ما وراء الأنا إلى “إني”: النية الأولى كقانون للوعي والوجود

ياسين الطالبي

 

الإنسانَ، حين يُوقِف صخبَ الذاكرةِ ونزيفَ الصورِ المتراكمةِ في جهازه العصبي، ويُسقِط عن وعيه كلَّ ما اكتسبه من أبجدياتٍ حسيةٍ وتراكماتٍ ثقافيةٍ وخيالاتٍ تشكّلت بفعل البيئة والتربية والتجارب، وحين ينسحب قليلًا من صومعة الإدراك المألوف ليقف أمام المرآة الأولى للوعي، تلك التي تسبق الفلسفة والعلم والدين والمجتمع، يبدأ رويدًا رويدًا في لمس حقيقةٍ مُربِكةٍ حدَّ الذهول، وهي أن العالمَ الذي يراه ويحسه ويعيش داخله ويُسقِط عليه المعاني ليس هو “العالم كما هو”، بل هو “العالم كما صُوِّر له”، وأن الوجودَ الماديَّ الذي يبني عليه يقينه الحسي ليس إلا فراغًا متوهّجًا بنقاطٍ خجلى من الطاقة، وأن الذرّة التي نظنها أصل الصلابة لا تملك لونًا ولا شكلًا ولا خشونة ولا نعومة ولا طبيعة ولا هيئة، وأن تسعين في المئة من بنيتها خواءٌ عارٍ من كل معنى، بينما العشرة المتبقية ليست إلا اهتزازاتٍ تسبح في موج من اللاشيء، مما يجعل “الوجود” في حقيقته مادة بلا صورة، وخامة بلا هوية، ومشهدًا بلا شكل، وكأن الكون برمته ليس إلا احتمالًا ماديًا ينتظر من يُشغِّله بوعي ليأخذ شكلًا من الأشكال.

 

وحين يلتفت الإنسان إلى داخله ليفهم كيف يتحوّل هذا اللاشكل الخارجي إلى “واقعٍ مُحسوس”، يكتشف أن الدماغ—لا الكون—هو الذي يصنع الصور، وأن العين لا ترى، بل تستقبل اهتزازاتٍ يترجمها المخ إلى ضوء، وأن الأذن لا تسمع، بل تلتقط ذبذبات يحوّلها الوعي إلى صوت، وأن جهازه العصبي لا يقدّم له حقيقة الوجود، بل يقدّم له “نسخة تفسيرية” منقّحة ومفلترة ومؤدلجة بما يناسب بقاءه البيولوجي، وأن الواقع الذي يعتقد أنه مشترك بينه وبين الناس ليس إلا نتاجًا لعمليات تفسيرية تقوم بها شبكة الإدراك لديه، وأن التجربة التي يظنها خارجية ليست في حقيقتها إلا صورة ذهنية مصنوعة داخل العقل، وأن العالم الخارجي لا يأتيه كاملًا، بل يأتيه خامًا، والخيال الوجودي هو الذي يشكّله، ويمنحه معنى، ويضفي عليه صفة الضوء واللون والملمس والحركة والعاطفة والتقييم.

 

وعندما يلتفت إلى أعمق نقطة في ذاته، إلى المنبع الذي لا تصل إليه يد البيئة ولا شيفرة الجينات ولا ذاكرة الطفولة ولا برامج التصور التربوي، يكتشف شيئًا مذهلًا: أن هناك نقطةً داخل النفس لا تصنعها الحواس، ولا يبرمجها المجتمع، ولا يتدخل فيها الوعي الواصف، نقطة تشبه الشرارة الأولى التي سبقت الصورة كلها، إنها “النية”، تلك التي لا تُرى ولا تُلمس ولا تنتمي إلى الإدراك الحسي ولا إلى التفسير العقلي، وإنما تنتمي مباشرةً إلى جوهر الروح، إلى النفخة الأصلية التي جاءت قبل الوعي وقبل الخيال وقبل الصورة، والتي بها يتحرك الإنسان في الاتجاه الذي يقرره في العمق، لا في السطح، وأن النية—على خلاف إدراك الواقع—ليست صورةً من صور الخيال، بل هي الأصلُ الذي تُبنى عليه كلُّ الصور اللاحقة، وأنّ ما نسمّيه قرارًا أو اختيارًا أو توجهًا أو رغبةً إنما هو ظلّ لشيء أعمق اسمه “النية”، لأن النية ليست استنتاجًا نفسيًا ولا ميلًا انفعاليًا، بل هي شفرة الوجود الأخلاقية التي صُنِع بها الإنسان قبل أن يتشبع بتجارب العالم.

 

وهنا، في هذه النقطة الحاسمة، يتبيّن للإنسان أنّ الوجود مادة بلا صورة، وأن الواقع صورة يصنعها الوعي، وأن الخيال مصنع هذه الصورة، وأن النية هي الصورة الأصلية قبل أن تمتد يد الخيال لتشكيلها، وأن الامتحان الأكبر الذي وُضع فيه الإنسان منذ هبوطه إلى الأرض هو السؤال نفسه الذي تنطق به التجربة الوجودية كلّها: أيُّ صورةٍ سيتّبع؟ أسيعيش بالصورة التي يصنعها الخيال المربوط بالذاكرة والتجارب والظروف؟ أم بالصورة الأولى التي وضعتها الروح قبل أن يكتسب الإنسان أعباء الإدراك؟

 

وحين يصل الإنسان إلى هذا الفهم، يدرك أن السؤال الفلسفي القديم “ما الحقيقة؟” لم يكن في يوم من الأيام سؤالًا عن العالم، بل كان سؤالًا عن “الصورة التي يجب أن نرى بها العالم”، وأن كل المدارس الفلسفية من اليونان إلى الحداثة وما بعد الحداثة كانت محاولات يائسة لاستعادة تلك الصورة الأولى، وأن الدين نفسه لا يعمل على مستوى الممارسات، بل على مستوى إعادة برمجة الصورة الأصلية (النية) حتى تستعيد الروح شكلها الأول الذي نزلت به، وأن القرآن نفسه يبدأ بهذه المسألة من أول كلمة في الفاتحة: “إياك نعبد وإياك نستعين”، حيث العبادة هي توجيه الصورة، والاستعانة هي إعادة وصل النية بمصدرها، مما يجعل الفاتحة كلها، بل القرآن كله، تدريبًا على استعادة الصورة الأصلية.

 

وهكذا نفهم أن الإنسان، وهو يتأمل ذاته والوجود، لا يقف أمام مادةٍ ولا أمام واقعٍ ولا أمام خيالٍ، بل أمام سؤال واحد فقط: هل سيجعل النية تتحول إلى صورةٍ حقيقية تُصلِح تجاربَه، أم يترك الخيال يصنع له صورةً مزيفة تقوده للضياع؟

 

وإذا كان العالم الخارجي لا يملك شكلًا، والإنسان الداخلي لا يملك شكلًا، والخيال هو الذي يمنح كليهما الشكل، فإن النية هي الشكل الذي وضعه الله في الإنسان قبل كل الأشكال، والذي يُحاسَب عليه لا بوصفه رغبة، بل بوصفه “اختيارًا للصورة التي يريد أن يكونها”، ولذلك قال القرآن: “ليبلوكم أيكم أحسن عملا” ولم يقل: “أكثر عملا”، لأن الامتحان ليس في الكم ولا في الجهد، بل في نية الصورة التي يختارها الإنسان ليُعيد بها تشكيل حياته والوجود.

 

كيف تُصنَعُ صورةُ الوعي من باطن النية

 

إنَّ الوعي، حين ننزعه من قشرته اليومية التي اعتاد الناس أن يتعاملوا معها بوصفها “الذات” أو “الشخصية” أو “الطبع”، وننظر إليه في لحظته الأولى قبل أن يمسّه الزمنُ أو يشكّله الانفعالُ أو تحرّفه التجاربُ المؤلمةُ أو تُطرّزه الأحلامُ والرغباتُ والمخاوف، يبدو أشبه بمرآةٍ صافيةٍ وشفافةٍ إلى الحد الذي لا تعكس فيه شيئًا إلا ما يُلقى فيها من إشعاعاتٍ أولى، تلك الإشعاعات التي تُسمّى “النية”، لأن النية هي أوّل ضوءٍ يدخل على مرآة الوعي قبل أن تتكاثر عليه الانعكاساتُ والصورُ والأوهام، ولأن الوعي لا يتحرك ولا يرى ولا يتخذ موقفًا ولا يبني تفسيرًا ولا يحكم على شيء إلا بعد أن تمنحه النية “الاتجاه”، تمامًا كما تحتاج الأشعة إلى زاوية السقوط كي يتشكّل الانعكاس، مما يجعل الوعي—في لحظته الأولية—ليس صانعًا للنية، بل مصنوعًا بها، وليس موجّهًا للاتجاه، بل موجَّهًا وفق الاتجاه الذي تضعه النية في عمقه.

 

وحين ننظر إلى عمليات الإدراك كما يصفها علم الأعصاب، نجد أنها ليست إلا مجموعة من الإشارات التي تتدفق على الدماغ من الحواس، لكن هذه الإشارات—بحسب بنيتها الفيزيائية—لا تحمل معنى، فهي لا تقول: “هذا جميل، هذا قبيح، هذا خير، هذا شر، هذا صديق، هذا عدو”، إنما هي اهتزازاتٌ كهربائيةٌ بلا مضمون، ولكن الوعي لا يستقبلها مجردة، بل يمرّرها أولًا عبر “مصفاة عميقة” اسمها النية، لأن النية هي التي تمنح الإشارةَ اتجاهًا ومعنًى ولونًا أخلاقيًا، فنية الحب تجعل الإشارةَ واحدةً تبدو جميلة، ونية الخوف تجعل الإشارة نفسها مرعبة، ونية التملك تجعل الشيء نفسه مرغوبًا، ونية الحرية تجعل الشيء ذاته عبئًا يجب التخلص منه، مما يبيّن أن الوعي لا يرى العالم كما هو، بل كما تبرمجه النية في العمق، وأن الوعي لا يختار الصورة ثم ينوي، بل ينوي أولًا ثم يرى الصورة، وأن الصورة الإدراكية ليست نتيجة العين، بل نتيجة النية التي تقول للعين ماذا تريد أن ترى.

أضف تعليقك

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)

تعليقات ( 0 )