كابتلاءٍ يجمع بين العذاب الجسدي والنصب النفسي والاختبار الروحي. هذان الموضعان يقدّمان المسّ بوصفه برمجةً مضادّةً للفطرة إذا نفذت إلى الداخل، ويكشفان أنّ الهشاشة الحقيقية ليست في مواجهة الضرّ الطبيعي فحسب، بل في مواجهة المسّ الشيطاني الذي يُدخل الشيفرات المضادّة إلى النظام.

وأخيرًا تأتي الفئة الرابعة وهي المسّ النوراني، وقد وردت في موضع واحد هو قوله تعالى: ﴿لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾، وهذا الموضع الاستثنائي لا يتحدّث عن ضرٍّ أو سوءٍ أو وسوسة، بل عن سرّ العبور إلى النصّ المكنون، حيث يصبح المسّ نفسه فعلاً نورانيًا لا يقدر عليه إلا من تهيّأت بنيته الداخلية بالطهارة، فيرتفع من مستوى الاختبار إلى مستوى الاصطفاء، ومن طبقة الابتلاء إلى طبقة التمكين. وهذا الموضع الأخير ليس منعزلًا عن بقية المواضع، بل هو تاجٌ يُتوَّج به من اجتاز المراحل السابقة وتعلّم من تجارب المسّ بالضرّ والشرّ والوسوسة حتى صار جديرًا بالمسّ النوراني.

وإذا نظرنا إلى هذا التوزيع في مجموعه وجدنا أنّه ليس توزيعًا عدديًا فقط، بل هو بنية تصاعدية: يبدأ بالمسّ الذي يطال الجسد والنفس في التجارب الفردية، ثم ينتقل إلى المسّ الذي يفضح بنية الأخلاق ويختبر الجماعة، ثم يتصاعد إلى المسّ الشيطاني الذي يكشف معركة المعنى والبرمجة الداخلية، ثم يبلغ القمة في المسّ النوراني الذي يربط الإنسان بالكتاب المكنون، وبذلك يقدّم القرآن خريطةً متكاملةً للمسّ باعتباره أداة تربيةٍ وتطهيرٍ وعبورٍ من المحدود الفردي إلى المطلق الكوني.
المسّ بالضر

حين نقرأ قوله تعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ﴾، ندرك أننا لسنا أمام وصف عابر لحالة خوف أو أزمة طارئة، بل أمام بناء هندسي متكامل يضع الإنسان في لحظة هشاشته المطلقة حيث تنكسر كل جدران الحماية المادية والاجتماعية والعقلية التي كان يتوهم أنها حصون منيعة، فإذا بالبحر الذي هو رمز الفضاء اللامحدود والعمق المخيف والسطوة الكونية يبتلع كل يقيناته السابقة ويجعله وجهاً لوجه أمام حقيقة أنه لا يمتلك في ذاته قوةً قادرة على دفع الخطر أو احتواء الانهيار، وهنا يظهر معنى «المسّ بالضر» كاختراق غير مادي، يمرّ عبر جميع الأبعاد الأربعة التي تشكل الذرة الإنسانية — الجسد الذي يرتجف، النفس التي تضطرب، العقل الذي يتخبط بين الحسابات المستحيلة، والروح التي تلهج بنداء خفيّ كان غائبًا طيلة الرخاء — ليكشف للإنسان أن وجوده برمّته ليس إلا شبكة متشابكة قابلة للاختراق عند أول لحظة اهتزاز.

إن «المسّ بالضر» ليس عقوبةً بقدر ما هو أداة تربوية كونية، فهو يشبه تيارًا كهربائيًا ينفذ إلى عصب داخلي لم يكن الإنسان يشعر به من قبل، فيوقظه من وهم الاستقرار ويجعله يكتشف أن الطمأنينة التي بناها على العادة أو على المظاهر الاجتماعية أو على الحسابات العقلية كانت طمأنينة زائفة، وأن الضرّ، حين يتسرّب إلى الداخل، ينسف هذه الأركان جميعًا، لا ليهدم الكيان، بل ليعيد بناءه على أساس أكثر صدقًا وأقرب إلى الطهارة، فكأن المسّ هنا عملية صقل للنفس والعقل والروح معًا، تزيل الشوائب وتجبر الإنسان على مواجهة ما تهرّب منه طويلًا.

ولو تأملنا هذه الطبقة الأولى من «المسّ»، لوجدنا أنها بمثابة المعمل التمهيدي الذي يُدرّب الوعي على استيعاب بقية أنواع المسّ، فكما يطرق الحداد الحديد بالنار ليجعله أكثر صلابة، يطرق الوحي النفس البشرية بالضرّ ليختبر مدى هشاشتها، ويعلّمها أن الألم ليس نهاية الطريق بل بدايته، وأن الانكسار أمام القوة الكونية الكبرى ليس ضعفًا بل نافذة إلى إعادة ترتيب البنية كلها، فالضرّ لا يدخل من باب الجسد فقط، بل من بوابة النفس والعقل والروح في وقت واحد، وهنا تكمن عبقرية التعبير القرآني: «المسّ» ليس إصابةً عرضية، بل نفاذ عميق إلى كل طبقة من طبقات الكيان الإنساني.

ولذلك حين يقول الإنسان: ﴿مَسَّنِيَ الضُّرُّ﴾، فهو لا يصف مجرد ألم جسدي أو وجع عابر، بل يصف لحظة انهيار كل محاولاته للتماسك الذاتي، واعترافه بأن قوته الشخصية عاجزة عن الصمود، وهذه اللحظة — على قسوتها — هي الشرط الأول للطهارة، لأن الطهارة ليست زينة خارجية ولا طقسًا جسديًا، بل هي القدرة على التخلّي عن أوهام الأنا، والتوجه إلى المطلق بلا حواجز، فالضرّ هو المطرقة التي تكسر غلاف الأنا لتسمح للنور أن يخترق الداخل.

ومن هنا نفهم أن «المسّ بالضر» هو الطبقة الأولى في سلّم هندسة المسّ القرآني: إنه الأرضية التي يُبنى عليها كل شيء لاحق، لأنه يعلّم الإنسان أن يقرأ وجوده لا من موقع القوة والامتلاك، بل من موقع الهشاشة والانكسار، فيكتشف أن الطهارة ليست ترفًا بل ضرورة، وأن المسّ القرآني الأعلى — «لا يمسّه إلا المطهّرون» — لا يمكن أن يتحقق ما لم يمرّ الفرد أولًا بهذه التجربة التأسيسية التي تكشف له ضعفه وتعيد تنظيم كيانه الداخلي ليكون مستعدًا لاستقبال ما هو أعظم.

المسّ بالخير

إذا كان «المسّ بالضر» هو المطرقة التي تضرب جدار الأنا فتجعله يتشقق ويكشف هشاشته العميقة، فإن «المسّ بالخير» هو الوجه الآخر لهذه المعادلة الوجودية الكبرى، إذ لا يُختبر الإنسان فقط حين تضيق به السبل وتشتدّ عليه الأوجاع، بل يُختبر كذلك حين تُفتح أمامه أبواب النعمة ويُغدق عليه من فيوض العطاء ما يجعله يظنّ أنه استغنى، وهنا يتجلّى قوله تعالى: ﴿وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ﴾، فالمسّ بالخير هو اختراق من نوع مختلف، لا يأتي كالسهم النافذ من الألم، بل كالغشاوة الناعمة التي تتسلل إلى الداخل عبر لذّة المال أو سطوة المنصب أو شعور الطمأنينة المزيّفة، حتى يتخدّر الوعي ويستبدل الشكر بالغرور، والاعتراف بالمصدر الأعلى للنعمة بادّعاء الملكية المطلقة لها.

وهذا المسّ بالخير أخطر من المسّ بالضر، لأن الضرّ يوقظ الإنسان قسرًا ويجبره على مواجهة ضعفه، بينما الخير قد يخدّره ويجعله يعيش في فقاعة وهمية يظن فيها أن كل شيء تحت سيطرته، وأن المنظومة الداخلية مكتفية بذاتها، دون أن يدرك أن المسّ الإلهي بالنعمة ليس غايةً في ذاته، بل اختبار لمعرفة: هل سيستطيع الإنسان أن يتطهّر من أنانيته ويحوّل الخير إلى جسر للتزكية والإصلاح، أم سيسمح للنعمة أن تتحوّل إلى مدخل خفيّ للشيطان فيصير المسّ بالخير أشدّ خطورة من المسّ بالضر؟

فالقرآن، ببنائه الهندسي البديع، يعلّمنا أن النعمة ليست دائمًا عطاءً بريئًا، بل قد تكون شكلًا من أشكال «المسّ» الذي يختبر التوازن الدقيق بين اللذّة والشكر، بين الامتلاك والاعتراف بالفضل، بين الاستغناء الظاهري والافتقار الباطني، ومن لم يتطهّر في مواجهة هذا الاختبار الثاني، فإن قلبه يتلوّث بالكبر أو الجحود أو الاستعلاء على الآخرين، وهنا يظهر المسّ كفيروس برمجي جديد لا يضرب الجسد أو الأعصاب أو المشاعر مباشرة، بل يدخل عبر منافذ النعمة نفسها، فيحوّلها إلى أداة تدمير بطيء للجدارات الداخلية التي كان الضرّ قد حاول إصلاحها.

إن الإنسان الذي يمسّه الخير فيعرض وينأى بجانبه، إنما يُظهر أن الطهارة لم تتجذر في داخله بعد، لأنه لم يتعلّم أن يرى الخير كأمانة لا كغنيمة، ولم يدرك أن النعمة إنما تُعطى ليُختبر في مدى تحوّلها إلى شكر عملي وسلوك مطهّر، لا إلى عُجب ورياء وتكديس أناني، فالخير هنا لا يُسمّى خيرًا إلا إذا عبر من باب الطهارة، وإلا صار مسًّا مُدمّرًا لا يختلف في جوهره عن مسّ الضر، بل أشد خطرًا لأنه يُعمي البصيرة بدل أن يوقظها.

ولهذا يمكن القول إن «المسّ بالخير» هو الامتحان الصامت الذي لا يلتفت إليه كثيرون، لأنه لا يصرخ كالضرّ، ولا يُفزع كالمرض أو الخوف، بل يتسلل بخفة النعمة ونعومة الراحة إلى أن يطمس الحاسة الروحية ويُغلق نافذة الافتقار إلى الله، وهنا تكمن عبقرية البناء القرآني: أن يجعل من المسّ بالخير والضر وجهين لعملة واحدة، كلاهما يختبر الطهارة، وكلاهما يهيئ الإنسان لمرحلة أعلى، حيث يصبح قادراً على التدرج من التجارب السلبية والإيجابية معًا نحو الطهارة الكاملة التي تمكّنه من مسّ القرآن نفسه.

فالمسّ بالضر يكشف هشاشة الوجود، والمسّ بالخير يكشف قابليته للغرور، وبين هذين القطبين يتحرك الإنسان في رحلة طويلة، يتعلم فيها أن الطهارة ليست خلوّ الجسد من النجاسة ولا انتظام العادة في الطقوس، بل هي قدرة البنية الإنسانية بأبعادها الأربعة على أن تبقى متوازنة ومتناغمة سواء أصابها الألم أو لامسها النعيم، لأن الطهارة في النهاية هي فنّ الاختيار الإيجابي وسط كل هذه الاختراقات، وهي وحدها التي تُؤهّل الكيان البشري أن يقترب يومًا من فاكهة المسّ القرآني النوراني.

المسّ النفسي (الجزع والقنوط)

حين يقول القرآن: ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا﴾، فإنه يفتح أمامنا نافذة دقيقة إلى داخل النفس البشرية لا كما نراها نحن في مظاهرها الخارجية المتماسكة، بل كما هي في حقيقتها العارية حين تتعرض للمسّ، لأن المسّ هنا ليس مجرد اختبار خارجي، بل عملية اختراق تكشف ما هو مطمور خلف الأقنعة، وما هو متوارٍ خلف توازنٍ مصطنع، فإذا بالإنسان حين يصيبه الشرّ ينهار في صورة جزع، أي ارتباك داخلي يتخذ شكل نحيب أو فزع أو تشتت في القرار، وإذا لامسه الخير انقلب إلى منعٍ واستئثارٍ وحبّ للذات، وكأن المسّ يعرّي هذين الحدّين: حدّ الضعف المفرط وحدّ الأنانية المفرطة، ليبيّن أن النفس غير المطهّرة لا تعرف الاعتدال ولا الوسطية، بل تتأرجح دومًا بين الجزع والمنع.

إن هذا النص القرآني لا يصف حالات نفسية جزئية بل يرسم هندسة باطنية للنفس، إذ يُظهر أن الكيان النفسي للإنسان هشّ في بنيته الأصلية، مائل إلى الاضطراب، قابل للاختراق عند أدنى لمسة، فإذا جاءه الشرّ انكشف خوفه العميق من الفقد، وإذا جاءه الخير انكشفت رغبته الجامحة في الاحتكار، وهذه الازدواجية ليست مجرد أخلاق فردية، بل هي قوانين نفسية عامة تشكّل ما يمكن أن نسميه «البنية الافتراضية للنفس» التي تحتاج إلى إعادة برمجة حتى تتهيأ لبلوغ الطهارة، فالمسّ هنا ليس عقوبة ولا منحة، بل أداة كشف، كأن القرآن يضع المرآة أمام النفس لتواجه عريها الأخلاقي والوجداني.

والمثير أن القرآن لم يقل «إذا مسّه الشر حزن» أو «إذا مسّه الخير فرح»، بل اختار كلمتين دقيقتين: «جزوعًا» و«منوعًا»، الأولى تعبّر عن حالة تفكك داخلي أشبه بالانهيار العصبي، والثانية تعبّر عن انسداد أخلاقي يجعل الإنسان يغلق أبواب الخير على نفسه ويمنعه عن الآخرين، وكأن المسّ النفسي يضرب في نقطتين مركزيتين: في العصب العاطفي الذي لا يحتمل الألم، وفي الغدة الأخلاقية التي لا تقبل المشاركة، وهكذا يُظهر لنا الوحي أن النفس قبل أن تتطهر ليست سوى ميدان هشّ يسهل على أي مسّ أن يكشف فضائحها الداخلية.

وإذا تأملنا هذا البناء مع ما سبقه من مسّ الضر والخير، وجدنا أن القرآن يتدرج ببراعة: ففي البداية يريك كيف يتسرب الضرّ من الخارج ليكسر وهم الأمان، ثم يريك كيف يتسلل الخير ليختبر شكرك أو غرورك، ثم ينتقل بك إلى مستوى أعمق فيكشف لك أن ردود فعلك التلقائية أمام هذين المسّين ليست محايدة، بل هي نفسها ملوّثة، وأنك إما أن تجزع جزعًا ينسف ثقتك ويغرقك في القنوط، أو تمنع منعًا يكشف أن الخير لم يطهّرك بل زادك شحًّا، ومن هنا نفهم أن الطهارة ليست مجرد مقاومة الألم ولا مجرد شكر على النعمة، بل هي إعادة بناء للنفس كي تكسر هذا النمط الازدواجي وتتحول إلى حالة من الاعتدال والاتزان.

فالجزع إذن ليس مجرد ضعف، بل شهادة على أن النفس لم تتطهر من خوفها المرضي من الفقد، والمنع ليس مجرد بخل، بل دليل على أن النفس لم تتحرر من شهوة التملك، والمسّ النفسي هو المرحلة التي يختبر فيها الإنسان نفسه كمرآة: هل سيبقى مقيّدًا بهذه البنية البدائية، أم سينجح في تفكيكها وإعادة برمجتها من خلال الوعي والصبر والتزكية، ليصير مطهّرًا قادرًا على أن يتلقى مسّ القرآن؟

وبهذا يكون المسّ النفسي طبقة ثالثة في السلم القرآني: بعد أن يوقظك الضرّ، وبعد أن يختبرك الخير، يأتي هذا الفصل ليواجهك بنفسك، فلا تجد مهربًا من حقيقة أنك إنسان مخلوق هلوعًا، قابلًا للجزع والمنع، وأن الطريق إلى الطهارة يبدأ من هنا، من لحظة إدراك أن النفس بحد ذاتها ميدان هشّ مفتوح للاختراق، وأنها تحتاج إلى هندسة جديدة لتصبح صافية، فيدخلها النور بدل أن يتخبطها الجزع أو يغمرها المنع.

المسّ الأخلاقي (انكشاف الباطن)

حين يقول القرآن في أكثر من موضع: ﴿وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ﴾، فإننا ندرك أن المسّ هنا لم يعد مجرد تجربة جسدية مع الألم ولا مجرد امتحان نفسي أمام الجزع والمنع، بل تحوّل إلى أداة دقيقة لقياس معدن الأخلاق نفسها، لأنه يكشف عن البنية الداخلية التي تختبئ تحت غطاء الطقوس أو الادعاءات أو الخطاب الظاهري، فإذا بالإنسان الذي يلهج بالدعاء في ساعة الضرّ، ويرفع يديه متذللًا، ويعد نفسه والآخرين بالوفاء والإصلاح، ينقلب عند أول مسّ للنعمة إلى حالة من الجحود والنسيان، وكأن الضرّ لم يكن إلا محفزًا مؤقتًا لا يترك أثرًا أخلاقيًا دائمًا، وهنا تتجلّى خطورة «المسّ الأخلاقي»، لأنه يفضح أن الدعاء والإنابة لم تكن صادرة من عمق الطهارة، بل كانت مجرد انعكاس ظرفي لشدّة ضغط الضرر.

وهذا يعني أن «المسّ» في بعده الأخلاقي يعمل ككاشف نوعية، تمامًا كما يعمل جهاز الفحص الطبي حين يضخّ مادة كاشفة في الدم فيُظهر الخلل في الأعضاء التي لا يراها الطبيب بالعين المجردة، فالمسّ حين يدخل عبر باب الضر أو الخير لا يكتفي بإحداث الألم أو اللذة، بل يتسلل إلى أعمق طبقة ويكشف: هل هذا الإنسان ثابت في أخلاقه أم متلوّن بظروفه؟ هل يتذكر العهد مع الله في الرخاء كما يتذكره في الشدة، أم ينسى ويعرض ويكفر بالنعمة بمجرد أن ينقشع الغبار؟ ومن هنا نفهم أن المسّ الأخلاقي ليس مرحلة عابرة، بل هو الميدان الذي يُفضح فيه التناقض بين القول والفعل، بين الظاهر والباطن، بين الوعد والوفاء.

إن ما يصفه القرآن في هذه الآية ليس مجرد حالة نسيان عابرة، بل هو هندسة نفسية–أخلاقية دقيقة، تقول إن الإنسان الذي لم يتطهر داخليًا يبقى معرضًا لأن تكون أخلاقه ردود أفعال ظرفية لا قيم ثابتة، وأن الطهارة المطلوبة ليست أن يتوضأ قبل أن يمسّ المصحف، بل أن يُنقّي قلبه من هذا التناقض القاتل، وأن يربط الدعاء بالعمل، والإنابة بالثبات، والشكر بالاستمرار، لا باللحظة المؤقتة التي تنتهي بانتهاء المسّ بالضرّ.

ولعل أجمل ما يكشفه «المسّ الأخلاقي» أن القرآن يعامل الأخلاق نفسها كمنظومة قابلة للاختراق، وأن هذا الاختراق ليس دائمًا من الشيطان أو من الألم، بل قد يكون من النعمة ذاتها، وكأن القرآن يريد أن يقول إن الأخلاق غير المطهّرة لا تصمد أمام أي ضغط، لأنها مبنية على مصلحة لا على قيمة، وعلى حاجة آنية لا على مبدأ متجذّر، وهنا يظهر الفرق بين إنسان طهّر باطنه فصار دعاؤه وإنابته وشكره متواصلًا في الرخاء والشدّة، وبين إنسان بقيت أخلاقه مشروطة بمقدار ما يُعطى أو يُسلب.

وهكذا يصبح «المسّ الأخلاقي» المرحلة الرابعة في سلّم المسّ القرآني: بعد أن واجه الإنسان الضرّ فاكتشف هشاشته، وبعد أن لمس الخير فانكشف غروره، وبعد أن فضحته نفسه في الجزع والمنع، يأتي الدور على الأخلاق لتُختبر في حقيقتها، فإما أن تنكشف على حقيقتها كقيم زائفة تنهار أمام أول نعمة، أو تتجلّى كقيم أصيلة صارت جزءًا من الطهارة التي تؤهّل الإنسان لمزيد من الاقتراب من النور القرآني، لأن الطهارة في النهاية ليست فقط نقاء الجسد أو تهذيب الانفعال، بل هي ثبات الأخلاق أمام جميع أنواع المسّ.

المسّ الشيطاني (التخبط)

حين يرسم القرآن مشهد الذين يأكلون الربا بقوله: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾، فإنه لا يكتفي بوصف حالة اقتصادية أو سلوك مالي منحرف، بل يضعنا أمام واحدة من أعمق الصور الرمزية التي تُجسد معنى «المسّ» كاختراق شيطاني مباشر للوعي والبدن معًا، إذ لا يعود الإنسان قائمًا على قدميه بوعي واتزان، بل يتحول إلى كائن متخبط، حركاته غير متسقة، قراراته غير مستقيمة، منطقه مشوش كمن أصابه صرعٌ أو اضطرابٌ عصبي، لكنه ليس صرعًا جسديًا صرفًا، بل صرعٌ ناتج عن خلل في البنية المعرفية والأخلاقية، أي أن المسّ هنا هو مسّ برمجي يمسّ الوعي ذاته ويعيد تشكيله وفق منطق الشيطان، لا وفق ناموس الطهارة.

إن التخبط الذي يصفه النص القرآني ليس مجرد اهتزاز في الحركة الجسدية، بل هو صورة خارجية لانهيار داخلي أعمق، لأن الشيطان لا يهاجم الجسد مباشرة بل يخترق القنوات التي تحكم التوازن: قناة العقل الذي يُبرّر الانحراف بمنطق الربح الموهوم، قناة النفس التي تُغريه بالاستزادة بلا ضوابط، قناة الأخلاق التي تُعطّل حسّ العدالة، وقناة الروح التي تُغلق منافذ النور، فتكون النتيجة أن يقوم الإنسان كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المسّ، أي كائن فاقد للتناغم، مقطوع عن انسجامه الداخلي، مستسلم لبرنامج دخيل يعيد صياغة قراراته وحركته وكلامه، حتى يصبح وجوده كله انعكاسًا لفيروس شيطاني تسلل إلى عمق نظام تشغيله.

وهذا المعنى يمكن أن نفهمه بوضوح إذا شبّهنا الإنسان بجهاز معقّد، مكوّن من دوائر عصبية ونفسية وأخلاقية وروحية، وأن المسّ الشيطاني يعمل كفيروس سيبراني يندسّ في الشيفرة الأصلية فيعيد توجيه الأوامر ويشوّش على وحدة النظام، فإذا أراد العقل أن يتخذ قرارًا سليمًا عطّله البرنامج الشيطاني بوساوس التشكيك أو تزيين الباطل، وإذا أرادت النفس أن تتوازن دفعها إلى شهوة جارفة، وإذا حاولت الأخلاق أن تنهض كبَتَها بالأنانية، وإذا طلبت الروح الطمأنينة أغرقها بالظلمات، وهكذا يصبح التخبط النتيجة الطبيعية لمسّ شيطاني يتغلغل عبر هذه المنافذ كلها.

ولذلك فالتخبط ليس حالة عابرة ولا مجرد صورة تمثيلية، بل هو توصيف دقيق لانفصال الإنسان عن مركز طهارته الأصلية، لأن الطهارة هي حالة تناغم داخلي تضمن أن تعمل الأبعاد الأربعة بتناغم: الجسد متوازن، النفس مطمئنة، العقل مستقيم، الروح منفتحة على النور، بينما التخبط هو انهيار هذا الانسجام وتحوّل الإنسان إلى ميدان لصراع داخلي بين أوامر متناقضة، فيبدو في الخارج كالمصاب بالصرع، لكن الحقيقة أن الصرع هنا وجودي–أخلاقي، مسّ من الشيطان، لا مرضًا عصبياً فحسب.

ومن هنا نفهم لماذا اختار القرآن صورة «القيام» تحديدًا: ﴿لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المسّ﴾، لأن القيام هو رمز القدرة على التوازن والوقوف في مواجهة العالم، فإذا صار الإنسان عاجزًا عن القيام مستقيمًا، فهذا يعني أن أساس بنيته قد اهتزّ، وأنه أصبح عاجزًا عن أن يكون خليفةً على الأرض أو أن يحمل أمانة الوحي، لأن من يتخبطه الشيطان لم يعد يملك مركزية القرار، بل صار جسده وعقله ونفسه أدوات مرتبكة تُحركها قوة دخيلة لا انسجام لها.

وهكذا نرى أن «المسّ الشيطاني» يمثل أخطر طبقة في هندسة المسّ القرآني: إنه ليس مجرد ألم ولا مجرد اختبار للنعمة ولا مجرد فضح للأخلاق، بل هو انهيار شامل للنظام الداخلي، واختراق مباشر من قوة مضادة للنور، تجعل الإنسان يعيش في صرع دائم بين الباطل والحق، بين الوهم والحقيقة، بين الهوى والهداية، حتى يصير التخبط هو المشهد الملازم له في الدنيا، والفضيحة التي تنتظره في الآخرة، إلا إذا استطاع أن يتحرر بالطهارة ويستعيد برمجيته الأصلية التي تتيح له مسّ القرآن بدل أن يظل أسيرًا لمسّ الشيطان.

المسّ الشيطاني (النصب والعذاب)

حين يرفع أيوب عليه السلام صوته بالدعاء قائلاً: ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ﴾، فإننا نكون أمام أفق مختلف من أبعاد «المسّ» القرآني، إذ لا يتعلق الأمر هنا بتخبط في الحركة أو تشويش في القرار كما في حالة الذين يأكلون الربا، بل نحن أمام صورة أكثر عمقًا وأشدّ قسوة: صورة الألم الذي يتغلغل في الجسد والنفس معًا، فلا يترك للخلايا راحة ولا للروح طمأنينة، فيتحول الوجود الإنساني كله إلى ساحة صراع مرير بين طاقة الصبر المستندة إلى الإيمان، وبين الاختراق الشيطاني الذي يتسرب إلى الجسد كأوجاع متواصلة، وإلى النفس كهواجس مثقلة، وإلى الوعي كتجربة لا تفسير لها إلا أنها امتحان وجودي يتجاوز حدود التحمّل البشري.

إن كلمة «النصب» في الآية ليست مجرد تعب عابر يمكن أن يُمحى بالراحة أو بالدواء، بل هي حالة استنزاف مستمرة، أشبه بتيار كهربائي يسري في الجسد فلا يترك عصبًا إلا أنهكه، ولا عضلة إلا أثقلها، ولا حركة إلا قيدها، بينما كلمة «العذاب» تكشف أن المسّ لم يقتصر على الألم الجسدي بل تجاوز إلى الألم النفسي–الروحي، أي أن الشيطان اخترق المنظومة الإنسانية اختراقًا مزدوجًا: جسدًا يئنّ ونفسًا تضطرب، فيجمع بين معاناة مادية محسوسة ومعاناة معنوية غامرة، وهنا يظهر المسّ في أقسى صوره، لأنه لا يترك منفذًا للراحة، بل يجعل الإنسان محاصرًا من كل الجهات، وكأن الكون كله قد انقلب عليه، فلا يجد ملجأ إلا في رفع صوته بالإنابة إلى الله.

والمثير أن أيوب عليه السلام لم ينسب النصب والعذاب مباشرة إلى الله، بل قال «مسّني الشيطان»، لأن القرآن يريد أن يرسم أمامنا صورة دقيقة: أن المسّ الشيطاني ليس دائمًا في صورة وسوسة تُغوي العقل أو تخبط يربك الجسد، بل قد يأخذ شكل اختراق عضوي ونفسي مستمر، وأن التجربة الإنسانية قد تصل أحيانًا إلى درجة يبدو فيها الألم بلا تفسير ولا منطق، إلا أنه جزء من ساحة المواجهة بين الطهارة والنجاسة، بين الثبات والانهيار، بين الصبر واليأس، وهنا يصبح «المسّ» ليس فقط تجربة مرضية، بل درسًا تربويًا يعيد تشكيل معنى الإيمان نفسه.

فالطهارة في هذا السياق ليست طهارة جسدية يمكن أن تتحقق بماء أو وضوء، بل هي طهارة وجودية تُقاس بمقدار الصبر والثبات أمام هذا الاختراق، لأن النصب والعذاب لا يمكن دفعهما بوسيلة مادية، بل بمناعة باطنية تجعل الإنسان قادرًا على أن يحتمل ما لا يُحتمل، وأن يظل متمسكًا بخيط النور حتى حين تحاصره جيوش الظلمة، وأن يحافظ على إيمانه ثابتًا وإن انكسر جسده، وأن يبقى قلبه مطمئنًا وإن تزلزل كيانه كله، وهذا هو المعنى العميق لقانون: «لا يمسه إلا المطهرون»، أي لا يستطيع الإنسان أن يبلغ مسّ القرآن النوراني إلا إذا اجتاز امتحانات المسّ الشيطاني بصبر وجودي يجعل الطهارة حالة داخلية غير قابلة للاهتزاز.

إن تجربة أيوب عليه السلام تعلّمنا أن «المسّ» يمكن أن يتحول إلى معمل صهر، تدخل فيه النفس وهي محاطة بالآلام فتخرج وقد تجرّدت من كل تعلق دنيوي، وأن النصب والعذاب ليسا عقوبة بل وسيلة تربوية لصناعة إنسان مطهَّر، يُدرك أن الطهارة ليست مجرد نقاء لحظة بل ثبات في وجه الألم، وأن الطهارة ليست مجرد خلوّ من الذنوب بل صلابة أمام العواصف، وأن الطهارة ليست مجرد وضوء للجسد بل وضوح للرؤية حين يشتدّ الظلام.

وبهذا يكون «المسّ الشيطاني بالنصب والعذاب» المرحلة السادسة في هندسة المسّ القرآني: مرحلة يلتقي فيها الألم الجسدي والنفسي ليُختبر الإيمان في أعمق طبقاته، حيث يصبح الصبر طهارة، ويصبح الثبات وضوءًا داخليًا، ويصبح الدعاء شهادة على أن الإنسان رغم هشاشته الجسدية قادر على أن يبقى مطهَّرًا بالمعنى القرآني، أي قادرًا على أن يتلقى المسّ دون أن ينكسر، بل ليخرج منه أقوى وأكثر قربًا من مسّ القرآن نفسه.
المسّ الاجتماعي (الظلم والفساد)

حين يقول القرآن: ﴿فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ﴾ (التوبة: 108)، فإنه لا يتحدث عن وضوء فردي ولا عن غسل جسدي، بل يرسم لوحة اجتماعية كاملة يُبيّن فيها أن الطهارة ليست مسألة شخص يطهّر يديه أو يغسل ثوبه فحسب، وإنما هي بناء جماعي يطهر أرضه من الظلم، ويطهر علاقاته من الفساد، ويطهر مؤسساته من النفاق، ويطهر فضاءه العام من الكذب والرياء، لأن القرآن في عمقه ليس مشروعًا فرديًا منعزلًا بل مشروعًا جماعيًا لا يمكن أن يستقر في مجتمع ملوث، ولهذا فإن المسّ الاجتماعي يصبح طبقة أساسية في هندسة «المسّ»، لأنه يوضح أن أي مجتمع يريد أن يتلقى مسّ القرآن لا يكفي أن يكون فيه أفراد مطهرون، بل يجب أن يتنظّم كيانه ككل وفق ناموس الطهارة.

فالمجتمع إذا غلب عليه الظلم، حيث تُسلب الحقوق ويُستعبد الضعفاء ويُقدَّس الطغيان، يصبح فضاءً ملوثًا لا يقبل المسّ القرآني، حتى لو رُفعت فيه آلاف المصاحف، وحتى لو تزيّنت جدرانه بالآيات، لأن القرآن لا يثمر في أرضٍ مليئة بالحجارة والأشواك، ولا تنبت بذوره في تربة فاسدة، بل يحتاج إلى أرض مهيّأة، تربة نقية، ووعي جماعي صافي، ولهذا قال النص: ﴿والله يحب المطهرين﴾، فجعل الطهارة هنا وصفًا جماعيًا لا فرديًا، وكأن المجتمع كله يُوزن بمدى نقائه من الفساد.

والمسّ الاجتماعي في القرآن يكشف أن البناء الجماعي يمكن أن يُصاب بالمسّ كما يُصاب الفرد، فإذا اخترق الشيطان الجسد فأفسد خلاياه، فإنه يخترق المجتمع عبر الظلم والفساد فيعطل أجهزته، فإذا فسدت السلطة تعطّل العدل، وإذا فسدت التجارة تعطّل الأمانة، وإذا فسدت العبادة تعطّل الإخلاص، وإذا فسد العلم تعطّل النور، فيصبح المجتمع كيانًا متخبطًا لا يقدر على استقبال مسّ القرآن، بل ربما يرفع شعاراته ويستعمل ألفاظه بينما هو أبعد ما يكون عن روحه، لأن الطهارة في بُعدها الاجتماعي شرط أساسي ليكون الوحي حيًا، لا نصًا يُتلى فقط.

وهذا البعد التربوي عميق جدًا، لأن القرآن يدرّبنا على أن نفهم أن الطهارة ليست شأناً فرديًا منغلقًا، بل مسؤولية جماعية، فكما لا يمكن للزرع أن ينبت في تربة واحدة ملوثة وسط حقول نقية، كذلك لا يمكن لفرد واحد مطهّر أن يقيم عدل القرآن في وسط جماعة ملوثة، بل لا بد أن تتحرك الجماعة كلها نحو الطهارة، ولو تدريجيًا، حتى تتهيأ البيئة الكاملة لاستقبال المسّ النوراني، لأن القرآن ليس مجرد خطاب للعقل الفردي، بل هندسة كونية تهدف إلى إقامة مجتمع متوازن، فإذا غاب التوازن الجماعي فسد أثر القرآن، مهما كان حضور الأفراد.

ومن هنا ندرك أن المسّ الاجتماعي طبقة أساسية في هندسة المسّ: إنه لا يختبر الأفراد فقط، بل يختبر البنى كلها، كأن القرآن يقول: لا يكفي أن تتطهروا أنتم كأشخاص، بل طهّروا مؤسساتكم، طهّروا قوانينكم، طهّروا فضاءكم العام، وإلا بقي القرآن معلقًا في السماء لا يجد موطئًا على الأرض، لأن الأرض الملوثة بالظلم لا يمكن أن تستقبل نور السماء.

وبهذا يصبح «المسّ الاجتماعي» شهادة فاصلة: فإما أن يتطهّر المجتمع من الظلم فيدخل القرآن حيّز العمل والنفاذ في حياته، وإما أن يبقى الظلم قائمًا فيبقى القرآن مجرد نص محفوظ بعيد عن أثره الحي، وهذا هو معنى قولنا إن «لا يمسه إلا المطهرون» ليس قانونًا فرديًا فقط، بل قانونًا جماعيًا، يجعل الطهارة شرطًا لنهضة الأمة كما هي شرط لنجاة الفرد، ويجعل من العدالة والصدق والإخلاص مفاتيح جماعية لفتح أبواب المسّ القرآني على مصراعيها.

المسّ المعرفي (الوعي والجهل)

حين يقول القرآن: ﴿بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾، فإنه لا يشير إلى أن النص القرآني محفوظ في الكتب أو منقوش على الورق، بل يعلن أن المسّ الحقيقي للقرآن لا يقع في الأيدي التي تقلب الصفحات، وإنما في الصدور التي طهّرت أدواتها المعرفية من الشهوة والهوى والمصلحة والوظيفة، بحيث يصبح العلم هنا ليس مجرد تكديس معلومات ولا حفظ نصوص، بل حالة من الشفافية المعرفية التي تسمح للقرآن أن يخترق إلى العمق، فيستقر في الصدر كنور مهيمن، لا ككلمات متفرقة، وهنا ندرك أن المسّ المعرفي يمثل واحدة من أخطر وأرقى مراحل هندسة المسّ القرآني، لأنه يبيّن أن المعرفة غير المطهَّرة ليست نورًا بل سلطة، ليست كشفًا بل وظيفة، ليست خدمة للحق بل أداة لخدمة الأنظمة والمصالح.

إن الطهارة في بعدها المعرفي تعني أن الإنسان لا يقرأ ليُسوّغ باطلًا، ولا يتعلم ليحتكر امتيازًا، ولا يفسّر ليحافظ على راتب أو منصب، بل يقرأ ليكشف، ويتعلم ليحرر، ويفسّر ليُضيء، ولهذا كانت كلمة «اقرأ» في بداية الوحي ليست مجرد دعوة إلى تعلم القراءة الأبجدية أو تكديس الكتب، بل كانت كلمة مفتاح تشير إلى ضرورة إعادة برمجة الإنسان ضد اختزال المعرفة في المصلحة المادية الآنية، لأن الشيطان دائمًا يحاول أن يزيّن للإنسان أن الربح محصور في الكسب العاجل أو أن العلم وظيفة اجتماعية، بينما القراءة القرآنية هي تحصين شامل، هي مضاد حيوي ضد كل محاولات الاختزال، هي مضاد فيروسي ضد البرمجة الشيطانية التي تجعل الربح ماديًا قصير الأمد ولو أدى إلى خراب شامل، ولو كان الإنسان واعيًا بهذا لَما سقط، لأن القراءة في منطق القرآن ليست عملية معرفية ضيقة، بل ممارسة شاملة لاختراق الآفاق والأنفس، واكتساب التجارب، واستثمار مادي ومعنوي وروحي في كل أبعاد الكون، تحقيقًا لقوله تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾.

وهذا يعني أن المسّ المعرفي هو قدرة الإنسان على أن يخرج من جهل مركّب إلى وعي كوني، وأن يدرك أن الجهل ليس فقط غياب المعلومات بل هو غياب الطهارة الذهنية التي تسمح باستقبال النور، وأن العلم الملوَّث بالشهوة أو التعصب أو التبعية ليس علمًا بل جهلٌ مقنَّع، لأن المعرفة التي لا تتحول إلى طاقة نورانية في الصدر هي عبء على صاحبها، مهما كثرت الشهادات وتنوعت الألقاب، بينما المعرفة التي تُمسّ بالقرآن هي التي تتطهر من هذه الأدران وتصبح مطابقة لقانون: ﴿اتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمْكُمُ اللَّهُ﴾، أي أن التقوى شرط لفتح أبواب العلم، وأن الطهارة ليست مكمّلاً بل أصل، وأن العلم بلا تقوى مسّ شيطاني يُعيد إنتاج التخبط، بينما العلم مع التقوى مسّ قرآني يفتح الصدور.

ولهذا يصبح «المسّ المعرفي» فصلًا جوهريًا في هذا البناء، لأنه يكشف أن الطهارة المطلوبة ليست جسدية ولا أخلاقية فقط، بل ذهنية أيضًا، وأن المجتمع الذي يجعل من علمائه موظفين أو من معرفته وسيلة للهيمنة لا يمكن أن يقترب من مسّ القرآن، بينما الفرد أو الجماعة التي تطهّر نيتها وأدواتها تصبح مؤهلة لأن ترى في كل آية كونية أو نصية بصيرة جديدة، حتى تكون القراءة هنا ليست مجرد قراءة كتاب، بل قراءة الكون، قراءة التاريخ، قراءة الذات، قراءة الاقتصاد والسياسة والاجتماع، كلها بمنطق الطهارة الذي يمنع الاختزال ويعيد ربط الأجزاء بالكل، ولهذا فإن «اقرأ» في منطق القرآن هي عملية تحصين على مستوى الفرد والمجتمع معًا، تمنع السقوط في الفخ الشيطاني الذي يجعل الربح قصيرًا والخراب طويلًا، وتفتح الباب أمام وعي يتسع لكل الأبعاد، ليصبح المسّ المعرفي محطة فاصلة بين الجهل الذي يشوّش والوعي الذي يطهّر.

حين يصف القرآن حال آكل الربا يوم القيامة بأنه لا يقوم إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المسّ، فإنه يضع أمامنا معادلة وجودية بالغة العمق: أن ما يظنه الإنسان ربحًا ماليًا مضمونًا هو في حقيقته سحر شيطاني يُعيد برمجة الوعي بحيث يرى الخراب خيرًا، ويحسب الخسارة مكسبًا، ويتخيل أن الأرقام التي تتصاعد في دفاتره أو شاشاته هي ضمان الأمان بينما هي حبال أوهام ستلتف حول عنقه لحظة الحساب، وهذا السحر لا يقتصر على البعد الاقتصادي بل يمتد إلى كل أبعاد الكيان الإنساني، حتى يصبح الربا فيروسًا يفسد الجسد الاجتماعي والنفسي والمعرفي.

فعلى المستوى الاقتصادي المالي، الربا يُسحر الإنسان بأن يُغريه بالنمو العددي للأموال، إذ يرى أن مئة اليوم تصير مئة وعشرة غدًا ومئة وعشرين بعد غد، فيتوهم أن هذه الزيادة ربح، لكن ما لا يراه – لأن الشيطان يغطي بصره – هو أن هذه الزيادة لم تأت من إنتاج حقيقي ولا من قيمة مضافة، بل من استنزاف لطاقات الآخرين وإفقار للمجتمع، فكل زيادة عنده يقابلها نقصان عند آخر، وكل فائدة يسجلها في دفاتره تعني عبئًا جديدًا على أسرة أو مؤسسة أو دولة، حتى تتحول الديون إلى سلاسل تكبل الاقتصاد، ويصير النمو الظاهري خرابًا هيكليًا، لأن الأموال تنتفخ كالفقاعات بينما الأساس الحقيقي للثروة – الإنتاج والعمل – يتآكل، وهكذا ينخدع الفرد فيظن نفسه رابحًا، وينخدع المجتمع فيظن اقتصاده ناميًا، بينما هما معًا يتخبطان في دوامة مسّ شيطاني يشبه الصرع المالي.

وعلى المستوى النفسي السيكولوجي، الربا يُبرمج الإنسان على إدمان وهم الأمان، لأنه يلقّنه أن المال وحده قادر على حمايته، وأن تراكم الفوائد يعني تراكم الاطمئنان، لكنه حين يسلّم وعيه لهذه البرمجة يجد نفسه في حالة قلق دائم، لأنه يكتشف في لا وعيه أن هذه الزيادة ليست حقيقية، وأنها قد تنقلب في أي لحظة إلى خسارة بسبب انهيار أو أزمة أو عجز المدين، فيعيش حالة قلق مستمر بين نشوة الزيادة وخوف السقوط، وهذه الازدواجية هي من أخطر أعراض المسّ الشيطاني: فرح سطحي مصحوب بقلق عميق، انسجام خارجي يخفي توترًا داخليًا، كالمصاب بالصرع الذي يضحك لحظة ثم يسقط في رعشة عنيفة، فلا استقرار له ولا طمأنينة.

أما على المستوى الاجتماعي الجماعي، فإن الربا يفسد نسيج المجتمع لأنه يقسمه إلى طبقتين: أقلية مُقرِضة تستنزف وأكثرية مُقترِضة تُستنزف، فيتحول التضامن الطبيعي بين البشر إلى صراع دائم، وتذوب قيم الرحمة والإحسان في منطق الحساب والفائدة، ويصبح الغني أكثر ثراءً بلا جهد، والفقير أكثر فقرًا رغم جهده، وحين يُختل هذا التوازن الاجتماعي تتحول العلاقات الإنسانية إلى علاقات سلطوية، ويُصبح المال أداة قهر بدل أن يكون وسيلة تبادل، وحينها يظهر التخبط الجماعي كما وصفه القرآن: مجتمعات بأكملها لا تقوم إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المسّ، أي مجتمعات تبدو واقفة لكنها مهتزة من الداخل، تبدو متقدمة لكنها مهددة بالانهيار، تبدو رابحة لكنها مفلسة في جوهرها.

وعلى المستوى المعرفي–القيمي، الربا يخدع الإنسان لأنه يزرع في ذهنه تعريفًا مشوهًا للربح، فيختزل الربح في الكسب المادي المباشر ويغلق أمامه أفق الربح الحقيقي: ربح الطمأنينة، ربح العدل، ربح النمو المتوازن، ربح العلاقات المستقرة، ربح المجتمع السليم، وهكذا يصبح الربا تدريبًا دائمًا على الجهل المقنّع بالعلم، إذ يبدو الحساب منطقيًا بينما هو خدعة، ويبدو الربح مضمونًا بينما هو وهم، ويبدو النظام محكمًا بينما هو مختل، وهذه هي أخطر صور المسّ: أن يظن الإنسان أنه يعرف بينما هو جاهل، وأن يتوهم أنه يربح بينما هو يخسر، وأن يعيش في برمجة شيطانية تجعله يرى العالم مقلوبًا، فيحسب الشر خيرًا والخير شرًا.

ولذلك فإن كلمة «اقرأ» التي افتتح بها الوحي هي في حقيقتها برنامج مضاد لهذا المسّ، لأنها ليست مجرد دعوة للقراءة النصية، بل أمر شامل بتحصين العقل والنفس والمجتمع ضد هذا الاختزال، فهي anti-virus معرفي ووجودي يمنع الشيطان من أن يسيطر على مفهوم الربح، لأنها تعلّم الإنسان أن يقرأ في كل الأبعاد: أن يقرأ آثار الربا في الفقر والدمار، أن يقرأ نتائجه في الخراب الأخلاقي، أن يقرأ آثاره في اضطراب النفس، أن يقرأ امتداداته في انهيار المجتمعات، فإذا فعل ذلك انكشف له أن الربا ليس ربحًا بل مرض، ليس نماءً بل تضخمًا مرضيًا، ليس أمانًا بل قلقًا، ليس حياة بل مسًّا شيطانيًا يضع الفرد والمجتمع في صرع دائم.

وبهذا ندرك أن الربا ليس مجرد معاملة مالية، بل تجربة كونية تكشف كيف يعمل المسّ الشيطاني في كل المستويات: اقتصادًا ينهار، نفسًا تضطرب، مجتمعًا ينقسم، معرفةً تختزل، وأن الطهارة المطلوبة هنا ليست في اليد التي تكتب العقد ولا في الجسد الذي يوقّع، بل في العقل الذي يرفض الوهم، وفي القلب الذي لا يطمئن إلا بعدل الله، وفي المجتمع الذي لا يقبل أن يُبنى على الظلم، وهكذا تصبح «لا يمسه إلا المطهرون» قاعدة تربوية–اجتماعية–اقتصادية، تُلزم الإنسان بأن يتطهر من وهم الربح حتى يستحق مسّ القرآن، لأن القرآن لا يثمر في وعيٍ مخدوع ولا في مجتمعٍ ملوث بالربا، بل في بيئة مطهّرة تعرف أن الربح الحقيقي لا يأتي إلا من العدل والإحسان.

«التخبط: حين تتصدّع الذرة الداخلية أمام موجات الاختراق»

في منطق القرآن، حين يصف حال آكل الربا بأنه لا يقوم يوم القيامة إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المسّ، فإنه لا يقدم لنا استعارة سطحية عن صرع جسدي وحسب، بل يفتح نافذة على قانون كوني أشمل؛ قانون يكشف لنا أن الإنسان، على الرغم من كونه كائنًا ماديًا من لحم ودم، هو في حقيقته نظام مركّب من أربعة أبعاد متشابكة: بُعد مادي تتجسد فيه الأعضاء والحواس، بُعد نفسي تتفاعل فيه العواطف والانفعالات، بُعد عقلي تتولد فيه الأفكار والتصورات، وبُعد روحي يتصل بما وراء المادة من إشارات وأسرار. هذه الأبعاد، كما في الذرة، ليست مفصولة، بل متشابكة في وحدة ذكية تتناغم قوانينها كما تتناغم مدارات الإلكترونات حول نواتها، أو كما تتناغم المجرات في حركتها حول مراكز الجذب الكبرى في الكون، فلا يمكن لعقلنا المحدود أن يتصور كل تفاصيل هذا التنسيق، لكنه يستطيع أن يلتقط إشاراته الكبرى في لحظات الخلل والانهيار.
هنا يظهر “التخبط” القرآني بوصفه ليس فقط فقدان السيطرة على حركة الجسد، بل فقدان التناغم الداخلي بين هذه الأبعاد الأربعة؛ فإذا اخترق المسّ البُعد النفسي اهتز البُعد العقلي وفقد اتزانه، وإذا ضرب البُعد الروحي ضاعت على البُعد المادي بوصلته، فيتشكل أمامنا مشهد إنسان يُساق في سلوكٍ ليس سلوكه، وصوتٍ ليس صوته، وأحيانًا لغةٍ لم يتعلمها أصلًا، فيبدو كأن عقله فجأة تضخمت قدراته، أو كأن علمًا هائلًا انسكب عليه، غير أن السر ليس في العبقرية اللحظية، بل في انهيار «الجدار الناري» الذي يحمي تلك الذرة الداخلية من التداخل الخارجي.

هذا الجدار الناري هو ما يسميه القرآن بالتقوى والطهارة والذكر؛ فهو ليس مجرد طقس ولا وضوء بالماء، بل حالة من النقاء الشامل ترفع مناعة الإنسان ضد كل شيفرة دخيلة، كما أن جدران الخلايا في جسدك تمنع دخول الفيروسات إلا إذا ضعفت، أو كما أن المجال المغناطيسي للأرض يحميها من الرياح الشمسية؛ فإذا انكسر هذا الجدار تسللت الشيفرات الشيطانية كما تتسلل برمجيات خبيثة إلى نظام تشغيل هشّ، فتتنازع الأوامر في الداخل وتخرج المخرجات مشوهة، في حركة تشبه الرعشة، أو كلام يشبه اللسان المقتبس من غير صاحبه، أو معرفة لا تليق بسيرة صاحبها.

بهذه القراءة يصبح «المسّ» القرآني أقرب إلى ما تسميه العلوم الحديثة اختراق النظام أو تداخل الشيفرات، ويصبح «التخبط» صورة لإخفاق النظام في إدارة أبعاده الأربعة بتناغم؛ أي أن الإنسان في تلك اللحظة ليس عبقريًا ولا مجنونًا فقط، بل كيان ذو أبعاد متشابكة فقد تنسيقه الذكي فصار مرآة لما يُبثّ إليه. ومن هنا يمكن أن نفهم الآية الأخرى ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ﴾؛ أي أن الذكر يعمل كزر إعادة تشغيل يعيد الشيفرة الأصلية إلى السيطرة ويغلق ثغرات الاختراق، كما يعمل «الأنتي فايروس» في الأنظمة الحديثة ليطرد الشيفرة الخبيثة ويعيد النظام إلى توازنه.

هكذا يمزج القرآن بين لغة الغيب ولغة القانون الكوني، فلا يفصل بين البُعد المادي للبشر والبُعد الروحي والنفسي والعقلي، بل يعرض لنا مشهد التخبط ليقول: احذروا؛ من لا يبني جدار طهارته الداخلية، ومن يلهث وراء شيفرات الطمع والرغبة العمياء، يصبح جهازًا مفتوحًا للاختراق، مهما بدا قويًا في جسده أو علمه أو ماله، لأن الذرة الداخلية، حين تتشقق أبعادها، تسقط هيبتها الكونية، ويصبح الإنسان أداة تبثّ عبره قوى خارجية لا يفهمها، بدل أن يكون خليفةً واعيًا يديرها.

المسّ الاجتماعي: الظلم والفساد

حين ننتقل من ميدان الفرد إلى ميدان الجماعة، ندرك أنّ المسّ في القرآن لا يقف عند حدود الجسد أو النفس أو العقل أو الروح الخاصة بكل إنسان، بل يتجاوزها ليصوغ من المجتمع كيانًا واحدًا، كأن الأمة جسدٌ كبيرٌ له جهاز مناعة، وله جدران حماية، وله قلبٌ ينبض بالعدل أو يختنق بالظلم، فإذا اختُرق أحد أبعاده اختلّ توازنه بأكمله، وصار معرّضًا لانهيارٍ جماعي يوازي الانهيار الفردي الذي يعيشه من يُصاب بالضرّ أو الصدمة أو الوسوسة. ومن هنا نفهم أنّ الظلم والفساد ليسا مجرد مظاهر سياسية أو اقتصادية أو أخلاقية، بل هما في منطق الوحي أشكالٌ من المسّ الجماعي، لأنهما يدخلان في بنية المجتمع كما يدخل السمّ في دم الجسد، فيُضعف أجهزته الداخلية ويجعله عُرضةً للتخبط والتمزّق والانهيار.

وإذا شبّهنا المجتمع بالذرة الإنسانية الكبرى، نجد أنّ أبعاده تتوزع كما تتوزع أبعاد الفرد: بعدٌ ماديٌّ يتمثل في الاقتصاد والموارد والمعيشة، وبعدٌ نفسيٌّ في العلاقات والعواطف العامة بين أفراده، وبعدٌ عقليٌّ في المعرفة والثقافة والتعليم، وبعدٌ روحيٌّ في القيم الجامعة والمرجعيات العليا، فإذا اخترق الفسادُ بعدًا منها سرعان ما تتداعى بقية الأبعاد، فيظهر الاضطراب المادي على شكل فقرٍ وجوع، ويتحوّل إلى مسٍّ نفسيٍّ على شكل خوفٍ عام أو شعورٍ بالمهانة، ثم إلى مسٍّ عقليٍّ حين تُشوَّه منظومة القيم ويُعاد ترتيب الأولويات وفق أهواء المصالح لا وفق العدل والحق، وأخيرًا إلى مسٍّ روحيٍّ حين تنفصل الجماعة عن قيمها العليا وتفقد بوصلتها الأخلاقية، فلا تعود قادرة على استقبال النور أو الدفاع عن نفسها.

إنّ الظلم، في هذا السياق، هو مسٌّ اجتماعي لأنّه يثقب جدار العدالة الذي يشكّل أعظم جدارات المجتمع، فإذا انهار هذا الجدار تسلّلت قوى الفساد إلى الداخل فمزّقت التوازن الداخلي كما يمزّق الفيروس جهاز المناعة، وحينها لا يكون المظلوم وحده هو الضحية، بل المجتمع بأسره؛ إذ يتحوّل الظلم إلى عدوى تنتشر في المؤسسات والعلاقات وتترك أثرًا جماعيًا يُفقد الناس ثقتهم ببعضهم ويزرع بينهم الخوف والأنانية. وكذلك الفساد، فهو مسٌّ يضرب الجدار العقلي والروحي للمجتمع، لأنه يعيد ترتيب المعاني والدوافع في العقل الجمعي، فيرفع من شأن الطمع ويُقصي قيمة الأمانة، ويجعل من المال والجاه معيارًا أوحد للنجاح، حتى يصبح العقل الجمعي أشبه بجهازٍ ملوَّث بالشيفرات الغريبة لا يعرف كيف يميّز بين الحق والباطل.

ولذلك كان منطق القرآن واضحًا حين ربط بين الطهارة الاجتماعية وبين القدرة على استقبال النور، إذ لا يمكن لجماعةٍ ملوَّثة بالظلم والفساد أن تتلقّى الهداية أو تستقرّ على الحق، لأن مسّها الجماعي يعمي بصيرتها كما يُعمي المسّ الفردي عقل الإنسان وروحه، فتصبح عاجزة عن تمييز الطريق الصحيح حتى وإن كان بيّنًا أمامها. ولهذا جعل القرآن قصص الأمم السابقة أمثلةً متكرّرة على مسٍّ اجتماعيٍّ أصابهم بالهلاك، فالطوفان والزلزال والريح لم تكن إلا صورًا كونيةً لتفكك داخلي بدأ بالظلم والفساد ثم انتهى إلى انهيار الكيان كله.

وبهذا المعنى، يصبح المسّ الاجتماعي قانونًا تحذيريًا يذكّر أن المجتمعات التي تُهمل العدالة والشفافية وتسمح بانتشار الظلم إنما تفتح أبوابها لاختراقٍ داخليٍّ لا يختلف عن المسّ الشيطاني عند الفرد، لكنه أشد أثرًا لأنه لا يدمّر إنسانًا واحدًا بل يدمّر نسيجًا بكامله، وأن الطهارة الاجتماعية — أي استقامة القيم والعدل والوفاء — ليست مجرد فضائل أخلاقية، بل شرط بنيوي يجعل المجتمع قادرًا على استقبال النور والعيش في حالة مقاومةٍ ضد أي مسٍّ خارجي أو داخلي.

المسّ السياسي: الدولة ككائن مختبَر

إذا كان الإنسان فردًا يُمسّ بالضرّ والخير والوسوسة والابتلاء، فإن الدولة ليست كيانًا خارج هذا القانون، بل هي في نظر الفلسفة القرآنية كائنٌ مختبَر يخضع للسنن ذاتها التي تحكم الأفراد، غير أنّ ابتلاءها يتخذ صورةً سياسية واجتماعية وتاريخية، بحيث تبدو الدولة وكأنها إنسانٌ كبير يتعرّض لمسٍّ على مستوى السلطة والشرعية والعدالة والقرار. فكما أنّ الفرد يُختبر حين يُمسّ جسده بالمرض أو نفسه بالصدمة أو عقله بالرموز المضلّلة أو روحه بالوساوس، كذلك الدولة تُختبر حين تُمسّ بنيتها السياسية بالفتن الداخلية أو العدوان الخارجي أو بريق الثروة أو غواية القوة، فتتكشف عندها هشاشتها أو متانتها، ويظهر مدى طهارتها في إدارة الأمانة.

إنّ الفتنة السياسية ليست سوى مسٍّ جماعي يُترجَم إلى اهتزاز في بنية الدولة؛ فقد يكون المسّ في صورة ظلمٍ يمارسه حكامها ضد شعوبهم، فيضرب الجدار الأخلاقي الذي يحفظ تماسكها، وقد يكون في شكل فسادٍ مستشرٍ يعيد ترتيب سلم القيم ويجعل الولاء للأهواء والمصالح بدل الولاء للعدل والحق، وقد يكون في شكل استبدادٍ يطفئ صوت العقل الجمعي فيتحوّل القرار السياسي إلى استجابة غريزية أشبه بما يحدث للفرد حين يُخدَّر عقله وتستولي عليه الشيفرات الدخيلة. وفي كل هذه الحالات تعمل الفتنة كاختراقٍ سياسي يترك أثره في جميع الأبعاد: فهي تصيب الجسد الاجتماعي بالانقسام والضعف، وتصبغ النفس الجماعية بالخوف أو الجزع، وتشوّه العقل السياسي فتُغيّر أولوياته، وتطفئ الروح العامة فتنقطع عن قيمها العليا.

ولذلك جاء القرآن ليؤكد أنّ الطهارة السياسية ليست ترفًا فكريًا ولا مجرد شعاراتٍ أخلاقية، بل هي شرط وجودي لبقاء الدولة، فهي الطهارة التي تبدأ من إقامة العدل باعتباره الجدار الأول الذي يصدّ المسّ السياسي، ثم تمتد إلى الوفاء بالعهد وحمل الأمانة باعتبارهما شيفرة الصيانة التي تمنع الاختراقات، ثم تتجلّى في الحوكمة الرشيدة التي تجعل الدولة أمينةً على مواردها ورعاية شعوبها كما يكون الفرد أمينًا على قلبه وروحه. فالعدل في الدولة ليس مجرد قرارٍ إداري، بل هو مناعةٌ بنيوية تحفظها من التخبط حين تُمسّ بالفتن.

ولعلّ أروع الأمثلة القرآنية في هذا الباب ما جاء في قصة فرعون وقومه؛ إذ مسّهم الله بالسنين ونقصٍ من الثمرات فكان المسّ السياسي امتحانًا للدولة الظالمة، ولكن غياب الطهارة السياسية حال دون أن يتحوّل الامتحان إلى تطهير، فتحوّل إلى هلاكٍ شامل. وكذلك قصة سبأ التي مُسّت بنعمةٍ كبرى من جناتٍ وموارد ولكنها لم تُترجم إلى شكرٍ وعدل، فكان انهيار سدّ مأرب علامة على مسٍّ سياسي لم يُدار بالوعي فأدّى إلى التمزّق والانقسام. وفي المقابل نرى دولة يوسف عليه السلام في مصر وقد مُسّت بأعظم امتحان اقتصادي حين واجهت سبع شداد من الجدب، غير أن الطهارة السياسية التي تمثّلت في العدل والتدبير والأمانة جعلت من هذا المسّ بابًا للنجاة والتماسك.

أما في التاريخ اللاحق، فإن كل تجربة سياسية عظيمة يمكن قراءتها على ضوء هذا القانون؛ فدولٌ عظمى مُسّت بالرخاء فانزلقت إلى الاستبداد والترف حتى انهارت، وأخرى مُسّت بالعدوان الخارجي لكنها تماسكَت بالعدل والوفاء فتحوّلت المحنة إلى منحة. وهكذا يتأكد أن الدولة، مثلها مثل الفرد، لا تُقاس قوتها بما تملكه من جيوش أو موارد فقط، بل بقدرتها على تحصين جدرانها الداخلية من الظلم والفساد والخيانة، لأن هذه هي منافذ المسّ التي إن تُركت مفتوحةً أدخلت إليها شيفرات الانهيار.

وبذلك يصبح المسّ السياسي مرآةً تكشف أنّ الدولة، مهما بلغت قوتها الظاهرة، إن لم تحصّن نفسها بالطهارة السياسية ستظل هشّةً أمام كل فتنةٍ، تمامًا كما يكون الفرد القوي جسديًا ضعيفًا إذا تصدّعت نيته أو انكسرت نفسه. أما إذا أقامت جدران العدل والأمانة والوفاء، فإنها تكون قد أغلقت منافذ الاختراق وجعلت من كل مسٍّ سياسي فرصةً للتطهير والارتقاء، وبهذا فقط تستحق أن تُسمّى دولةً تحمل الأمانة التي عرضها الله على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها.

المسّ الكوني: الأرض والإنسانية

إذا كان المسّ على مستوى الفرد امتحانًا لبنيته الداخلية، وعلى مستوى المجتمع امتحانًا لبنيته الأخلاقية والسياسية، فإنه على مستوى الأرض بأسرها يصبح مسًّا كونيًا يطال الإنسانية جمعاء، كأن الكوكب كله يتحوّل إلى جسدٍ واحد يتعرّض للابتلاء، فتأتي الكوارث الطبيعية في صورة زلازل وفيضانات وأعاصير وتغيّرات مناخية لتكون مسًّا أرضيًا يكشف مدى هشاشة الإنسان أمام الطبيعة ويذكّره بأن الأرض ليست فضاءً صامتًا بل نظامًا حيًّا يتجاوب مع أفعاله، فإذا أفسد وأفرط واستهان بالميزان، ردّت عليه الأرض بمظاهر الانهيار، فيكون المسّ الكوني هنا بمثابة جرس إنذار يوقظ الوعي البشري ويدعوه إلى مراجعة سلوكه قبل أن يُستنزف نظام الحياة نفسه.

وكما أنّ الكوارث الطبيعية مسّ أرضي يذكّر الإنسان بمحدوديته، فإن الحروب والأزمات الكبرى مسّ تاريخي يمسّ الوعي الجمعي للبشرية ويعيد تشكيل مسارها؛ فالحروب العالمية لم تكن مجرد نزاعات بين دول بل كانت مسًّا شاملاً أدخل الإنسانية في تجربةٍ هائلة من الألم والفقد والتخبط، فأظهر مقدار ما يمكن أن يبلغه الإنسان من قسوة إذا انهارت قيمه، وأظهر في الوقت ذاته مقدار حاجته إلى إعادة بناء ميثاقٍ أخلاقي يضمن بقاءه. فالمسّ التاريخي يعمل كزلزالٍ يصيب بنية الذاكرة الجمعية، فيعيد توزيع القوى والأفكار والتحالفات، ويضع البشرية أمام سؤالٍ وجودي: هل نتعلّم من الألم ونبني طهارةً جديدة، أم نستسلم لتكرار الدائرة فنظلّ نتخبّط من مسٍّ إلى مسّ؟

ولأن المسّ الكوني يتجاوز الفرد والمجتمع إلى مصير الإنسانية، فإن علاجه لا يكون بتقنياتٍ موضعية ولا بإجراءاتٍ سياسية عابرة، بل بما يمكن تسميته الطهارة الكونية، أي إعادة بناء منظومة القيم على مستوى عالمي بحيث تصبح العدالة والرحمة وحفظ الحياة هي الجدران الكبرى التي تحمي البشرية من الانقراض المعنوي قبل المادي. فالطهارة هنا ليست طقسًا دينيًا ضيقًا ولا خيارًا أخلاقيًا فرديًا، بل ضرورة كونية تفرضها سنن الله في الأرض، إذ لا بقاء للإنسانية إن لم تُعد ضبط بوصلتها القيمية وتكفّ عن العبث بموازين الطبيعة وعن التورّط في حروبٍ تُهدر الدماء وتُفكك المعنى.

وبهذا المعنى يمكن القول إن الزلازل والأعاصير والحروب والمجاعات ليست أحداثًا عرضية في دفتر التاريخ، بل هي مسّات كونية، تعمل عمل المسّ الفردي نفسه ولكن على نطاقٍ أوسع؛ فهي إمّا أن تتحوّل إلى جسرٍ للطهارة الكونية إذا وعى البشر رسالتها وأعادوا بناء قيمهم على العدل والرحمة، وإما أن تصبح بوابةً للتخبط الجماعي والانهيار الحضاري إذا بقوا أسرى الغرور والظلم والأنانية. وهكذا يُعيدنا القرآن إلى حقيقةٍ عميقة: أن بقاء البشرية كلّه مرهونٌ بقدرتها على العبور من المسّ الكوني إلى الطهارة الكونية، كما يُشترط للفرد أن يعبر من المسّ الشخصي إلى الطهارة الفردية.

المسّ النوراني، الكتاب المكنون

عندما يبلغ الحديث عن المسّ في القرآن قمّته، فإننا لا نكون بعد في ساحة الأوجاع أو الصدمات أو الفتن أو الأزمات، بل نكون في ساحة النور الخالص، حيث يتحوّل المسّ إلى أعلى درجات العبور: العبور إلى الكتاب المكنون، ذلك السرّ الذي أُودع في الغيب، والذي لا يقدر على النفاذ إليه إلا من صُفّيت بنيته الداخلية من كل شوائب المسّ السابقة، وصار كيانه كله مطهَّرًا، لا لأن الطهارة هنا طقسٌ شكليّ أو وضوءٌ ماديّ، بل لأنها بنية وجودية تجعل الإنسان قابلاً لأن يُخترَق لا بالسمّ ولا بالوسوسة ولا بالفتنة، بل بالنور الإلهي.

إنّ الآية ﴿لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾ ليست مجرد شرطٍ فقهي كما أُريد لها أن تُختزل أحيانًا، بل هي إعلانٌ عن قانون كونيّ يحدّد أن المسّ الأعلى — أي التماس الكتاب المكنون — لا يكون بقدرة اليد ولا بسطوة العقل وحده، وإنما بصفاء الداخل كله، بحيث تصبح الذرة الرباعية للإنسان — جسده ونفسه وعقله وروحه — في حالة من الانسجام والتناغم لا تسمح لأي شيفرة دخيلة أن تُضلّلها، بل تكون مفتوحةً فقط للشيفرة النورانية التي ينزل بها الوحي.

فالطهارة التي تؤهّل الإنسان لهذا المسّ الأعلى هي الطهارة التي جُرّبت وصُقلت عبر المراحل السابقة؛ فمن صبر على مسّ الضرّ وتعلّم كيف يُعيد بناء جسده ونفسه، ومن اجتاز صدمة النفس وتعلّم كيف يُعيد تنظيم عواطفه، ومن قاوم المسّ الرمزي وتعلّم كيف يُحصّن عقله ضد التزييف، ومن تجاوز الوسوسة الروحية واستعاد نقاء نيته، هو وحده الذي يصبح مستعدًّا لأن يتلقّى المسّ النوراني. أي أنّ الوحي لا ينزل على قلبٍ هشّ ولا عقلٍ متصدّع ولا جسدٍ غارقٍ في الشهوات، بل على كيانٍ اكتمل تطهيره فصار كالمرآة الصافية التي تعكس النور دون تشويه.

وفي هذا المستوى يصبح المسّ النوراني هو الاختراق الأعظم: اختراق النور الإلهي للكيان البشري بحيث يفيض عليه من أسرار الغيب ما يجعله قادرًا على حمل الرسالة وتبليغها، أو على الأقل على استقبال الهداية بصفاءٍ يجعله في مقامٍ أعلى من مقام مَن بقي أسير التجربة الأرضية. إنّها لحظةٌ لا تقاس بمقاييس الجسد ولا بموازين العقل، لأنها لحظة اتحادٍ بين البنية المطهَّرة والشيفرة السماوية، حيث لا يبقى للإنسان من حوله شيء سوى أن يكون وعاءً للنور.

ومن هنا نفهم أنّ الوحي نفسه — في جوهره — هو أعظم مسّ، لكنه مسّ لا يُنال اعتباطًا ولا يُوزَّع على كل الناس بغير استعداد، بل هو ذروة رحلة طويلة يمرّ فيها الإنسان من مسّ الضرّ إلى مسّ الصدمة إلى مسّ الوسوسة إلى مسّ الفتنة الجماعية والتاريخية، حتى إذا تطهّرت البنية في جميع أبعادها صار القلب جديرًا بالكتاب المكنون. ولهذا قال الله تعالى: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾؛ فالكرامة هنا مشروطة بالطهارة، والكتاب مكنون لأنه ليس مجرد نصّ ظاهر بل سرّ داخلي لا يُفكّ قفله إلا بالطهارة الكاملة.

وهكذا يتضح أن المسّ النوراني هو ليس فقط قمة في ترتيب المراتب، بل هو أيضًا معيارٌ يقيس قيمة كل المراتب السابقة؛ لأنه يكشف أن كل مسٍّ أدنى — مهما بدا سلبيًا أو مؤلمًا — لم يكن إلا تدريبًا على بلوغ هذه اللحظة العظمى، لحظة أن يصبح الإنسان مطهَّرًا فيُؤهَّل لملامسة سرّ الوحي، فلا يكون حينها عبورًا من الهشاشة إلى الطهارة فحسب، بل عبورًا من الطهارة إلى النور، ومن محدودية التجربة الإنسانية إلى أفق الرسالة الكونية.

فالقرآن حين تقترب منه لتجعل يدك أو بصرك أو عقلك أداةً لـ “المسّ”، لا يبقى في موقع المفعول به، بل ينقلب في لحظة إلى فاعلٍ ممسِك، فيدخلك في دائرة تغذيةٍ رجعية لا تعرف التوقّف؛ إذ تحاول أن تمسّه بقراءة أو تدبّر أو إنصات، فإذا به يمسّك في المقابل بآياتٍ تُعيد تركيب داخلك وتفتح مغاليقك وتختبر جدارتك. فكأن العلاقة مع القرآن ليست علاقة قارئٍ بنصٍّ صامت، بل علاقة كيانٍ بكيانٍ آخر يبادلك الحركة والاختراق، فتكتشف أنك كلما مددت إليه إصبعًا أو التفاتًا، مدّ إليك نورًا أو سؤالًا أو قانونًا يغيّر موازينك. وهنا يصبح القرآن ميدان تفاعل حيّ: تمسّه طلبًا للهدى، فيمسّك تنبيهًا أو تبصيرًا، تمسّه بشيءٍ من الهشاشة فيمسّك بقوة الطهارة، تمسّه بفكرٍ مسبق فيمسّك بتصحيحٍ أو هدمٍ وإعادة بناء، لتدرك أنّ سرّ قوله تعالى ﴿لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾ ليس في المنع السلبي، بل في إعلان قانون التبادل: لا تمسّ القرآن إلا على قدر ما يمسّك هو، ولا يفتح مغاليقه إلا بقدر ما تُطهّر داخلك ليصبح مستعدًا لحوارٍ متكافئ مع النور.
المسّ في القرآن هي توربين وجودي، دائرة دوران لا تهدأ بين الداخل والخارج، حيث تلتقي الشرارة الخارجية مع الاستجابة الداخلية لتولّد طاقةً هائلة، إمّا أن تنفجر في هيئة تخبط وانهيار إذا كانت الجدران هشّة متصدعة، وإمّا أن تتحوّل إلى طهارةٍ ونور إذا كانت الجدران محكمة مصفّاة. فالمسّ هو باب العبور الذي يدخل منه كل شيء إلى الكيان الإنساني: ضرٌّ يذكّر بضعف الجسد، شيطانٌ يختبر حصانة الروح، وحيٌ يفيض بالنور على القلب، فتغدو حياة الإنسان كلّها سلسلة مسّات متعاقبة، إما أن تغرقه في الهشاشة أو ترفعه إلى مقامات الطهارة.

ولأن القرآن نفسه محكوم بهذا القانون، فإن أي محاولةٍ للاقتراب منه أو “مسّه” لا تبقى حركة أحادية الاتجاه، بل تنقلب إلى تغذية راجعة يعود فيها النصّ ليختبر القارئ ويمسّه هو بدوره، فيعيد تركيب داخله ويكشف مقدار استعداده للعبور من سطحية التماسّ إلى عمق الطهارة. وهنا يكمن سرّ الآية ﴿لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾: فهي ليست قيدًا شكليًا على يدٍ بلا وضوء، وإنما قانون يفضح أنّ من لم يطهّر باطنه فلن يستطيع أن يفتح مغاليق الكتاب، وأن من بقي محصورًا في سطح اللمس لن يذوق سرّ المسّ.

غير أنّ ما يحزن ويستفزّ معًا هو أنّ الفقهاء – امتثالًا لإرادة السياسيين – قد اختزلوا هذا الأفق الكوني في حكمٍ فقهي ضيّق، فقالوا إن المسّ الممنوع هو مجرد لمس الورق بلا طهارة مائية، وكأن الآية أُنزلت لتأديب الأصابع لا لتفجير معنى العبور، وكأن الوحي العظيم قد قُزّم ليتناسب مع حسابات السياسة التي كانت تريد شعبًا يطيع ظاهر الطقس ولا يجرؤ على اختراق المعنى. فصار النص الذي كان مفتاحًا لأعظم ارتقاء أداةً للمنع والوصاية، وتحول “المسّ” من قانون ارتقاء إلى ذريعة تضييق، ومن سرّ نوراني إلى حاجز سياسي. وهذه هي المفارقة: أن يُختزل التوربين الكوني في صنبور ماء، وأن يُحبس الكتاب المكنون في حاشية فقهية، بينما كان الله يريد به أن يكون باب العبور من الهشاشة إلى النور.

أضف تعليقك

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)

تعليقات ( 0 )