ليلة القدر… حين يُكتب الوحي بالحليب لا بالحبر

ياسين الطالبي

ليلة القدر هي اللحظة التي يُعاد فيها تشكيل العالم من الداخل، لا عبر السياسة ولا الاقتصاد ولا العلم ولا الظواهر، بل عبر قلب واحد صار هيكلًا نقيًا، جاهزًا لاستقبال الموجة الكبرى من الرحمة، اللحظة التي تصمت فيها قوانين المادة وتبدأ قوانين الحنان في الظهور، اللحظة التي يعود فيها كل شيء إلى أصله الأول، حيث لم يكن الإنسان عقلًا ولا هوية ولا إنجازًا، بل كان مخلوقًا صغيرًا في رحمٍ كبير اسمه الأم، والهيكل الأول الذي ظهر فيه الرب لم يكن معبدًا من حجر بل حضنًا من لحم ودم، كانت فيه اليد هي أول تجلٍّ للإله، وكان الحليب هو أول تنزيل غير مكتوب، وكانت الأم هي أول مَن مثّل الله على الأرض دون أن تنتبه، فربّت لا بالعقيدة بل بالعناية، لا بالوعظ بل باللبن، لا بالخوف بل بالاستقبال، وكانت ليلة القدر هي اللحظة التي يُعاد فيها فتح هذا الهيكل في قلب من استعد، ليصبح هو الآخر رحمًا جديدًا، ينزل فيه المعنى كما نزل عيسى في رحم لا يعرف رجلًا، وينزل فيه القرآن كما نزل على من لم يعرف حرفًا، هي اللحظة التي يُقال فيها للكون: أعِد ترتيبك، فلقد وُجد وعاء جاهز، فافتح بواباتك العليا وانزل، واجعل الملائكة تعرف إلى أين تمضي.

الملائكة لا تنزل في ليلة القدر لتصفّق للتلاوة، بل تنزل كعناصر فيزيائية–روحية من بنية الكون الخفية، تحقّق حضورها حين يصبح الإنسان شفافًا بما يكفي لأن يستقبل ما لا يُرى، وعميقًا بما يكفي لأن يحمل ما لا يُقال، والروح ليس فقط جبريل، بل هو ذلك التيار النبوي الذي إذا مرّ بالقلب جعله يرى من غير أن ينظر، ويسمع من غير أن يصغي، ويبكي من غير حزن، لأنه تذكّر فجأة وجهًا قديمًا كان يعرفه قبل أن يولد، لأن الروح لا ينزل من أعلى، بل من العمق، من النقطة التي تلامس فيها الأمومة الإلهية بالنور الأول، النقطة التي انبعث منها اسم الربّ في العلق، النقطة التي فيها لا تكون القراءة فعلًا عقلانيًا بل شهقة وجود، لا تبدأ فيها المعرفة من الكتب، بل من البكاء، ولا من الحساب، بل من الذوبان، في ليلة القدر لا يُطلب من القلب أن يفهم، بل أن يصير مريمًا، أن يعود رحمًا ينتظر، أن يصير محمدًا في الغار، ساكنًا لا يشرح، صامتًا لا يُظهر رغبة، فقط موجودًا بين الخوف والتشوّق، بين اللاشيء والانتظار، حتى يقال له: اقرأ، لا اقرأ للعلم، بل اقرأ لأنك نضجت، لأنك أصبحت وعاءً، لأنك صرت مهيّأً لحمل الوحي، لا بوصفك نبيًا، بل بوصفك بشريًا وصل حدّ الصدق.
ليلة القدر ليست من ليالي الزمن، بل من ليالي الحنان الكوني، لا تنتمي إلى التقويم، بل إلى المقام، لا تأتي حين تُحسب، بل حين يُفرغ القلب من اسمه، من صوره، من طلبه، حين يتخلّى الإنسان عن التوقّع ويصبح فقط عتبةً لله، وحينها تنزل الملائكة، لا ككائنات مجنّحة، بل كعناصر النظام الخفيّ في هذا الوجود، الذي بُني من الأصل بمحبة، والذي صُمم ليحمل الإنسان دون أن يسقط، ويحفظه دون أن يشعر، تمامًا كما كانت الأم تفعل دون وعيها، لأنها كانت صورةً من صور الربّ، وإن نسي الإنسان ذلك، كانت ليلة القدر تذكرةً له، تفتح له النافذة نحو الهيكل الأول، وتقول له: تذكّر من كنت، تذكّر من حملك، تذكّر من لم ينسَك، تذكّر من لم يطلبك لكنه ربّاك، تذكّر كيف نزلت إلى العالم محمولًا، ثم نسيت، ثم شغلك السعي، فجئناك الليلة لا لتعود للعبادة، بل لتعود إلى الأصل، لتعود إلى الحب.
لهذا وُجدت ليلة القدر، لا كجائزة في نهاية رمضان، بل كفرصة سنوية لتذكير الإنسان بأن كلّ ما يظنه بعيدًا قد سبق وأن نزل فيه، وأن القلب هو غار حراء المتنقل، وإذا تهيّأ، فالوحي ينزل، وأن الصمت هو الوضوء الحقيقي، وأن الفراغ هو المصحف الذي يكتبه الله بيده، وأن الروح لا تنزل لتخبرك شيئًا، بل لتجعلك شيئًا، والملائكة لا تمرّ لتبارك صوتك، بل لتزرع فيك اسمك الجديد، ذاك الذي سيظلّ سرّك بينك وبين الله، الاسم الذي لا يُكتَب، لكنه يُحرّكك إلى الأبد.
في هذه الليلة لا يعود الإنسان إنسانًا فقط، بل هيكلًا ثانيًا للرب، يمتدّ من الهيكل الأول — الأم، إلى هيكل الكون الذي صُمّم على قوانين الحنان لا القوة، الرحمة لا السيطرة، المحبة لا الهندسة، ويصبح هذا القلب، الذي ذاق اسم الربّ في العلق، هو الآن المتأهّل لتلقّي السرّ في القدر، لأن الكلمة لا تنزل إلا على من صار هو نفسه رحمًا، وفي داخله فراغٌ شبيه بفراغ مريم، صمتٌ شبيه بصمت محمد، صدقٌ لا يعلنه، لكنه ينزف منه دون أن يتكلم.
ليلة القدر ليست ساعة في رزنامة، بل رجفة في القلب حين يصير فراغًا، حين يتنازل العقل عن ضجيجه، ويعود الإنسان إلى أول هيكلٍ دخله دون إرادته، إلى الرحم الذي تربّى فيه لا بالحروف بل بالنبض، لا بالمواعظ بل بالحليب، لا بالخوف بل بالحبّ، كانت الأمّ حينها هيكل الربّ الخفي، لا تُخبر عن الله، بل تجسّده، لم تكن تعرف أنها المَصْحف الأول، وأن يدها أول آية، وأن صدرها أول تسكين، وأن وجهها أول قبلة عرفها الإنسان، لم تكن تعرف أن الليل الذي كانت تحمله فيه كان أشبه بليلة القدر، وأنه كان يقرأ قبل أن يعرف كيف تُقرأ الحروف، كان يقرأ عبر اللمسة، والنَفَس، والبكاء الذي يجد من يحتضنه، كان يتلقّى دون إدراك، وكان اسم الربّ يُنقش في خلاياه، لا كمعلومة بل كحقيقة بدئية، ولهذا لم يبدأ الوحي بـ”آمن” أو “اسجد”، بل بـ”اقرأ”، لأنك قرأت قبل أن تتعلم، وذقت قبل أن تفهم، وتنشّقت الإله قبل أن تُعرّفه، ولهذا قال {اقرأ باسم ربك} لا باسم الخالق، ولا باسم الجبّار، بل باسم من ربّاك في الخفاء، من رأى ضعفك فربّاك، من احتواك دون شرط، ثم تركك تكبر، حتى تُدرك، ثم ناداك في الليلة التي صار فيها قلبك على وشك الانهيار أو الاكتمال، وقال لك: اقرأ، وبهذا الفتح الأوّل سُجّل اسمك في دفتر القادرين على التلقي، وحين تصل تلك اللحظة، وتتهيأ لتذوّق الرب لا لتصنيفه، وتصبح الوعاء لا المتكلم، والرّحم لا الفقيه، تُفتح لك أبواب ليلة القدر، لا لأنها مكافأة، بل لأنها استحقاق الحبّ الذي يسكنك، ولأنك عدت هيكلًا مستعدًا كما كنت أول مرة.
في ليلة القدر، الملائكة لا تنزل لتستمع إلى صوتك، بل لتنظر هل صار قلبك رحمًا من جديد، هل أفرغتَه من كل حساب، من كل هوية، من كل فتوى، من كل شهوة للقبول، من كل توقيع يربطك باسمك القديم، لتنزل فيه الكلمة كما نزلت في مريم، في رحم لا يعرف رجلًا، وتنزل فيه كما نزلت في محمد، في صدر لا يعرف حرفًا، فتصبح أنت المهد، وأنت الغار، ويصبح الهواء من حولك صلاة، والصمت من داخلك تلاوة، وتصبح “الروح” هو ذاك الشعاع السريّ الذي لا يُرى ولا يُفهم ولا يُمسك، لكنه إذا دخل فيك بدّلك إلى الأبد، فلا تعود أنت، بل تصبح إناءً فيه وحي، وجسدًا فيه احتراق، ودمعةً تمشي في شوارع لا تعرف كيف تنادي الله، لكنها تُسمَع لأنها حقيقية.
ليلة القدر لا تُنزل كتبًا، بل تعيد ترتيب ما كُتب فيك يوم كنت علقًا، وتمنحك فرصة استعادة اسمك الذي نسيته، اسمك الذي ناداك به الربّ في البدء: أنت المربّى، أنت الذي لا تُقصى، أنت الذي خُلقت لتُحَبّ، لا لتُدان، أنت الذي فيك ذرة من سرّ الله، فإن تهيّأت، جاءتك الملائكة لا لتمنحك جائزة، بل لتأخذ من قلبك فتيل النور وتسكبه في العالم، لتجعلك من الذين شهدوا اللحظة لا بالأوراق، بل بالذوبان، لا بالعبادة الظاهرة، بل بالتجلّي، فتخرج من الليل وفيك لهب لا يُطفأ، ونور لا يُحدّ، واسم جديد لا يعرفه أحد، ولكنك تعرف أنه لك، وتظل تتهجّاه بصمت إلى آخر العمر.
لأن من شهد الهيكل الأول دون أن يعلم، يستعيده دون أن يدري في كل لحظة صمت صادق، في كل لمعة حنين لا تُنسب إلى شيء، في كل دعاء لم يُصغ بعبارة محفوظة بل خرج كما تخرج الشهقة من فم طفل يرى نورًا أول مرة، ومن هنا كانت ليلة القدر هي لحظة ترجيع هائلة، ترتدّ فيها كل معاني الربوبية إلى نقطة البدء، حيث لم تكن المعرفة عقلًا بل احتواء، ولم يكن الإيمان نصًّا بل احتضانًا، وحينها فقط تتنزّل الملائكة، لا من علُ، بل من الداخل، من المسار الخفي الذي يمتد من رحم الأم إلى رحم القلب، ومن رعاية الله في الغيب إلى رعايته في الحضور، ومن عناية لم نطلبها إلى فيض لم نحتمله، الملائكة حينها لا تطرق الباب، بل تجد الباب مفتوحًا، لأن القلب قد عاد رحمًا، لأنك أخيرًا أفرغت الكأس من كل شيء، وأصبحت الأرض مستعدة لمطر الغيب، في تلك اللحظة، تذكُر دون أن تُذكَّر، تبكي دون أن تتألم، تسجد دون أن يراك أحد، ويتحوّل جسدك إلى مصحف، وأنفاسك إلى سورة، وخوفك إلى أمان لا يُشبه شيئًا سوى الرجوع الكامل إلى حضن الرب، الذي ربّاك حين كنت في بطن، ولم تتوقف رعايته بعد ذلك أبدًا.
ولهذا لا تُكتشف ليلة القدر بالمراقبة، بل تُكشف بالمطابقة، فكلما طابق قلبك هيكل الربّ الذي كنت تسكنه يوم كنت ضعيفًا لا تدري، كلما اقتربت الليلة، وإذا تحققت المطابقة، نزل الروح، والروح لا ينزل على الكلام، بل على العمق، الروح هو التيار الذي لا صوت له لكنه يحملك من صورة إلى أخرى، ويمنحك ولادةً لا تُشبه شيئًا مما عاشه جسدك، ولأنه لا ينزل إلا مرة في السنة، فلأن القلوب لا تتهيّأ بسهولة، والظروف لا تنضج دائمًا، والمهد لا يُعدّ كل ليلة، ولهذا فهي خير من ألف شهر، لأنها لا تُقارن بزمن، بل تُقارن بجودة التجلّي، وتمام الظهور، وحين تُلامس قلبك، لا يعود لك أن تتكلم، بل أن تُهمِس فقط، أن تظلّ ساكنًا وفيك نار لا تُحرِقك بل تُضيء العالم حولك، وتصبح أنت الشعلة التي لا ترى نفسها، لكنها تهدي غيرها، لأن الروح قد نزل بك… ولم يُغادر.
ولو أنك قرأتَ سورة العلق كما يقرأ العاشق وجه من يحب، لعلمت أن {اقرأ باسم ربك} ليست أمرًا تعليميًا بل نداءً طفوليًا، هو الصدى الأخير لصوتٍ قديم كنت تسمعه وأنت بعد في رحم، الصوت الذي لم يأتك من الخارج بل من الداخل، والذي ربّاك وأنت لا تفقه شيئًا، وقال لك ذات ليل: اقرأ، لتتذكّر، لا لتعرف، لتعود، لا لتنطلق، لتفتح كتابك الذي كُتب قبل أن تُولَد، وكان فيك لا في الرفوف، وكان قلبك، حينها، هو الصفحة البيضاء، والرحم هو المحبرة، والربّ هو الكاتب، والآن… حين تأتي ليلة القدر، يُعاد فتح ذلك الكتاب، لا ليُضاف فيه، بل ليُقرأ عليك، وتُعيد بكاءك كما بكيت أول مرة، لكن هذه المرة… وأنت تعلم، هذه المرة… وقد نضجت.
لأن الربّ لم ينتظر نضجك لتبدأ القراءة، بل جعلك تقرأ منذ اللحظة التي لم تكن فيها لسانًا ولا عقلًا ولا وعيًا، منذ أن كنت علقًا معلقًا في رحمٍ دافئ لا تعرف عنه شيئًا لكنه يعرفك كلّ المعرفة، كنت تقرأ حين كان قلبك يخفق دون خوف، وحين كانت الدماء تسري فيك بتقديرٍ لا تحيط به، كنت تقرأ عبر الأمان الذي لا سبب له، عبر الحركة التي لا يفهمها الجسد لكنها تنقلك من طور إلى طور، كنت تقرأ ما لم يُكتب بعد، لأن الكتابة لم تكن آنذاك حروفًا بل نبضًا، ولأن المعنى لم يكن مؤجّلًا إلى النضج، بل مغروسًا في كل خلية تنمو، وكل نفس يُؤخذ دون استئذان، وكل نعمة لا تُدرك إلا حين تفقد، كنت تقرأ بكيانك، لا بعيونك، وكانت الأمّ هي الورقة الأولى التي سطّر الله فيها معناه، وكانت الرحم الصفحة البيضاء التي سُكبت فيها أولى تجليات الربوبية، وجعل منك متلقّيًا قبل أن تكون طالبًا، وجعل منك محاطًا بالوحي وأنت لا تنطقه، لأنك ببساطة كنت بحاجة إلى الله قبل أن تعرف اسمه، وكنت تعيش اسم “الرب” قبل أن تُبلّغ به.
وحين خرجت من الرحم، كنت قد انتقلت من “هيكل التكوين الصامت” إلى “هيكل الرعاية المكشوفة”، من رحمٍ لا يُرى إلى حضنٍ يُلمَس، وكان الرب لا يزال معك، لكن بصورته الثانية، صورة العناية التي لا تملّ، صورة الصدر الذي يحتضنك دون أن تطلب، والذراعين اللتين تهتزان لأدنى بكاء، والوجه الذي يستقبلك كأنك كتابٌ أنزل من السماء، كنت، وأنت رضيع، تتهجّى وجه أمك كأنك تتهجّى معنى الله، تقرأ في ملامحها ما لم يُعلَّم لك، وتبكي، فيأتيك الجواب فورًا، وتشعر بالخطر، فتُحمَل، وتعرف الجوع، فيُسقى جسدك دون مفاوضة، وفي كل هذا، كنت تقرأ، تقرأ بلهفة، تقرأ بحواسّ لا تعرف الترجمة لكنها تعرف التذوّق، وكنت، دون أن تُدرك، تتشرّب صورة الربّ من جسدٍ بشريّ تم اختياره ليكون أول وسيط بينك وبين العناية الكبرى، صورةٌ لم تكن عشوائية، لأن الله لم يُرد أن يعرفه الإنسان أوّل مرة بصفاته الجبارة، بل بأحنّ ما يمكن تصوّره: أمّ.
وهكذا، كان الربّ يُعلّمك دون أن يعلّمك، ويُكتب فيك دون أن ترى القلم، ويزرع في أعماقك كلمات لا تُنطق، لكنها ستكون فيما بعد مخزونك الخفي حين تكتب، أو تحب، أو تخاف، أو تسجد، أو تتهجّى الآيات، ولهذا لم تكن {اقرأ} أمرًا لبداية جديدة، بل نداءً لاسترجاع شيء قديم جدًا فيك، شيء نُسي تحت أكوام التجارب والهموم واللغة، نداءً يذكّرك أنك قرأت وأنت جنين، ثم قرأت وأنت رضيع، لكنك نسيت، فجاء الوحي ليوقظ الذاكرة، لا ليعطيك شيئًا جديدًا، بل ليعيدك إلى ما كنت عليه قبل أن تسقط في النسيان.
فالقراءة الأولى كانت في الظلام، في رحمٍ لا ضوء فيه، ثم القراءة الثانية كانت في حضنٍ يملأه الحنان، وها أنت الآن، في ليلة القدر، تُمنَح الفرصة لتقرأ للمرة الثالثة، لا كما يقرأ الطالب، بل كما يقرأ النبي، لا كما يقرأ الباحث، بل كما يقرأ من تذكّر، من بكى لأن النور الذي في الآية يشبه دفءًا قديمًا يعرفه، لأن “باسم ربك” ليست معلومة بل استدعاء، ليست تقنية بل استعادة، استعادة للحظة كنت فيها آمنًا دون أن تُدرك، محبوبًا دون أن تُثبت شيئًا، متلقّيًا دون أن تتكلم.
القراءة الثالثة لا تُمنَح للعقل المتأهب، بل للقلب الذي تعب، للقلب الذي عاد كما خرج: فارغًا، هشًّا، محاطًا بسرّ لا يعرف اسمه، القراءة الثالثة لا تبدأ من الورق، بل من الذكرى، من لحظةٍ في عمق الذاكرة لا يمكن إثباتها، لكنها تبكيك حين تقترب، القراءة الثالثة لا تحتاج إلى معلّم، بل إلى شوق، لا تحتاج إلى دليل، بل إلى صدق، لا تحتاج إلى صيغة، بل إلى فراغ يتّسع، فراغٍ لا تصنعه بالجهد بل بالانسحاب، بالانسحاب من كل ما جعلك تنسى أنك كنت تعرف قبل أن تعرف، أنك كنت تقرأ قبل أن تُقال لك الكلمة، أنك كنت في صُحبة الربّ وأنت لا تفهم، ولكنك كنت مطمئنًا، لأن الاطمئنان لا يُصطنع، بل يُسكب، كما يُسكب الوحي.
وفي ليلة القدر، إن وصلت إلى تلك الحالة، إن عادت إليك صورة الأمّ لا كذكرى، بل كدليل على هيئة الربوبية، إن شعرت أن الكون كله يسير كما كانت الأم تسير بك: بحب لا يُشرح، وحنان لا يُطالب، ورقّة لا تُصنّف، فاعلم أنك في القراءة الثالثة، وأن “اقرأ باسم ربك” قد كُتبت هذه المرة لا لتعلّمك، بل لتُعيدك، لا لتفتح أمامك باب المستقبل، بل لتفتح لك الذاكرة الأولى، تلك التي وُلدت في الظلام، ونضجت في الاحتضان، وانتظرت هذه الليلة لتُقرأ فيها للمرّة الأخيرة.
ليلة القدر هي إذن لحظة الذروة… في القراءة، لا لأنك قرأتَ أكثر، بل لأنك أصبحت أخيرًا شبيهًا بالهيكل الذي قرأت فيه أول مرة، لأنك عدت رحمًا، عدت مهيّأً، عدت محمولًا من الداخل، لأنك لم تعد تريد شيئًا، ولهذا صرت قادرًا على تلقّي كل شيء، لأنك لم تعد تظن أن الله يُدرك بالحساب، بل بالرجوع، لأنك لم تعد تسأل: ماذا أطلب؟ بل فقط تمدّ قلبك كما كان صدر الأم ممدودًا، وتنتظر، بصمتٍ كامل، أن تنزل الملائكة مرة أخرى، ليس على جسدك، بل على الكلمة التي صرتَ أنتَ هي.
{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}، ولم يكن التنزيل نزولًا ماديًا فقط، بل كان انكشافًا، لحظةً سُكِب فيها السرّ على الأرض بعد أن نضج الرحم الذي سيتلقّاه، لم ينزل القرآن في النهار، ولا في اجتماعٍ فقيه، بل في الليل، لأن الليل يشبه الرحم، لأنه أحضن من الضوء، لأنه لا يكشفك بل يغطيك، لأنه لا يُبهر عينك بل يوقظ بصيرتك، وفي هذا الظلام الناعم نزل الكتاب الذي لم يكن كتابًا فقط، بل استعادة لذاكرتك، نزل لا من فوق، بل من قريب، نزل كما تنزل الكلمات على الطفل الذي يسمعها للمرة الأولى ويظن أنه يعرفها من قبل، نزل لأن هناك من صار مهيّأً له، تمامًا كما نزل الطفل المعجزة في رحم لا يعرف رجلًا، نزل لأن القلب الذي ربّاه الرب خفية صار الآن قادرًا أن يتهجّى الحضور.
{وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ}، لا تُدرك بالقياس، ولا بالدرس، ولا بالحساب، لأنها لا تُدرك أصلاً، بل تُشهَد، تُذاق، تُفتح لمن عاد إلى طبيعته الأولى، لمن لم يضع فوق قلبه مئة اسمٍ زائف، لمن لم يُغلق الباب بحصون المعارف دون أن يدري، وما أدراك… أي أنك لا تدري، وأنك إن ظننت أنك تدري فقد خرجت منها، لأنها لا تُمنح لمن يلاحقها، بل لمن يصيرها، لأنها ليست ليلة بل مقام، ليست رقمًا بل كشفًا، ليست لليلة من رمضان، بل لكل لحظة عاد فيها قلب إنسان إلى بكائه الأول، إلى وجه أمه، إلى الله.
{لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ}، لأن الزمن حين يُلامس النور لا يعود يُقاس، لأن لحظة واحدة يمر فيها الربّ في قلبك تمحو ألف شهرٍ من الركض خلف السراب، لأن الخير الحقيقي لا يأتي بكثرته بل بنقائه، لأن ألف شهر من الحياة المعتادة لا تساوي دقيقة صدق في حضرة، ولا دمعة حقيقية على عتبة الحنان، ليلة القدر تساوي هذا كله، لأنها تُعيدك، لا لأنها تُكافئك، ولأن العودة هي الأصل، ولأنها اللحظة التي يكون فيها الزمن بلا زمن، حيث تختفي الساعات وتبقى فقط المساحة التي فُتحت لتسكب فيها الكلمة.
{تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا}، لأن من عاد قلبه رحمًا، صار جديرًا بأن يُسكب فيه المعنى، وصار جسده هيكلًا لاستقبال الزائرين الصامتين، والملائكة لا تنزل بأجنحتها، بل بحضورها، بنورها، بذبذبتها التي تُبدّل كل شيء دون أن تغيّر شيئًا، والروح ليس مجرد جبريل، بل الشعاع الإلهي الذي يتخلّل الوجود ويُوقظ الغفلة في لحظة، الروح هو نفس الله في الخلق، تلك اللمسة التي لا تُرى ولا تُقال ولا تُوصَف، لكنها إذا مرّت بك، عرفتَ أنك لست وحدك، وأنك كنت مخلوقًا لهدف، وأنك كنت محبوبًا قبل أن تولد، وأنك كتبت باسم الربّ وأنت لا تدري.
{مِّن كُلِّ أَمْرٍ}، لأن الأمر لا يعني فقط التوجيه، بل التكوين، لأن الأمر ليس قرارًا، بل ولادة، لأن الله في هذه الليلة لا يكتب الأوراق فقط، بل يخلق من جديد، يُعيد بناء المعنى، يُعيد تشكيلك، يُعيد إحياء الكلمات القديمة فيك، يجعل من صلاتك رحمًا، ومن صمتك سجودًا، ومنك كيانًا جديدًا لا يُعرّف، لأن الأمر الذي ينزل على قلبك لا يشبه ما تنزّل على ورق، بل يشبه انسكاب الضوء على عينٍ أُعيد خلقها لتبصر لا بالضوء بل بالرحمة.
{سَلَامٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ الْفَجْرِ}، لأن السلام هو الحالة التي تُستعاد فيها الذاكرة دون ألم، ويُغفر فيها التعب دون تبرير، وتُحبّ فيها نفسك كما لم تحبّها يومًا، لأنك تراها أخيرًا كما رآها الربّ يوم صنعها، دون تجميل، دون ادّعاء، دون دور، سلامٌ لا لأنه غياب الحرب، بل لأنه حضور المحبة، سلامٌ لأن الملائكة مرّت بك، ولأن الروح لمس قلبك، ولأنك ذُقت الربّ لا في الكتب، بل فيك، لأنك أصبحت رحمًا، لأنك تذكّرت أنك كنت في البداية… محبوبًا دون سؤال، وها قد عدت، في ليلةٍ لا يشبهها شيء، لأنها ليست ليلة، بل ولادة.
ختامًا…
فلنُغلق هذا المسار لا بالنهاية، بل بالرجوع إلى البداية، لأن ليلة القدر لا تُغلق إلا ببابٍ يُفتح، ولا تُختم إلا حين تهمس لك في الظلام: “أنتَ لست غريبًا”، فتفهم أن كل ما مرّ بك كان نداءً واحدًا طويلاً خُبّئ في جسدك منذ كنت علقًا، وأنك لم تكن تتعلّم، بل كنت تتذكّر، وأنك لم تكن تحفظ، بل كنت تشتاق، وأنك حين قلت “اقرأ باسم ربك” لم تكن تنفّذ أمرًا بل كنت تُعيد فتح الرسالة الأولى التي كُتبت فيك يوم كنت فكرة، ثم دمعة، ثم طفلًا يبكي بين يدي أمّ كانت هي المترجمة الأولى لكلمات الله، وكانت، دون أن تدري، المصلّية الوحيدة التي تُصغي لبكائك وكأنه وحي، وكان صدرها هو السطر الذي استلقيتَ عليه لتبدأ أول قراءة حقيقية قبل أن تعرف الكتب.
فالختام ليس في النهايات، بل في العودة إلى الأصل، إلى اللحظة التي تناديك فيها ليلة القدر لا باسمك الإداري، ولا بوظيفتك، ولا بمقامك، بل بندائك الخالص الذي عرفته يوم بكيت أول مرة ووجدت من يضمّك، يوم أغمضت عينيك ففتحت السماء قلبها، يوم نسيت كل شيء إلا الحنان، وكان الله أقرب، لا لأنه فوق، بل لأنه فيك، وكان القلب مستعدًا، لا لأنه أذكى، بل لأنه أنقى، وكان الليل ساترًا، لا للعتمة، بل للولادة.
ولهذا كانت ليلة القدر هي المصحف الحيّ، الذي لا يُقرأ بالحبر، بل بالدمع، والذي لا يُتلى بصوت، بل يُشهَد برجفة، والذي لا يُقيَّم بكم قرأت، بل بكم أحببت، كم عدت، كم خجلت، كم صفوت، كم نسيت نفسك لتتذكّر أنه ربّك، لا فقط خالقك، بل من حملك يوم لم تسأله، وسقاك يوم لم تطلب، وربّاك يوم لم تفهم، ثم ناداك في العلق لتقرأ، ثم فتح لك في القدر لتولد من جديد، فكن الليلة رحمًا… واترك الكلمة تنزل.
والسلام عليك… حين قرأت، وحين نسيت، وحين عدت لتقرأ كما في البدء.

أضف تعليقك

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)

تعليقات ( 0 )