هل انتهت، فعلا، حروب الفرس والروم..!؟

رضوان السيد

منذ ما قبل بعثة النبي (صلى الله عليه وسلَّم) في نحو عام 610، وحتى عام 628 كانت الحروب لا تزال مشتعلةً بين إيران وبيزنطيا على مناطق النفوذ ما بين شرق الفرات (لإيران) وغربه (لبيزنطيا)، أو الروم كما كان العرب يسمونهم. وقد بلغ من فظاعة هذه الحرب، أو الحروب، وشهرتها أن القرآن الكريم ذكرها في مطلع سورة «الروم» حين بشّر بنصر الروم، بعد أن كان الفرس قد أرغموهم على الانسحاب من بلاد الشام، ووصلوا إلى القدس عام 614 وأخذوا صليب الصلبوت من «كنيسة القيامة». الطبري المؤرخ، بعد قرنين ونصف، يذكر عن رواته من أواخر القرن السابع الميلادي أنّ الفرس الغزاة كانوا قد قطعوا أشجار بساتين الزيتون الشاسعة بالشام في ما يشبه سياسة الأرض المحروقة.

كانت الإمبراطوريتان تتّبعان سياساتٍ مزدوجة، فتارةً تشن الجيوش الضخمة الحرب مباشرةً بعضها ضد بعض، وطوراً تستعينان بـ«حلفائهما» من العربِ (المقسومين بين الروم وفارس) والأرمنِ والبلغارِ (المحالفين لبيزنطيا). عام 628 استطاع البيزنطيون الوصول إلى المدائن عاصمة الساسانيين، واستعادوا الصليب ورجعوا به إلى القدس واحتفلوا بالنصر، في حين احتفل الفرس بإخراج الروم من عاصمتهم التي احتلّوها لفترة. وسادت هدنة بسبب ضعف الطرفين وإرهاقهما في الحرب الطويلة (602 – 628)، وما تجددت الحرب رغم العداء الشديد؛ لأنّ العرب الجدد تدخلوا بدءاً من عام 623، فأجلوا الروم عن الشام، وأزالوا خلال 20 عاماً الإمبراطورية الفارسية!

التاريخ لا يعيد نفسه، لكنه، وفق كارل ماركس، إذا حصلت تشابهات فإن المأساة (التراجيديا) تختلط فيه بالكوميديا.

يخيَّل لبعض المتابعين من أنحاء العالم أنّ رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، هو سيد الساحة. لكنّ الحقيقةَ أنّ رومَ العصر، الذين تمثلهم وتسودهم الولايات المتحدة، هم سادةُ الحرب الحقيقيون، ويريد الرئيس الأميركي، دونالد ترمب، أن يصبحوا أيضاً سادة السلم!

ومنذ الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 تمردت الجمهورية الإسلامية على التبعية للولايات المتحدة، وقالت إنها لا غربية ولا شرقية (!). وناوشتها أميركا طيلة أكثر من 40 عاماً؛ من خلال عراق صدّام حسين، وأكثر من خلال حليفتها إسرائيل؛ في حين عمدت إيران إلى مناوشة أميركا من خلال الميليشيات المسلحة التي أنشأتها بالعراق وسوريا ولبنان… واليمن. ثم ملّت أميركا أيام ترمب من سياسات الاحتواء والاستيعاب والمناوشة، وانتهزت فرصة هجوم الحليفة على الجمهورية الإسلامية بحجة «النووي»، فضربت إيران ضربةً صاعقةً في ليلةٍ واحدة، ثم طالبت الطرفين على قدم المساواة بوقف النار.

وبالطبع استجاب الطرفان بعد ترددٍ أكبر من جانب إسرائيل، فعمد ترمب إلى إعلان انتهاء الحرب وليس وقف النار فقط، بل وتجاوز ذلك إلى تبشير إيران بمستقبلٍ زاهر، والشرق الأوسط كله بزمنٍ جديدٍ تكون إسرائيل فيه آمنة ولا حروب ولا مَنْ يحزنون! إنّ من لا يصدّق ذلك فليتنبه إلى مظاهر الحرب «الحضارية» الجديدة: ترمب يعلن أنه أخبر إيران بالهجوم قبل وقوعه، وإيران تعلن أنها أخبرت أميركا بردّها. والطرفان يشكران ترمب على وساطته من أجل إحلال السلم، والجميع يشكرون دولة قطر للتقبل والوساطة (!).

ولكيلا يكون هناك شكٌّ في وقف النار أو في النصر أو الهزيمة يحتفل الإيرانيون والإسرائيليون على حدٍ سواء بالانتصار!
خانت الجميعَ «اللحظةُ الحضاريةُ» في حرب غزة. أما في حروب الثلاثة فبدت الحضارة بأجلى مظاهرها: كلٌّ منهم يُعلم الآخر بهجماته، ويطلب من المدنيين مغادرة ساحات الاشتباك. وإذا قيل: لكنّ القتل والتخريب ظلّا عظيمَي الوقوع، فالإجابة: صحيحٌ أنهما حصلا؛ لكنْ بعد استئذان!

هل انتهت الحرب، أو الحروب، كما ذكر ترمب؟ إيران شديدة التعب والإرهاق في بناها العسكرية والنووية والأمنية والعلمية، وقد جُرّدت أيضاً من أذرُعها التي بنتها بصبرٍ على مدى عقود. ولذلك؛ فإذا ضمن ترمب لها الحماية من غدرات الزمان، فإنها ستستكين، إنما بالطبع بعد مفاوضات صعبة والتوقيع على أوراق كثيرة تشمل «النووي» و«الباليستي» و«الأذرع الميليشياوية». أما إسرائيل المرهقة جداً من «حروب الانتصار»، فيغلب على الظن أن تستكين أيضاً إذا أمنت من جهة لبنان. لكن ستبقى لديها مشكلات إذا رأت أن ترمب سيمضي بعيداً في احتضان إيران الجريحة.

تضاءلت فارس، لكنها لم تسقط. أما الروم فلم يخسروا شيئاً، وهم شديدو الاعتزاز، وقد يكسبون إيران كما كسبوا سوريا! أمّا شرق أوسط السلام والازدهار فلا يزال بعيد المنال.

أضف تعليقك

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)

تعليقات ( 0 )