مريم في القرآن الكريم: حين يلتف الكون حول نفسه

القرآن الكريم هو بناء عظيم، متكامل، ومتناسق في كل جزء منه. يحتوي على أسس متينة، أقواس رائعة وعمدان ثابتة، تشكل كلها معًا هيكلًا روحيًا وفكريًا واجتماعيًا لا يشوبه شائبة. يحمل كل غرفة وكل جناح وكل طابق في هذا البناء معنى خاصًا وجمالًا فريدًا.

في أعماق الفضاء اللامتناهي، يلتف الكون حول نفسه في رقصة لا تنتهي من الضوء والظلام. كل مجرة، كل نجم، كل كوكب يحمل في طياته أسرارًا وحكمًا تفوق فهم الإنسان. هكذا هو القرآن الكريم، الكتاب الذي يضيء الدروب ويهدي القلوب. إن ختزاله إلى مجرد أصل من أصول الفقه يشبه تقليل الكون اللامتناهي إلى نقطة واحدة فقط في الزمان والمكان.

إن غوص الإنسان في هذا البحر العظيم يعني السفر عبر الزمان والمكان، مستكشفًا الأفكار والمفاهيم التي تتعدى حدود الشرع والفقه. إنه يدعوك إلى تأمل الحياة والإنسانية والعلم والفلسفة.

كأشعة النجم التي تسافر عبر المجرات، تنبعث ألوان القرآن لتغطي كل جوانب الحياة. هو مصدر إلهام للفنان والعالم والفيلسوف والمؤمن على حد سواء. هو دليل على الحقيقة والجمال، ورحلة نحو فهم أعمق للإنسان والكون.

في كل آية، في كل سورة، يقدم القرآن عالمًا جديدًا ينتظر الاستكشاف. ليس هناك شاطئ يحد من هذا البحر، لا يوجد سقف يقيد هذا السماء. كل ما يحتاجه الإنسان هو الشجاعة للغوص والعقل للتأمل والقلب للإيمان.

من خلال دراسة الشخصيات القرآنية، نعمق فهمنا للأدوار والمعاني المختلفة التي يتم تصويرها في هذا البناء. كل شخصية هي بمثابة غرفة في هذا القصر، تحمل رسائلها ومعانيها الخاصة، تلك الرسائل التي تتجاوز الزمان والمكان.

هذا البحث والاستكشاف يوسع آفاق فهمنا ويعمق تفكيرنا وتأملنا في القرآن وتعاليمه. يشجعنا على القراءة بين السطور، وفتح أبواب الفهم التي قد تبدو مغلقة في البداية. وهو يرتقي بنا إلى مستويات أعلى من الفهم والتأمل والتقرب من الله. القرآن ليس مجرد نص ديني، بل خارطة كونية تربط بين الإنسان والكون. يوفر لنا نظرة عميقة إلى الوجود والواقع، ويعكس توازنًا ونظامًا يجمع بين العلم والروحانية، ويظلل كل جوانب الحياة.

في فلك الإيمان وعلى خريطة الحياة، تشرق مريم عليها السلام كشمس مشرقة في سماء القرآن، تنير العقول وترتقي بالأرواح. لها جمال يسحر الناظرين، وضوء يبعث الدفء في القلوب. إنها كقطعة نقية من اللؤلؤ تلمع في صفحات المصحف، تنبعث منها الحكمة والإلهام.

يتناول القرآن الكريم قصة مريم على مدار عدة سور، من سورة آل عمران وحتى آخر سورة القرآن الكريم، سورة الناس. في سورة آل عمران، نشهد بشرى الله لمريم بولادتها المباركة لعيسى عليه السلام، الذي يعتبر رمزًا للعظمة الإلهية وقوة الخالق.

تناول القرآن الكريم قصة مريم بطريقة متسلسلة ومتصاعدة، حيث يروي تفاصيل حياتها وصبرها في سورة آل عمران، ويستمر في سورة المائدة بإلقاء الضوء على معجزات عيسى عليه السلام وإعجاز خلقه، مع إشارة إلى تميزه برسالة الرحمة للبشرية.

ثم نجد سورة مريم، التي تروي قصة ولادة عيسى وعناية الله بمريم في هذه اللحظة العظيمة. تسرد القصة بأسلوب شيق ومثير، مع تركيز على قوة إيمان مريم واعتزازها بدورها العظيم في التصميم الإلهي لتعيد تجديد الإلهام والتأمل في عظمة الخالق وتدعونا للتأمل في أسرار الخلق والوجود.

تعتبر رواية مريم في القرآن الكريم جسرًا بين الأرض والسماء، بين الفاني والأبدي. هي دعوة للتأمل في الحياة كرحلة روحية مليئة بالعبر والحكمة، وللبحث عن الحقيقة في أعماقنا وفي كل جزء من هذا الكون العظيم.

إنها ليست مجرد قصة، بل هي خريطة، تدلنا على كيفية السير في هذا الطريق المعقد والرائع للوجود. في قلب كل إنسان، في عقل كل مفكر، في روح كل باحث، هناك مريم تنتظر أن تُكتشف.

لكن في بحور الثقافة ومياه العلماء، قد تغطى هذه الشمس بغيوم الجهل أو الإغفال، وقد يتحول هذا النور الساطع إلى نجم بعيد يحتاج إلى تلسكوب هابل لرؤيته. يبقى نورها هناك، موجودًا لكنه مخفي، مشرقًا لكنه غير ملحوظ.

تغييب دور مريم في الثقافة الإسلامية، وربطها بأمور سلبية في بعض الأحيان، يمكن أن يكون مظهرًا من مظاهر الصراع الإنساني والتفاعل الديني والثقافي. يشبه هذا التغييب بوضع تمثال جميل وعظيم في متحف مظلم، حيث يظل معظم الزوار يمرون بجواره دون أن يلحظوه.

يمكن تأمل التغييب كظاهرة تعكس الخوف والتحفظ والصراع الذي يمكن أن يكون جزءًا من التفاعل البشري. هو تعبير عن عالم معقد ومتداخل، حيث تتشابك الأيديولوجيات وتتصادم القوى وتتداخل المصالح.

هذا التحول من شمس مضاءة إلى نجم بعيد هو ليس فقدانًا للقيمة أو الجمال، ولكنه ضبابية تحجب رؤية ما هو ثمين وعظيم. هو تحدي للعقل ودعوة للبحث والتأمل، لنكشف عن هذه الشمس مرة أخرى ونرى نورها ونشعر بحرارتها، لنستلهم منها ما ينير دربنا ويغذي روحنا في رحلة الحياة. تغييب دور مريم في الثقافة الإسلامية يمكن تشبيهه بلوحة فنية رائعة تُخفى خلف الستائر، أو بمدينة جميلة تُغطى بالضباب. هو تجاهل لجوهرة ثمينة تنبعث منها الحكمة والجمال، لكنها تبقى مخفية عن أعين الكثيرين.

أو يمكن تشبيهه بأغنية جميلة لكنها تُعزف بصوت منخفض لا يستطيع الكثيرون سماعها. مريم عليها السلام، هي شخصية تجسد الصدق والإخلاص والثقة بالله، لكن تغييب دورها يشبه كأن نضع كتابًا غنيًا بالمعرفة على رف عالٍ بعيد عن متناول اليد.

إنه كجمع اللؤلؤ داخل صدفة مغلقة تحت أعماق البحر، حيث يبقى اللؤلؤ مخفيًا ولكنه لا يفقد من قيمته وجماله. كلما ازداد البحث والتفكر في شخصية مريم ودورها، كلما ازداد اكتشاف جمال هذه اللؤلؤة ولمعانها.

إن تغييب دور مريم يدعونا للتأمل في كيفية البحث عن الحقيقة والجمال في مكانها الصحيح، وعدم الرضاء بالأشكال الظاهرية والسطحية للفهم والمعرفة. هو تحفيز للبحث عن الجوهر والمضمون، واكتشاف أبعاد الحقيقة التي قد تكون مخفية ولكنها جزء لا يتجزأ من تراثنا وثقافتنا الإسلامية. تغييب دور مريم في الثقافة الإسلامية يمكن تشبيهه بحديقة سرية مترامية الأطراف، مليئة بالأزهار النادرة والأشجار العريقة، لكنها محاطة بجدار عالٍ لا يُرى ما وراءه. هي كواحة من الجمال والحكمة تنبت في قلب صحراء، لكنها مخفية عن الأعين ومغطاة بالرمال الزاحفة.

هي كالشروق الذي يحدث خلف الجبال، حيث يصل نوره الخافت فقط لمن يبحث عنه بإصرار وعمق.

تغييب مريم يشبه كتابة قصيدة عميقة بحبر شفاف على ورقة بيضاء، تحتاج إلى عين حادة وقلب متأمل لقراءة معانيها وفهم جمالها. هو كأن نجد لوحة فنية مبدعة معلقة في غرفة مظلمة، تنتظر شعاع الضوء الذي سيكشف عن جمالها وتفاصيلها.

إن تغييب دور مريم يدعونا للبحث وراء الواضح والظاهر، والتفكير فيما هو مدفون تحت سطح الوعي والثقافة. هو تحدي لنا لكشف الحقائق التي قد تكون مخفية ولكنها جزء لا يتجزأ من تراثنا وعقيدتنا، ولكشف عن الجمال والحكمة التي يمكن أن تضيء طريقنا في هذه الحياة.

(يتبع)

أضف تعليقك

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)

تعليقات ( 0 )