“لوموند” الفرنسية والمغرب.. وصحافة “من ثقب الباب”

المساء اليوم – هيئة التحرير:

في عقود خالية، كانت هناك مجلة فنية مصرية شهيرة تسمى “الموعد”، والتي تطارد أخبار الفنانين والمشاهير في نومهم وصحوهم، ولديها ركن شهير يعد الأكثر قراءة، عنوانه “من ثقب الباب”.

استمد هذا الركن شهرته من كونه يخلط بين الحقيقة والفنتازيا، بين الواقع وبين المتخيل، لأن الأخبار التي ينشرها يتم رؤيتها “من ثقب الباب”، أيام كانت الأبواب بمفاتيح غليظة تترك للعيون بعضا من فرص التجسس واختلاس النظر.. فتمزج الخبر بكثير من الخيال والاستيهامات.

بعدها تحول ركن “من ثقب الباب” إلى زاوية شائعة وثابتة في الكثير من الصحف والمجلات العربية، بل لم يعد “خطا تحريريا” مقتصرا على المجلات الفنية وأخبار النميمة العربية، بل امتد إلى صحف ومجلات سياسية غربية وازنة.. مثلما هو حال صحيفة “لوموند” الفرنسية، التي صارت تنظر إلى المغرب من ثقب الباب، لكي تخبر المغاربة عما يحدث داخل بلدهم.

ما قامت به “لوموند” في حلقاتها الستة الماضية ليس أول تحقيق “من ثقب الباب” تقوم به، بل فعلت ذلك مرارا، لأن هذه الصحيفة، في كل مرة تشعر فيها بالملل، تقرر أن تتحدث عن المغرب وشعبه ومؤسساته بهذه الطريقة، التي لا تختلف كثيرا عن مجالس النميمة في الحمّامات العتيقة.. وجريدة “لوموند” بطبعها، صحيفة عريقة.. وعتيقة.

صحيفة “لوموند” تتقن أكثر من غيرها تفسير الماء، بعد الجهد بالماء، كما يقول الفقهاء، لأنها ترى جيدا أن المغاربة، من طنجة إلى الكويرة، يدعون بالشفاء للملك، بل يحدث ذلك من فوق منابر المساجد، لكن الرجلين الذين وقعا التحقيق- النميمة، وهما Christophe Ayad et Frédéric Bobin, لا يترددان في إخبار المغاربة بالحالة الصحية لملكهم. ياله من سبق صحفي مبهر..!

في حلقاتها الستة كتبت “لوموند” عن كل شيء تقريبا، بصيغة فيها من التهويل أكثر مما فيها من الحقيقة، وفيها من الحقد أكثر بكثير من الرصانة الصحفية، وفيها من الخبث ما تتبرأ منه مهنة الصحافة.

حددت “لوموند” ربع قرن من حكم الملك محمد السادس لكي تتحدث عن الإصلاحات غير المكتملة، مع أنه في كل خطاب ملكي، تقريبا، يتحدث الملك عن ضرورة إكمال الإصلاحات، بل يكون أكثر جرأة من صحافيي “لوموند” حين يتحدث عن مشاكل الكثير من القطاعات، وهي جرأة تفاجئ المغاربة أنفسهم، بل تفاجئ حتى الطبقة السياسية، وبعدها تأتي صحيفة “المخزن الفرنسي العميق” لكي تخبرنا بأن هناك إصلاحات غير مكتملة.

المثير أن الفرنسيين، الذين يعانون من خوف جماعي وتاريخي من أن تسقط السماء فوق رؤوسهم، ظلوا ينتظرون لأزيد من مائة سنة إكمال الإصلاحات التي وعدت بها ثورة 1789، والكثير من تلك الوعود لم تتحقق حتى الآن.. لكن “لوموند” يهمها كثيرا الحديث عن الإصلاحات غير المكتملة في المغرب في ربع قرن.

المثير، مرة أخرى، أن الفرنسيين، بعد أن اعتقدوا أنهم وجدوا طريقا آخر لحياتهم بعد سقوط لويس السادس عشر وتأسيس جمهورية ثورية، انتظروا فقط 15 عاما لكي يأتوا بملك جديد، بل أكثر من ملك، وعينوا نابليون بونابرت إمبراطورا عليهم، وكلنا يعرف ما يعنيه إمبراطور، من حكم مطلق وصلاحيات غير محدودة، لم يكن يتوفر على نصفها الملك المعزول بثورة دموية. أطاحوا بملك وجاؤا بإمبراطور ليكمل إصلاحات الملك وإصلاحاته، واستمر يفعل ذلك لعقود، وفي زمنه أكل الفرنسيون الكثير من البصل، البصل الثوري فقط.. واستمروا يفعلون ذلك طويلا في زمن الجمهورية. وربما من محاسن بعض الثورات أنها تقدر على تحويل طعم البصل في فم الشعوب إلى بسكويت..!

صحيفة “لوموند”، المصابة بزهايمر تاريخي، تدرك جيدا أن قوة المغرب في مؤسساته، رغم كل المشاكل، لكن هناك الكثير من الإصرار على العمل والإصلاح، لكنها تتمنى لو أن المغرب يشبه جمهوريات الموز أيام زمان في إفريقيا، حين كان المرتزق الفرنسي، بوب دينار، يطيح بالأنظمة الإفريقية كما لو أنه يقلب مائدة العشاء برجله في أفلام الويسترن، ثم يعين حكاما جددا على طريقة قصص سيف بن ذي يزن.

نعرف أن “لوموند” لا تمثل كل الفرنسيين، ونعرف أيضا أن “لوموند” تمثل نخبة فرنسية، من كل القطاعات، تتمنى أن ترى نسخة من ليوطي هنا وهناك، يصنع الملوك والرؤساء، يأمر وينهى،  ويصنع العروش ويهدمها، ويقول للأشياء كُنْ….، لذلك تذكّرنا “لوموند” بالماريشال الذي رسم العلم المغربي، وبأشياء أخرى.

هناك مسألة لن تعجب “لوموند” أبدا، وهو أنه في الوقت الذي كانت تنشر “تحقيقاتها المثيرة”، التي يمكن للذكاء الصناعي أن يكتب أفضل منها بكثير، فإن الصحيفة، بنسختها الورقية، ظلت معروضة في أكشاك العاصمة الرباط والدار البيضاء ومراكش ووجدة وفاس والعيون وباقي المدن المغربية، وهو ما شكل صفعة، حنونة جدا، من نظام “المخزن المغربي القاسي” لوجنة لوموند الرطبة. كان ذلك درسا بليغا في أشياء كثيرة، بعنوان بليغ مفاده: اكتبوا ما شئتم.. وصفوا وتخيلوا ما ترونه من ثقب الباب.. أما المغاربة فهم يشتغلون، ويتغلبون كل يوم يوم، على المزيد من المشاكل، والقادم أفضل.. أفضل بكثير مما تتوقع “لوموند” وتحقيقاتها الكاريكاتيرية “من ثقب الباب”.

 

أضف تعليقك

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)

تعليقات ( 0 )