المساء اليوم - ع. الدامون: منذ اللحظات الأولى للإعلان عن اتفاق ما سمي "وقف إطلاق النار" في غزة، بدأ فلاسفة المصطلحات وأسود الورق في وسائط التواصل يناقشون موضوع "انتصار المقاومة"، وقالوا في بضعة أيام ما لم يقولوه طوال قرابة سنة ونصف من المذابح الإسرائيلية المروعة في حق أطفال ونساء غزة. طوال كل هذه المدة، وهي طويلة جدا بطول يوم الحشر، لم يتفوه الكثيرون بنصف كلمة، ولم تسعفهم شجاعتهم لإدانة ما يجري ولو بقلوبهم، وبلعوا ألسنتهم واعتبروا أن لغزة رب يحميها.. وكثيرون حولوا المقاومة إلى شيطان. طوال عام ونصف العام تكالب العالم كله على أهل غزة، وتقاطرت كل أنواع وأشكال الأسلحة المتوحشة من كل بقاع العالم نحو إسرائيل لكي تحول سكان غزة إلى لحم مفروم، بينما لم تتلق المقاومة ولو رصاصة، بل ولو نصف رصاصة من الخارج، إلى درجة اضطرت المقاومة إلى صنع قنابلها وذخائرها من مخلفات القنابل الهمجية الإسرائيلية.. وعدنا نتذكر هذه القصيدة: سقط القناع.. عن القناع.. عن القناع.. سقط القناع .. لا إخوة لك يا أخي،,, لاأصدقاء ! يا صديقي،,, لا قلاع ! لا الماء عندك، لا الدواء, لا السماء, ولا الدماء.. ولا الشراع ولا الأمام ولا الوراء.. حاصر حصارك .. .لا مفرُّ ! سقطت ذراعك فالتقطها ! واضرِبْ عدوك.. لا مفر .. وسَقَطْتُ قربك، فالتقطني ! واضرب عدوك بي، فأنت الآن حرٌّ حرٌّ وحرُّ قتلاك .. أو جرحاك فيك ذخيرة ! فاضرب بها ! اضرب عدوك..لا مفرُّ.. طوال 15 شهرا تواطأ الجميع على غزة، وتحول العالم إلى كتلة عملاقة من النفاق، وعاين الكون كله مذابح غير مسبوقة في تاريخ البشرية اقترفتها "الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط"، ونساء وأطفال يتم جمع أطرافهم قطعة قطعة، فالجيش الذي لا يقهر يختار أعداءه جيدا حتى لا يقهر.. وأنسب عدو للجبناء هم الأطفال والنساء. طوال كل هذه المدة عاينا كل أنواع الجبروت والخذلان والنفاق، وأصبح الموت في غزة مسألة وقت فقط، وقالت دراسة إن 96 في المائة من أطفال غزة يعتقدون أنهم سيموتون قريبا جدا.. وأن موتهم محتوم.. فهو مسألة وقت فقط! هذا شيء غير مسبوق في تاريخ البشرية، وفي النهاية، ومع كل هذه التضحيات الأليمة جدا.. جدا.. لا تزال الابتسامة ترتسم على وجوه الغزيين، ولا يزال الأمل معششا بينهم.. ولا يزال الأطفال قادرين على الحلم.. الحلم بالانتصار.. حتى لو كان بعيدا.. وهذا هو المعنى الحرفي لانتصار المقاومة. بعد كل هذا ينبري رهط من فلاسفة المزابل لكي يناقشوا مبدأ انتصار المقاومة، وكأنهم كانوا ينتظرون أن تكتسح المقاومة الفلسطينية تل أبيب ويافا وترفع الراية الفلسطينية فوق سطح الكنيست..! ولنفترض أن المقاومة انهزمت.. هل ساندتم هذه المقاومة في "هزيمتها" حتى تجادلوها في انتصارها..!؟ سميت المقاومة مقاومة لأنها تقاوم، والمقاومة في حد ذاتها انتصار كبير، وكل من يقاوم له هدف واحد: أن يبقي جذوة الأمل مشتعلة في نفوس من يأتون بعده، لأنه يعرف أنه سيموت بالجسد فقط.. والمقاومة روح وإيمان وليست جسدا. اليوم ينبري الأغبياء ليناقشوا مصطلح الانتصار، وكأنهم كانوا يبعثون أسلحة للمقاومة فتعيد بيعها..! أو كأن المقاومين هربوا من الجبهة واصطفوا أمام السفارات والقنصليات الأجنبية للهجرة.. أو كأن المقاومة وعدت بأسر مجرمي الحرب وأخلفت وعدها..! المقاومة انتصرت.. والمنهزمون الوحيدون هم نحن.. كلنا انهزمنا حتى لو كنا من أشد المتعاطفين مع المقاومة.. انهزمنا لأننا بقينا كل هذه المدة نتفرج كالأشباح على معاناة بشرية لم يسبق لها مثيل.. وستظل ضمائرنا تؤنبنا إلى الأبد.. وستلاحقنا لعنة الخذلان أبد الآبدين.