ساديو ماني… اليتيم الذي تربع على أعلى درجات المجد الكروي

المساء اليوم:

مثل ملايين الأطفال الفقراء في العالم كان “ساديو ماني” يحلم بأنه سيصبح لاعبا مشهورا في عالم كرة القدم، غير أن الفرق بين الأحلام والواقع كبير جدا، فقليل من الناس من يقدر على جعله حقيقة.

هذا ما فعله الطفل السنغالي اليتيم الذي كافح وأصر منذ صغره على تحقيق حلمه، وكان له ما أراد، فاليوم يُعد من بين أشهر لاعبي كرة القدم في العالم، يحترفها ويلعب في أكبر أنديتها الأوروبية.

ميلاد الحلم الكبير في القرية الصغيرة

طفولته كانت في القرية التي بدأ حلمه في أن يصبح لاعب كرة قدم من ساحتها الترابية الصغيرة. ولأن أهلها فقراء كان يصعب على أطفالها الحصول على كرات جيدة، لهذا كانوا يستخدمون كل شيء مدور وكروي الشكل، فكانوا يحولون الفاكهة إلى كرات يتقاذفونها بينهم، وكان “ماني” يرمي بقدميه كل شيء مُدور الشكل يصادفه في الطريق مثل الحصى والحجر.

“أحلام أطفال”.. جنون الكرة التي شغفت قلب حبا

كان في القرية فريق للشباب جيد المستوى، ومن مشاهدته للاعبين في الساحة وتشجيع أبناء القرية لهم، استلهم فكرة “ماني” أن يصبح لاعبا محترفا. كان لأحد أقاربه فريق لم يكن بالمستوى المطلوب، لكنه اكتسب الشيء الكثير من مشاهدته لتمرينات لاعبيه عن بعد.

من خصال “ماني” الطفل قوة شخصيته، إذ لم يتردد عن الإعلان عن رغبته في ترك العمل في الحقل واحتراف الكرة، وقد كانت والدته ترى في شغفه بالكرة جنونا، وأن حماسته الزائدة لا تعدو أن تكون أحلام أطفال.

رحلة دكار السرية.. عام للإرادة العائلية وباقي العمر للحلم

عام 2008 أصبح الصبي “ماني” لاعبا في فريق القرية، وأراد أن يمضي أبعد من ذلك، ولم يكن ذلك الهدف سهلا، فعائلته لم تشجعه على لعب الكرة لأن الكثير من رجالها هم شيوخ وأَئِمة جوامع المنطقة، وقد أرادوا له أن يكون مثالا يُحتذى به مثلهم تماما، وأن يركز على دراسته وتعليمه، لا أن يكون لاعب كرة قدم.

لم يكن “ماني” مهملا في دراسته، لكنه لم يرغب في الاستمرار بها، ولهذا قرر أن يجرّب حظه خارج القرية، وقد ذهب برفقة صديق طفولته “لوك” إلى العاصمة دكار دون إشعار أهله، ليحصل على فرصة نادرة للتدريب في أهم مدرسة كروية فيها وهي “جنَرشين فوت أكاديمي”. وبعد السؤال علمت والدته بسفره، لكنها تعاملت مع الأمر بهدوء وحكمة.

شعر “ماني” بالندم لخروجه دون علم أهله، لكنه صارحهم بحقيقة ما يريد، وأبرم الاتفاق على أن يمضي سنة واحدة في الدراسة وبعدها يكون له الحق في اختيار الطريق التي يريد السير فيها.

تدريبات الأكاديمية الرياضية.. أولى الخطوات في طريق العالمية

بسبب تدريبات “ماني” في الأكاديمية الرياضية بدكار، قابله مكتشف المواهب الفرنسي “أوليفر بيرن” الذي وجد فيه لاعبا استثنائيا، لذا فاتح “بيرن” إدارة نادي “أف سي ميتز” لتقبل بضم “ماني” إلى صفوف النادي وكتابة عقد عمل معه يتضمن انتقاله الفوري إلى فرنسا وهو في عامه التاسع عشر.

يتحدث “ماني” عن تجربة السفر إلى الخارج والعيش وحيدا بعيدا عن الأهل بشيء من الحزن، ومما زاده هما أنه لم يقدم مستوى جيدا في أولى المباريات التي لعبها مع النادي، والأسباب غير المعلنة وراء ذلك تعود إلى تعرضه لإصابة قوية لم يخبر مدربه بها خشية من طرده من النادي وإرجاعه إلى السنغال.

توبيخ المدرب.. آلام صامتة في غربة فرنسا الموحشة

يتذكر “ماني” إصابته في النادي الفرنسي وكتمانه لها خشية الطرد ثم يضحك، لأن العقد لم يكن يتضمن الطرد في حالة الإصابة، وقد انتظر 8 أشهر حتى شفي منها، ليعود للعب بعدها بكل قوّته.

أدهش “ماني” الجميع بحماسته وتسجيله للأهداف، وكأنه يريد تعويض ما فاته خلال فترة المرض، ويُحيل الطبيب النفسي للنادي الخوف من الإعلان عن الإصابة إلى قلة الخبرة وصعوبة حياة شاب غريب في مقتبل العمر يمرض وحيدا ولا يجد أحدا من أهله إلى جانبه.

يتذكر “ماني” بدوره كيف بكى بحرقة يوم صرخ في وجهه المدرب لسوء أدائه من دون علمه بالإصابة، وهو ما يبرز جانبا من الآلام النفسية التي يتعرض لها الرياضي القادم من بلاد بعيدة، وعليه مواجهة المرض والغربة وحيدا.

أسرع ثلاثية في تاريخ الدوري الإنجليزي.. تذكرة السفر إلى ليفربول

في عام 2012 بعد ظهوره اللافت في الملاعب، انتقل “ماني” بعقد جديد مع نادي سالزبورغ النمساوي، وبفضل ما قدمه معه استطاع النادي الفوز بكأس الدوري المحلي، ليتوجه بعدها إلى بريطانيا للّعب مع نادي “ساوثهامبتون” وسجل معه أسرع “هاترك” (ثلاثة أهداف في مباراة واحدة) في تاريخ الدوري الإنكليزي.

أما الانتقالة الكبرى فكانت إلى نادي ليفربول، ففي عام 2016 وقع “ماني” عقدا مع إدارة النادي وارتدى القميص رقم 19 فيه، ويستعيد “ماني” أهم المراحل التي مر بها خلال تلك الفترة التي كُتِب فيها اسمه بين أسماء كبار لاعبي كرة القدم، ليس في بريطانيا فحسب بل وفي العالم بأسره.

أنا مسلم، والإيمان بالنسبة لي هو الوجود”

ظل اللاعب السنغالي رغم كل النجاحات بسيطا متواضعا، لقد جُبِل على تلك الخصال وكانت تربته الدينية لها الفضل في ذلك، ففي أحد مشاهد الفيلم يظهر وهو يتصل هاتفيا بوالدته من شقته في ليفربول ويسأل عن صحتها، يخبرها أنه في طريقه إلى الجامع لأداء الصلاة، لأنه بالإيمان والصلاة -كما يقول- يجد ذاته، فـ”أنا مسلم، والإيمان بالنسبة لي هو الوجود، وفي الصلاة أحس بوجودي كإنسان 5 مرات في اليوم الواحد”.

طفولة في براثن اليتم.. نبش في ذكريات الزمن الغابر

لوحة جميلة لعلاقة ماني بأهله وبلده رسمها عندما عاد إليه ليلعب ضمن صفوف منتخبه المشارك في نهائيات بطولة الأمم الأفريقية، وبوصوله إلى بيت عمه يتكشف بعض ماضيه والكثير من خصاله وصفاته، فعلى المستوى الشخصي ربطته علاقة قوية بعمه الذي رعاه بعد موت والده.

يتذكر ماني طفولته ولحظة سماعه نبأ وفاة والده، إذ لم يصدق الخبر وظنه مزاحا في بداية الأمر، لكنه تأكد من صحته بعد معرفته بإجراءات دفنه في قرية أخرى بعيدة، إذ لم يكن في قريتهم وقتها مشفى أو عيادة طبية، وقد كان الناس يُعالَجون بالطرق التقليدية.

أخذوا والده إلى معالج شعبي في قرية أخرى لكنه توفي هناك، ولم تتوفر وسائل نقل تضمن وصول جثمانه سريعا فاضطر أهالي القرية لدفنه في مقابرهم.

كأس إفريقيا

في بيت عمه الذي أسهم هو في بنائه ويتوفر على كل سبل الراحة، يشارك “ماني” العائلة مأدبة الغداء التي أقيمت بمناسبة وصوله، فيشارك في الطبخ ويأكل مع الرجال، البساطة والتواضع ظاهران على سلوكه وحب الناس له يظهر حيثما حل.

المشكلة الوحيدة التي كان يواجهها “ماني” في موطنه هي انقسام الناس حول مساهمته في المنتخب، والانتقادات الموجهة له تصب حول ضعف عطاءه مقارنة بما يقدمه للأندية المحترفة. “هذه مشكلة تواجه كل اللاعبين الكبار الذي يلعبون في أندية أجنبية” كما يقول أحد المدربين.

الناس يعولون كثيرا على لاعبهم المحترف ويتوقعون منه أن يصل بمنتخبهم إلى القمة، متناسين بقية اللاعبين وصعوبة التكيّف مع زملاء لا يقابلهم اللاعب المحترف إلا في فترة تدريبية قصيرة، وفي النهاية حقق ماني حلمه الكبير وفاز مع منتخب بلاده بأول كاس إفريقية.. إنه حلم كبير يتحقق بقيادة ماني.

مؤخرا افتتح ماني مدرسة جديدة، فتعليم الناس بالنسبة إلى “ماني” أولوية قصوى تماما كالصحة التي يهتم بمشاريع تطويرها، وقد أعلن “ماني” أثناء وجود فريق العمل عن قرب افتتاحه مشروع بناء مشفى جديد من ماله الخاص.

تتلخص فرحة الناس بإعلانه المشاريع الجديدة وشكرهم له في عبارة أطلقها أحدهم: “لو قدّر لوالده أن يرى ما يقدمه ابنه اليوم للقرية وأهالي المنطقة، لشعر بفخر واعتزاز كبيرين”.

أضف تعليقك

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)

تعليقات ( 0 )