أسلمة الشيطان بالشريعة ضد القرآن… فصار سلفيًا

ياسين الطالبي

ليس في وسع أي نص أن يبدأ بداية هادئة حين يكون المقصود هو هزّ الأسس التي يقوم عليها وعي أمةٍ كاملة، وليس من الحكمة أن نبدأ بالقشور حين نريد أن نصل إلى لبّ الحقيقة الذي هُجِر طويلًا، فالحقيقة هنا لا تحتاج إلى مقدمات ولا إلى تدرج، بل إلى صدمةٍ مباشرة تُخرج القارئ من طمأنينته المصطنعة وتضعه أمام امتحان لا فكاك منه، امتحان يجعل من قراءته هذه الصفحات حدثًا وجوديًا لا مجرد مطالعَة فكرية، والصدمة التي لا بد من إعلانها منذ اللحظة الأولى هي: إن الدين الذي بين أيدينا اليوم، دين الطقوس والفتاوى والمرويات والسلطات، ليس هو دين القرآن الذي نزل من السماء، بل هو دين بشري مُصنّع، جرى بناؤه في معامل الفقهاء ومشاتل السلطة، ثم أُلبس غشاءً إلهيًا رقيقًا كي لا يجرؤ أحد على مساءلته، وحُمل اسمًا ثقيلًا مهيبًا صار هو كلمة السرّ في استعباد العقول: الشريعة.

إنّ الدين القرآني كما أُنزل لم يكن منظومة قوانين جامدة ولا سلاسل طقوسية صمّاء، بل كان نداءً للتحرر من الأصنام المرئية واللامرئية، وفتحًا لأفق العقل كي يتدبر ويختار ويُسائل، ودعوةً إلى الرحمة التي تُعيد للإنسان إنسانيته: «لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي»، «وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين»، «أفلا تعقلون». لكنه ما لبث أن أُحكمت حوله طبقات كثيفة من التفسيرات والمرويات والأحاديث والفتاوى، حتى حُوصر النص الأصلي، وغُطّي وجه الوحي بوجهٍ بشري صُنع ليتكلم باسمه، بل ليحلّ محله، فغدا القرآن في الممارسة اليومية مجرد شاهد يُستدعى لتزيين الفتوى، بينما صارت الفتوى هي الوحي الفعلي، والشريعة هي الدين الذي يُطبَّق، والدين القرآني أُقصي إلى الزينة الخطابية في المحافل والمناسبات.

وهكذا تحققت اللعبة الكبرى: لم يأت الانحراف من خارج الدين بل من داخله، لم يكن في صورة رفض للوحي بل في صورة طاعةٍ عمياء لما قيل إنه الوحي، ولم يكن في ترك الدين بل في استبداله بنسخة بشرية أكثر قسوة وأشد انغلاقًا، نسخةٍ تُقدَّم على أنها عين الدين، حتى إذا سأل السائل: من كتب؟ ومتى؟ وكيف؟ وأين الأصل؟ جاءه الجواب لا بالبرهان بل بالاتهام، لا بالحجة بل بالوعيد، لا بالوثيقة بل بالإجماع، وكأن السؤال في ذاته فتنة، وكأن الشكّ ليس فعلًا معرفيًا بل خروجًا عن الجماعة.

إن الشريعة كما بين أيدينا لم تُبْنَ على حضور النص بل على غيابه، لم تُسند إلى أصلٍ ماديٍّ بل إلى ثقةٍ جمعية تُردَّد حتى تصير يقينًا، لم تقم على قراءة القرآن بل على إغلاقه خلف ستارٍ من الأحاديث المنسوبة، والمذاهب الموروثة، والقصص الأسطورية عن أئمةٍ لم نرَ كتبهم الأولى ولا خطوط تلامذتهم، بل وصلتنا نصوصهم بعد قرون، مكتملة كما لو نزلت من السماء، محصنة ضد السؤال، حتى غدا الغياب ذاته هو الأصل، وغدا الفراغ هو الحارس الأشد صلابةً من أي وثيقة. ومن هنا فإن الشريعة ليست “خطأً في الفهم” بل هي دين بشري مصنع، دينٌ اختلط فيه التاريخ بالأسطورة، والسلطة بالقداسة، والبشري بالإلهي، حتى لم نعد نميز الأصل من الصورة، فعبدنا الصورة باسم الأصل.

والمأساة أن هذا الدين المصنع، بقدر ما وفر للسلطة أدوات السيطرة، وفر للشيطان فرصة انتصاره الأكبر: أن يهدم الدين باسم الدين، وأن يربح ضربة مزدوجة لم يحلم بها؛ فمن جهة، خلق مجتمع المنافقين الذين يعيشون الطقوس ظاهرًا بينما يمارسون الظلم والفساد باطنًا، إذ غدا الدين عندهم مجرد مسرحية اجتماعية لا علاقة لها بالصدق الوجودي؛ ومن جهة أخرى، دفع الأحرار الذين رفضوا هذه المسرحية إلى الإلحاد، لا لأنهم كرهوا الله، بل لأنهم لم يجدوا في الصورة المفروضة إلا قهرًا باسم الله، فهربوا من الدين المصنع واعتقدوا أنهم هربوا من الله ذاته. وبين هؤلاء وهؤلاء بقيت فئة ثالثة منبوذة، حاولت العودة إلى القرآن، فاتهمت بالفتنة والزندقة والقرآنية، لأنهم لم يركعوا للشريعة البشرية.

ولذلك، فإن إعلان الصدمة ليس ترفًا معرفيًا، بل شرط وجودي لا بد منه: أن يُدرك القارئ منذ البدء أنه أمام امتحانٍ مزدوج، امتحانٍ يكشف حقيقة الدين الذي بين يديه وحقيقة نفسه هو؛ هل يختار الطمأنينة الزائفة التي تمنحه الأمان وسط الحشد لكنها تحرمه من الحرية؟ أم يختار مواجهة الحقيقة التي قد تعريه وتفقده مكانه بين الصفوف لكنها تردّه إلى الله بلا وسيط؟

أيها القارئ، إنك في هذا العمل لن تجد دروسًا وعظية ولا تكرارات مملة، بل ستُوضع أمام مرآة حادة لا تعكس لك صورتك المريحة بل حقيقتك المزعجة؛ ستُساق إلى مواجهة الغشاء الإلهي الرقيق الذي غلّف به البشر صنيعهم حتى صار الدين دينًا بشريًا اسمه الشريعة، وستُدعى لأن تختار: إما أن تبقى في الحلم المريح الذي صنعته القرون، أو أن تستيقظ على الصدمة التي قد تهزّك لكنها تُحررك.

هذا الكتاب إذن ليس بحثًا في الفقه ولا تأريخًا للشريعة ولا جدلًا مذهبيًا بين فرق متصارعة، بل هو إعلان صريح عن لعبة كبرى لم يجرؤ أحد على تفكيكها بوضوح: لعبة تغليف البشري بغشاء إلهي حتى يغدو أقدس من الوحي نفسه، لعبة تحويل الغياب إلى حضور، والتكرار إلى يقين، والخوف إلى عقيدة، لعبة الشيطان التي انتصرت بالشريعة على الدين، فأعادت صياغة الإسلام في صورة بشرية مطلقة، وأخفت القرآن وراء حجابٍ من صنع البشر، ليصبح السؤال عن الأصل جريمة، والبحث عن الله خيانة.

هذا العمل ليس دعوة إلى رحلة فكرية عابرة ولا إلى مطالعة أكاديمية محايدة، بل إلى امتحانٍ يقتلع الطمأنينة المصطنعة من جذورها ويضعه وجهًا لوجه أمام السؤال الذي لا يملك أن يهرب منه، لأنه سؤال وجوده نفسه: أي دين أعيش؟ أهو دين الله كما أنزله في القرآن، أم دين البشر الذي صُنع باسم الله وسُمِّي “الشريعة” ليغدو الغطاء الأكثر رقةً وإقناعًا وأخطرها في آن؟

ولأن الامتحان الوجودي ليس مجرد خيار معرفي بل قرار مصيري، فإنه لا يُختبر بالعقل وحده، بل بالقلب والضمير والجرأة، إذ ليس السؤال هنا: “هل تفهم؟” بل “هل تجرؤ أن ترى؟”، ولا يُقاس النجاح فيه بالقدرة على الحفظ أو الاستظهار، بل بالاستعداد لأن تُعرّي نفسك من كل يقين ورثته، وأن تواجه حقيقة أن الدين الذي بين يديك لم يعد هو الدين الذي أنزله الله، بل دينًا بشريًا مُصنَّعًا، بُني من روايات وأساطير ومرويات وأحكام وتفاسير وتآويل، ثم غُلِّف بغشاء إلهي رقيق يُعطيه قداسة تمنع مساءلته، لا لأنه يستحقها في ذاته، بل لأنه يحتاجها ليستمر.

إن الامتحان الذي يُعرَض عليك هنا لا يقبل المواربة، لأنه امتحان في الصميم: إما أن تختار الطمأنينة الزائفة، تلك الطمأنينة التي تمنحك الشعور بالأمان وسط قطيع يردد دون أن يفكر، طمأنينة الطقوس المكررة التي تطمئن إليها النفوس الكسلى لأنها تعفيها من حمل مسؤولية التفكير، طمأنينة الانتماء لجماعة كبيرة لا تسألك إلا أن تتبع وتردد، حتى لو كان ما تردد لا يمتّ إلى الوحي بصلة، فتبقى داخل الأسوار محميًا من العاصفة لكنك محمي أيضًا من الحرية؛ أو أن تختار المواجهة، مواجهة الحقيقة التي قد تهز كيانك وتُفقدك مكانك بين الصفوف وتُحمّلك ثمنًا نفسيًا واجتماعيًا وربما حياتيًا، لكنها وحدها تعيدك إلى معنى الدين الذي نزل ليحرر الإنسان لا ليأسره، ليمنحه العقل لا ليصادره، وليجعله يقف أمام الله مباشرة بلا وسطاء، لا ليجعله عبدًا للشريعة التي صاغها بشر وتوارثوها كما تُوارَث الأساطير.

ولأن الامتحان الوجودي امتحان مزدوج، فهو يكشف حقيقتين في آن: حقيقة الدين الذي بين يديك وحقيقة نفسك أنت؛ فإذا اخترت الطمأنينة الزائفة، فأنت لم تحافظ على الدين بل على صورتك المريحة عنه، ولم تتمسك بالوحي بل بسلطة الشريعة التي تغلفه، فأنت إذن مندمج في مجتمع المنافقين الذين يعيشون الطقس دون الروح، أو مجتمع الخائفين الذين يعبدون الغشاء أكثر مما يعبدون الله، أو مجتمع المطمئنين بالعادة الذين لا يسألون لأن السؤال يُربكهم أكثر مما ينيرهم؛ أما إذا اخترت مواجهة الحقيقة، فأنت تستعيد نفسك قبل أن تستعيد دينك، لأن الدين الحق لا يسكن في الكتب وحدها، بل في لحظة المواجهة التي تقول فيها: لن أخاف من السؤال، ولن أقدس غيابًا لمجرد أن الجميع يخافون من مسّه، ولن أقبل أن أكون عبدًا لبشر صاغوا لي شريعة ثم ألبسوها لباس الله.

إن الامتحان هنا ليس اختبارًا في الاعتقاد بل اختبارًا في الشجاعة: هل تملك أن تقف أمام الله بوجهك لا بوجه الجماعة؟ هل تستطيع أن تتحمل وحدتك حين ينفض الناس عنك لأنك لم تكرر ما يكررون؟ هل تستطيع أن تقبل أن تُوصم بالزندقة أو الكفر أو القرآنية أو الفتنة، وأنت تعلم أن كل تلك الألقاب ليست إلا أسلحة دفاعية يحمي بها النظام نفسه من أي عين ترى هشاشته؟ إن الذي يدخل هذا الامتحان لا يخرج منه كما دخل، لأنه يكتشف أن أكبر عدو له لم يكن الشيطان الخارجي بل الطمأنينة الداخلية، لم يكن النص البشري في ذاته بل الغشاء الإلهي الذي ألبسوه إياه، لم يكن القهر السلطوي بل رضاه هو بالسكوت، وقبوله بأن يعيش في الظل طالما ظلّ اسمه مكتوبًا في دفاتر الجماعة.

ولذلك فإن الامتحان الوجودي لا يُخاطب عقلك فقط، بل يُحاصرك بكاملك: إما أن تبقى حيث أنت، داخل الطمأنينة الزائفة التي تمنحك مكانًا دافئًا لكنها تجردك من حقيقتك، أو أن تخرج إلى فضاء الحقيقة الذي قد يُعرّيك لكنه يمنحك أخيرًا كرامتك. وفي هذه النقطة بالذات، يُصبح الصمت خيانة، ويُصبح التردد نفاقًا، لأنك تعلم أن الذي تعيشه ليس الدين الذي نزل، بل الدين الذي صُنع، دين الشريعة، الدين البشري الممهور بختم الله زيفًا، الدين الذي هو في جوهره قيد لا رسالة، واستبداد لا رحمة.

إن الامتحان الوجودي لا يُطرح مرة واحدة ثم ينتهي، بل يتكرر في كل صلاة تصليها وأنت لا تفكر في معناها، في كل آية تقرؤها وأنت تسرع لتفسرها بما قاله فلان لا بما تقوله هي، في كل حكم تُسلّم به وأنت تعرف أنه لا أصل له في الوحي، لكنه مغطى بالغشاء الإلهي الذي يُرهبك، في كل لحظة تختار فيها الأمان وسط الحشد على أن تواجه الله وحدك. فاختر الآن قبل أن تواصل القراءة: أي الطريقين تريد أن تسلك؟ الطمأنينة الزائفة التي تحميك من المجتمع لكنها تحرمك من الله، أم مواجهة الحقيقة التي قد تحرمك من المجتمع لكنها تفتح لك باب الله بلا وسيط؟

هذا هو الامتحان: أن تُدرك أن الدين الذي بين يديك دين بشري مُصنَّع اسمه الشريعة، وأنك إن قبلت به بلا مساءلة فأنت تختار أن تكون عبدًا للبشر باسم الله، وإن رفضته فأنت تختار أن تكون عبدًا لله ولو وقف البشر كلهم ضدك.

حين نفتح أعيننا على الدين الذي بين أيدينا اليوم، نجد أنفسنا أمام مشهد ملتبس حدّ الارتباك: دينٌ يُرفع على المنابر ويُدرَّس في الجامعات وتُستمد منه الفتاوى والقوانين، لكنه في جوهره لا يشبه الدين الذي جاء به القرآن، ولا يعكس الروح التي بُعث بها النبي؛ بل هو بناءٌ بشريٌّ مُعقد اسمه الشريعة، جرى تقديمه للأمة في ثوبٍ مهيب حتى خُيِّل للجميع أنه الوحي ذاته، مع أنه ليس سوى منتوجٍ بشريٍّ صُنع في ورشات السياسة، ونُسج في أروقة السلطان، وغُلِّف بغشاء إلهي رقيق ليُمنع الناس من مساءلته أو الاقتراب من بنائه.

هذه الحقيقة، لو قيلت مباشرةً، تُفزع القلوب وتثير الغضب، لأنها لا تهزّ كتابًا أو فصلاً، بل تضرب في الصميم عمودًا أساسيًا من أعمدة الوعي الجمعي للمسلمين. ولكن الصدمة هنا ليست غاية في ذاتها، بل ضرورة لازمة، لأن ما بُني عبر قرون من التكرار والرهبة لم يعد يقبل النقد إلا عبر زلزال معرفي يكشف اللعبة الكبرى: كيف تم تحويل الدين من خطاب حرّ مفتوح على العقل والضمير، إلى منظومة مغلقة اسمها “الشريعة”، تتكئ على كتب لا أصل مادي لها، ووقائع لا سند لها، وإجماعات لا يُعرف من أمضاها ولا متى.

لقد انتصر الشيطان، لا حين جرّ الناس إلى الكفر الصريح، بل حين لبس ثوب الإيمان وصار “فقيهًا” و”محدثًا” و”شيخًا” يوزع الفتاوى باسم الله، فيحوّل الوحي إلى سوطٍ للهيمنة، والدين إلى مسرحية جماعية من الطقوس، ويحقق بذلك انتصارين في ضربة واحدة:

انتصار مجتمع المنافقين: حيث يغدو الدين قشرة بلا لب، طقوس بلا جوهر، شعارًا علنيًا يقابله ظلمٌ وبؤسٌ في السر.

انتصار مجتمع الملحدين: حيث يرى الأحرار أن هذا “الدين” المفروض عليهم ليس سوى استبداد باسم الله، فيرفضونه جملة وتفصيلاً، لا لأنهم كرهوا الله، بل لأنهم لم يجدوا الله في الصورة المقدمة لهم.

بهذا، لم يعد الصراع بين إيمان وكفر، بل بين دين قرآني أصيل ما زال في كتاب الله، ودين بشري مصنع اسمه الشريعة، وُلد من رحم الغياب، وعاش على الخوف من السؤال، وترعرع في حضن السلطة، حتى صار هو “الدين الرسمي” الذي يُكفَّر من يعترض عليه.

إن أخطر ما في هذه الهندسة ليس أنها أفرزت نصوصًا بلا أصل، بل أنها ربّت أجيالاً كاملة على أن التسليم فضيلة، وأن السؤال خيانة، وأن البحث عن الوثيقة جريمة في حق الأمة. فتحوّل الغياب إلى حضور، والفراغ إلى قداسة، والتكرار إلى برهان. ومن هنا صار الدين الذي بين أيدينا، في بنيته التاريخية لا في جوهره القرآني، أشبه بمولٍ ديني ضخم: لكل شريحة منتج يناسبها، من شريعة للسلفيين، إلى تصوف للروحانيين، إلى فلسفة للمثقفين، إلى مرويات فقهية للمشرّعين، وكأن الدين نفسه صار سوبرماركت رمزي يوزع البضائع الروحية في عبوات مُغلَّفة مسبقًا.

إن هذه الموسوعة لا تأتي لتزيد الطين بلّة، ولا لتطرح شكًّا مجرّدًا، بل لتضع القارئ أمام امتحان وجودي لا مهرب منه:

هل سيختار الطمأنينة الزائفة التي تمنحها الشريعة المصطنعة؟

أم سيواجه الحقيقة الموجعة التي تقول إن الدين القرآني لم يُعطَ له بعد فرصة أن يحكم، لأنه حُجِب بعمامة الفقهاء وظلال المرويات؟

إنها رحلة شاقة، لكنها لازمة، لأن السؤال هنا ليس: هل أخطأ البخاري أو الشافعي أو أحمد؟ بل: هل الدين الذي بين أيدينا هو حقًا دين الله، أم دين الشيطان وقد صُنع باسم الله؟

بهذا السؤال تفتح هذه الموسوعة أبوابها، لا لتغلقها على أجوبة جاهزة، بل لتصنع فراغًا يُجبر القارئ على التفكير من جديد، في مواجهة ذاته، وتاريخه، وإيمانه، وهويته. فالإيمان الذي لا يُمتحن بالسؤال ليس إيمانًا، بل استسلامًا.

 

حين انتصر الشيطان بالشريعة على الدين

لحظة الانقلاب

حين نفتح القرآن ببراءته الأولى، ونسمعه يتحدث عن الله رحيمًا، كريمًا، قريبًا، «وإذا سألك عبادي عني فإني قريب»، ونقرأه يرفض الإكراه ويجعل العقل مناط الخطاب، ويؤسس لدينٍ يقوم على الحرية الفردية، والمسؤولية الذاتية، والكرامة الإنسانية، ندرك أن ما بين أيدينا الآن ليس امتدادًا طبيعيًا لهذا الوحي، بل انقلابًا جذريًا عليه، انقلابًا لم يأتِ من خارج الدين كما توهّمنا طويلًا، بل وُلد في داخله حين استُبدل الوحي بالفقه، والقرآن بالمرويات، والدين بالشريعة، فتحول الخطاب الإلهي المفتوح إلى بناءٍ مغلق، وتحوّل الامتحان الفردي الحرّ إلى طقوس جماعية مرسومة، وصار المؤمن الحقيقي غريبًا في قلب دينه، مطاردًا بتهمة الخروج، مع أن خروجه الوحيد كان خروجه من أسر الشريعة إلى أفق القرآن.

إن هذه اللحظة – لحظة الانقلاب – لم تكن مجرد انحراف طارئ في مسار الفكر، بل كانت ولادة منظومة جديدة تمامًا، منظومة لا تُقاس على الدين بل تُقاس بالسلطة، ولا تُبنى على الوحي بل تُبنى على التكرار الجمعي، حتى صار الغياب نفسه – غياب النصوص الأصلية، غياب الوثائق المباشرة، غياب البدايات – هو الأصل الذي بُني عليه كل الحضور، وصارت الشريعة أشبه بهيكل عظيم شُيّد على فراغ، لكنه فراغٌ صُمّم بعناية ليكون محروسًا بهالة من القداسة، بحيث لا يجرؤ أحد أن يقول: أين الأساس؟ لأن السؤال في ذاته أضحى خروجًا على الجماعة.

وهكذا، لم يعد الدين في التجربة التاريخية للمسلمين مشروعًا مفتوحًا يربط الإنسان بربه مباشرة، بل صار منظومة سلطوية يتوسط فيها الفقيه، ويحتكر التأويل، ويُشرعن سلطات سياسية واقتصادية واجتماعية، ليصبح الشيطان، لا ككائن غيبي بل كبنية رمزية، هو المنتصر الأكبر: إذ لم يحتج إلى إلغاء الدين، بل اكتفى بتشويهه وتغليفه باسم الشريعة، حتى انقلبت الموازين وصار الوحي تابعًا للفقه بدل أن يكون الفقه تابعًا للوحي، وصار الدين قرينًا للسلطة بدل أن يكون ملاذًا للحرية.

إن هذه اللحظة ليست ماضٍ مضى، بل هي الحاضر المستمر، إذ ما زلنا نعيش في فضاء ديني لا يقاس بقدر ما يقاس بالرهبة، لا يُفكّر فيه بقدر ما يُتلى، ولا يُسائل فيه العقل بقدر ما يُصمت، وحين نتساءل: لماذا تشرذم المسلمون رغم ما بأيديهم من خيرات؟ فإن الجواب لا يكمن في السياسة وحدها، ولا في المؤامرات الخارجية كما يحلو للبعض أن يكرر، بل في هذه اللحظة المؤسسة نفسها، لحظة الانقلاب من دين القرآن إلى دين الشريعة، من حرية الإيمان إلى قهر الفتوى، من نور الوحي إلى ظلام التقديس البشري.

المجتمع الذي وُلِد من الانقلاب

إذا كان الانقلاب الأول قد وقع في النصوص، حيث ارتدى البشري غشاءً إلهيًا رقيقًا حتى بدا للوهم أنه وحي، فإن الانقلاب الأعمق وقع في المجتمع، إذ ما إن انتصرت الشريعة على الدين حتى وُلد كيان اجتماعي جديد، كيان لا يقوم على الإيمان الحرّ ولا على الضمير الفردي، بل على هندسة دقيقة للولاء والطاعة، فصار الدين – الذي كان يفترض أن يكون محرّرًا للإنسان – هو السوط الذي يُجلده، والوصاية التي تُعطّل عقله، والمرآة التي لا يرى فيها الله بل يرى فيها صورة الفقيه الذي نصّب نفسه ظلًّا للسماء.

وهذا المجتمع – الذي يمكن تسميته مجازًا “مجتمع الشريعة” – لم يكن كيانًا واحدًا متجانسًا، بل بنيته الداخلية انشطرت إلى ثلاث طبقات كبرى:

طبقة المنافقين: الذين وجدوا في الطقوس الظاهرية ملاذًا اجتماعيًا، فمارسوا شعائر الدين في العلن بينما باعوا ضمائرهم في السر، حتى صار النفاق بنية لا مجرد مرض فردي، وصارت المصلحة هي الدين، والشعار هو البرهان، والازدواجية هي الأصل.

طبقة الملحدين: الذين نظروا بعين حرة إلى هذا الدين المصنوع، فرأوا فيه قهرًا واستبدادًا باسم الله، فرفضوه جملة وتفصيلاً، لا لأنهم جحدوا الإله الحق، بل لأنهم لم يجدوا أثره في المسرحية المكرّسة أمامهم، فكان إلحادهم في جوهره تمرّدًا على الاستبداد لا على الله.

طبقة المنبوذين: وهم أولئك الذين تشبثوا بالقرآن أصلًا، ورفضوا أن يساووا بين الوحي والمرويات، فاتهموا بأنهم “قرآنيون”، ووُسموا بالخروج عن الجماعة، وأُقصوا من الخطاب العام، لأنهم – بمجرّد وجودهم – يفضحون اللعبة الكبرى، ويكشفون أن الدين الذي بين الأيدي ليس هو الدين الذي في الكتاب.

بهذا التوزيع، تحقق للشيطان انتصار لم يحققه في أي أمة من قبل: لم يُلغِ الدين، ولم يُبدّد الإيمان، بل أبقى على صورة الدين وأفرغ جوهره، حتى صار الناس يتنازعون حول الشريعة لا حول القرآن، ويتقاتلون على المذاهب لا على القيم، ويكفّر بعضهم بعضًا في اسم إله واحد، ويُقيمون الطقوس بانتظام بينما تنهار العدالة والرحمة في صميم حياتهم.

ولم يكن هذا المجتمع صدفة تاريخية، بل كان نتاجًا مُبرمجًا، إذ أدركت السلطة أن الدين إذا تُرك حرًا كما أنزل الله فإنه يهدد كل أشكال الاستبداد، لأنه يجعل الإنسان مسؤولًا أمام ربه وحده، لذلك كان لا بد من صناعة دين بديل، دين قابل للتطويع، دين اسمه الشريعة، يُعطي للحاكم شرعية، وللفقيه سلطة، وللناس وهمًا بأنهم متدينون، بينما الحقيقة أنهم أسرى في قفصٍ مقدس.

وهكذا، لم يعد الانحراف مجرد مشكلة معرفية، بل أصبح بنية اجتماعية كاملة: مجتمع يُقسّم الناس إلى منافقين يستفيدون من اللعبة، وملحدين يرفضونها، ومنبوذين يفضحونها، وبين الثلاثة يتآكل جسد الأمة، فيبقى الدين الذي جاء ليحررها مُختطفًا باسم الشريعة، ويبقى القرآن غريبًا بين أهله.

آليات الانتصار – من المرويات إلى الطوطم

لم يكن انتصار الشريعة على الدين وليد صدفة، ولا مجرد تراكم عفوي للنصوص والروايات، بل كان ثمرة آليات دقيقة صُممت بعناية، حتى يتمكّن النص البشري من أن يتقدّم على النص الإلهي، ويغدو المرجع الحقيقي للدين، بينما القرآن ينزوي إلى الخلف، يُتلى في الجنائز والمناسبات، ويُزيَّن بالتلاوة لا بالاحتكام، ويُحفظ في الصدور دون أن يُحكَّم في الواقع.

الآلية الأولى كانت اختراع المرويات:

إذ لم يكن كافيًا أن يُقال “هذا اجتهاد بشري”، بل لا بد أن يُقال “قال رسول الله”، ليكتسب النص شرعية مطلقة لا يمكن ردها، وهنا تحوّلت الكلمة البشرية إلى وحيٍ ثانٍ، ليس عبر سند حقيقي بل عبر سلسلة من الثقة المكرورة، حتى غاب الأصل ولم يبق سوى ما قيل إنه الأصل.

الآلية الثانية كانت هندسة السرد البطولي:

فكل كتاب أُريد له أن يكون طوطمًا، صيغت حوله أسطورة: صاحب نبوغ مبكر، رحلات طويلة في طلب العلم، اضطهاد من الحاكم أو العلماء، رؤيا أو منام يؤكد اختياره من السماء، ثم انتصار ساحق في النهاية حيث يُقدّم كتابه كأصحّ كتاب بعد القرآن. هكذا جرى الأمر مع البخاري، مع الشافعي، مع أحمد بن حنبل، وكأن هناك كاتبًا واحدًا يكتب السيناريو نفسه لكل إمام، لتغدو الحكاية أعظم من النص، ولتتحول السيرة الأسطورية إلى غشاء يحمي الكتاب من النقد.

الآلية الثالثة كانت إعادة تعريف القداسة:

فلم تعد القداسة مرتبطة بالوحي المنزل، بل صارت مرتبطة بما “تلّقته الأمة بالقبول”، أي بما تكرّر حتى صار عادة، وبما أجمعت عليه الجماعة خوفًا من الفراغ، حتى صار التكرار نفسه وثيقة، وصار السكوت العام برهانًا، وصارت الشهرة حُجة، وكأن الإيمان لم يعد متعلقًا بما قال الله، بل بما اتفق الناس على أنه قيل عن الله.

الآلية الرابعة كانت التخويف الرمزي:

فمن يجرؤ على السؤال يُتهم بالفتنة، ومن يشك يُوسم بالكفر، ومن يقول “دعونا نحتكم إلى القرآن” يُنبذ بوصفه “قرآنيًّا”، أي مارقًا، وكأن العودة إلى النص الإلهي نفسه صارت خروجًا عن الدين، لأن الدين الحقيقي لم يعد دين القرآن، بل دين الشريعة، أي الدين البشري المعلَّب والمكرَّس، الذي صار هو الحارس الرسمي لكل ما تبقى من سلطة الوحي في المخيال العام.

بهذه الآليات الأربع – المرويات الملفقة، السرد البطولي، القداسة الجماعية، والتخويف الرمزي – تحققت المعجزة الشيطانية الكبرى: دين بشري صُنع في المختبرات التاريخية، غُلّف بغشاء إلهي رقيق، ثم رُفع إلى مقام المقدس، حتى صار أكثر حضورًا من الوحي، وأشد سطوة من القرآن، وأقدر على التحكم في العقول والضمائر من أي نص إلهي نزل حقًا.

وبهذا، لم يعد الأمر مجرد انحراف في التأويل، بل هندسة كاملة للوعي، تُحوّل النصوص الغائبة إلى طواطم حاضرة، وتحوّل الغياب إلى حضور، وتحوّل الدين من رحمة للعالمين إلى شريعة للبشر، ومن خطاب تحريري إلى آلة ضبط وقهر.

المؤسسة – التحالف المظلم بين الشريعة والسلطة

إذا كان انتصار الشريعة على الدين قد بدأ في النصوص، ثم تَجسّد في المجتمع، فإنه لم يكن ليستقرّ ويتمدّد لولا أن احتضنته السلطة السياسية، وباركته، ورفعته إلى مقام الحارس الرسمي للدولة، بحيث أصبح الدين المصنع لا مجرد خطاب وعظي، بل دستورًا يُملي الطاعة، وأداة تُقمع بها المعارضة، ومخزنًا جاهزًا للشرعية يمنحها الحاكم لنفسه كلما اهتز عرشه أو تزلزلت سلطته.

منذ لحظة الدولة الأموية، ثم في ذروتها العباسية، لم يعد الحاكم مجرد أميرٍ للمؤمنين، بل صار “ظل الله في الأرض”، وتحوّلت الخلافة من وظيفة سياسية إلى وظيفة لاهوتية، واحتاجت هذه الوظيفة إلى نصوص تبرّرها وتسوّغها، نصوص لا تُسائل الحاكم بل تُحصّنه، لا تدعو للعدل بل تُزيّنه، لا تحمي الإنسان بل تُخدّره، وهنا كان الدور الخطير للشريعة المصنوعة.

لقد تواطأت المؤسسة السياسية مع المؤسسة الفقهية على أساس صفقة واضحة:

يمنح الفقيه للحاكم شرعية دينية، فيصوغ له فتاوى “طاعة ولي الأمر”، ويُلبسه هالة القداسة، حتى لو ظلم أو سفك الدماء.

ويمنح الحاكم للفقيه سلطة معرفية، فيترك له المجال ليُسيطر على عقول الناس، ويُنظّم حياتهم الخاصة، ويُعرّف لهم الحلال والحرام، مقابل أن يضمن ولاءهم السياسي للنظام القائم.

بهذا التحالف، وُلد “المعبد السلطوي”، حيث المنبر والخطبة والفتوى كلها تتحرك وفق البوصلة السياسية، وحيث الدين لم يعد وحيًا، بل أيديولوجيا سلطانية.

والأدهى من ذلك أن هذا التواطؤ لم يُقدَّم للناس باعتباره تحالفًا دنيويًا، بل أُلبس ثوب الإلهي، حتى صار الاعتراض على الحاكم اعتراضًا على الله، والشك في الفقيه شكًا في الوحي، وكأن الدين نفسه اختُطف مرتين: مرة في النصوص، ومرة في السلطة.

ولم يكن غريبًا أن نجد، عبر القرون، أن كل سلطة سياسية كبرى – من العباسيين إلى المماليك والعثمانيين – قد أنتجت نسختها الخاصة من الشريعة، أو بالأحرى أعادت إنتاج الشريعة بما يخدم استقرارها، بينما ظل القرآن بعيدًا عن المشهد، مغيّبًا أو محصورًا في التلاوة الطقسية التي لا تهدد النظام القائم.

لقد كان الانتصار الأعظم للشيطان، أنه جعل الاستبداد يبدو دينًا، والطاعة العمياء عبادة، والسكوت على الظلم ورعًا، حتى صار الإنسان المسلم أسيرًا داخل مثلث قاتل: نصوص مقدسة بلا أصل، مجتمع مأسور بالنفاق أو الإلحاد أو النبذ، وسلطة سياسية تحكم باسم الله وهي أبعد ما تكون عن الله.

وهكذا، صارت الشريعة ليست فقط غشاءً بشريًا ملبّسًا بالإلهي، بل أيضًا سقفًا سياسيًا يُخنق تحته العقل والدين والإنسان، فلا أحد يجرؤ على السؤال، ولا أحد يجرؤ على الانشقاق، لأن العصيان هنا ليس خروجًا على الحاكم فحسب، بل على الدين نفسه كما صاغته المؤسسة.

الامتحان الوجودي – بين الطمأنينة الزائفة ومواجهة الحقيقة

في كل لحظة وعي، يقف الإنسان أمام امتحانٍ لم يختره بملء إرادته، لكنه مفروضٌ عليه بحكم ولادته داخل بنية رمزية مشبعة بالشريعة، لا بالدين. الامتحان ليس سؤالًا أكاديميًا، ولا نقاشًا فلسفيًا مجردًا، بل معركة داخلية تمسّ ضميره ووجوده ذاته: هل يرضى بما ورثه ويستسلم لطمأنينةٍ زائفة؟ أم يفتح عينيه على الحقيقة، ولو جرّدته من كل سندٍ اجتماعي وديني ظاهري؟

الطمأنينة الزائفة هي تلك التي تمنحها الشريعة المصنّعة، حين تَعِدُك أن كل شيءٍ محسوم، أن الحلال والحرام قد رُسمت حدودهما، وأنك لستَ بحاجة إلى التفكير ولا إلى السؤال، بل يكفيك أن تتبع ما قيل إنه قيل، وأن تُكرّر ما تكرّره الجماعة، لتغدو واحدًا من قطيعٍ كبيرٍ يحمي نفسه بالخوف المشترك من السؤال. إنها طمأنينة القبور: سكونٌ مطلق، وهدوءٌ مريب، وسلامٌ لا يُعكّره شيء، لكنه سلام مزيّف، لأنه سلام الموتى، لا سلام الأحياء.

أما مواجهة الحقيقة فهي الخروج من هذا القبر، وهي لحظة الانفجار الداخلي حين يدرك المرء أن الدين الذي بين يديه ليس هو دين القرآن، بل دين الشريعة، أي دين بشريّ مصنع، غُلّف بغشاء إلهي رقيق، ليُمنع الناس من مساءلته. هنا يصبح السؤال ليس مجرد شكٍّ معرفي، بل زلزال وجودي: هل كنتُ مؤمنًا حقًا، أم مجرد تابعٍ لمسرحية نفاق جماعي؟ هل كان سجودي لوجه الله، أم لنظام سلطوي لبس اسم الله؟

إنها لحظة شبيهة بخروج الإنسان الأول من الكهف، حين اصطدمت عيناه بالنور بعد قرون من الظلام، فآلمه الضوء قبل أن يحرّره. ولهذا، فإن مواجهة الحقيقة ليست مريحة، ولا تمنح شعورًا آنيًا بالطمأنينة، بل تفجّر القلق، وتعيد صياغة علاقة المرء بنفسه وبالله وبالآخرين. لكنها، رغم قسوتها، هي وحدها التي تعيد الإنسان إلى جوهر الدين: علاقة حرّة، مباشرة، غير مفلترة عبر سلطة الفقهاء ولا مغلّفة بغشاء الشريعة المصطنعة.

هذا الامتحان الوجودي لا يمرّ دون كلفة، بل هو أشبه بعبور جسرٍ فوق هاوية:

فمن يختار الطمأنينة الزائفة، يظل يعيش في جماعة المنافقين، يحسب نفسه على الحق بينما هو غارق في الوهم.

ومن يختار الحقيقة، يجد نفسه معزولًا، منبوذًا، يُتّهم بالزندقة أو بالقرآنية أو بالفتنة، لكنه في المقابل يستعيد حريته، ويضع يده لأول مرة على النص الإلهي بلا وسائط.

هنا تمامًا يتضح كيف انتصر الشيطان بالشريعة: لأنه جعل الطمأنينة في الباطل أهون على النفوس من مواجهة الحقيقة، وحوّل الهروب من الأسئلة إلى فضيلة، وألبس الاستسلام ثوب الورع، حتى صار المجتمع كله أسير معادلة قاتلة: إما أن تُكمل المسرحية وتبقى داخل الدائرة، أو أن تواجه الحقيقة وتخرج وحيدًا.

لكن هذا الانتصار، مهما بدا محكمًا، ليس نهائيًا. لأنه في كل جيل يولد من يرفض الطمأنينة الزائفة، ويختار نار الحقيقة على برد الوهم، ويعلن أن الدين الذي بين أيدينا ليس هو دين القرآن، بل دين الشريعة، وأن عودة الوحي لا يمكن أن تمر إلا عبر تحرير الدين من هذا الغشاء الشيطاني الذي صُنع ليخنق الإنسان باسم الله.

 

المجتمع الممزق – ثلاث طبقات تحت دين الشريعة

حين يُغلف البشري بغشاء إلهي رقيق، فلا يُمس ولا يُسائل، لا تكون النتيجة مجرد تشويه للدين، بل تشويه للمجتمع الإنساني نفسه. وحين تتحول الشريعة إلى دين، يصبح الناس أسرى لمعادلة قاتلة تُنتج بنية اجتماعية ثلاثية، لا مفر منها، ولا خلاص داخلها:

1. طبقة المنافقين – الطمأنينة الزائفة

هذه هي الكتلة الأكبر، وهي وقود المسرحية الجماعية التي تجعل الشريعة تبدو وكأنها حياة. يعيش أفرادها في ظاهر من الطقوس والشعارات: صلاة جماعية، لحى ونقاب، أيمان تُردّد على الألسن، فتاوى تُحفظ وتُردّد، وكلها علامات طمأنينة سطحية تُغطي على فراغ داخلي. في السرّ، هناك ظلم وفساد، تجارة بالدين، كذب واستغلال، لكن ما دام الوجه الظاهر ملتزمًا بالشريعة، فإن الداخل يُترك في العتمة.

هؤلاء هم الذين وصفهم القرآن: «يُخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم»، لكنهم لا يشعرون، لأنهم غرقوا في وهم أن الظاهر يكفي.

2. طبقة الملحدين – رفض الدين كله

على الضفة الأخرى يقف أناس أحرار في ضمائرهم، يملكون حساسية وجودية صادقة، فيرون التناقض الصارخ بين خطاب الرحمة في القرآن وبين الاستبداد والظلم باسم الشريعة. ولأنهم لم يتعلموا التمييز بين الوحي والبشري المصنوع، فإنهم يرفضون الدين كله دفعة واحدة، لا كرهًا لله، بل لأنهم لم يجدوا في “دين الشريعة” سوى قهرٍ باسم الله. هؤلاء هم “ضحايا النقاء”: أرادوا الحق فهربوا من الوهم، لكنهم ألقوا بالوحي مع الشريعة في سلّة واحدة.

3. طبقة المنبوذين – القرآنيون

الطبقة الأصغر، لكنها الأخطر على البناء كله، هي تلك التي قررت أن تقف أمام الجميع وتقول: “هذا الذي تسمّونه دينًا ليس هو دين القرآن”. هؤلاء لا يُحسبون على المنافقين، ولا على الملحدين، بل يُحاولون العودة إلى الأصل: الوحي الصافي بلا وسائط، بلا شريعة مصنّعة. لكن ثمن هذا الموقف أن يصبحوا منبوذين، متّهمين بالزندقة، بالفتنة، بالخروج عن الجماعة. المجتمع يطردهم لأنه يرى فيهم تهديدًا لبنيانه الرمزي؛ فهم ليسوا منافقين ليستمروا معه، ولا ملحدين ليتجاهلهم، بل هم شهود على الزيف من الداخل.

وهكذا، يكتمل المشهد:

المنافقون يُبقون اللعبة قائمة.

الملحدون يُتركون خارجها، كأعداء ظاهرين.

المنبوذون يُحاربون لأنهم يفضحون اللعبة نفسها.

إنه بناء اجتماعي مأساوي، يُعيد إنتاج نفسه جيلاً بعد جيل، حيث لا ينجو أحد: المنافق يعيش كاذبًا على نفسه، الملحد يُقصى عن الوحي الحقيقي، والمنبوذ يُسحق لأنه أراد الحقيقة. وهكذا يربح الشيطان مرتين: بنفاقٍ يُحافظ على المسرحية، وبإلحادٍ يرفض المسرحية والدين معًا، وبمنبوذين لا صوت لهم، فيُخنق الوحي تحت غبار الشريعة.

آليات ترسيخ البنية – الطقوس، الإجماع، التخويف، والتكفير

لم يكن انتصار الشريعة على الدين مجرد صدفة تاريخية، ولا نتيجة ضعف عرضي، بل كان مشروعًا متكاملًا وظّف آليات دقيقة لإعادة تشكيل المجتمع على نحوٍ يضمن استمرار اللعبة. هذه الآليات اشتغلت مثل تروس آلة ضخمة، كل ترس يعزز الآخر، حتى استقر البناء المشوَّه في الوعي الجمعي وكأنه قدر إلهي لا فكاك منه.

1. الطقوس – الجسد المستعبد

أول وأبسط الآليات كانت الطقوس. لم تُقدَّم العبادات كوسائل لتحرير الروح والارتقاء بالعلاقة مع الله، بل تحولت إلى شيفرات مراقبة اجتماعية: من يصلي حاضر، من يحفظ الأذكار مخلص، من يلتزم بالمظهر مؤمن. لم يعد المهم أن يكون القلب حاضرًا أو أن تكون الأخلاق صادقة، بل أن يؤدي الجسد حركات معيّنة تُثبت ولاءه للنظام. وهكذا استُبدل الدين بالتمثيل الجسدي له، فغدت الصلاة واللباس واللحية والزيادات الشعائرية بطاقة هوية سياسية أكثر مما هي علاقة بالله.

2. الإجماع – القيد الجماعي

لكن الطقوس وحدها لا تكفي، لذلك صيغت فكرة الإجماع: أن كل ما اتفقت عليه الأمة (أو بالأحرى ما قيل إنها اتفقت عليه) لا يجوز مساءلته. وهنا يصبح مجرد السؤال خيانة، لا للعلماء فحسب، بل للجماعة كلها. الإجماع لم يكن يومًا حدثًا تاريخيًا يمكن توثيقه، بل كان أداة سلطوية تحرس النصوص وتمنع المراجعة. وبالإجماع، تحولت المعرفة إلى طاعة، وتحول الدين إلى صدى جمعي، حيث لا يبحث الفرد بنفسه، بل يكرر ما يُقال له، خوفًا من أن يكون “شاذًا عن الجماعة”.

3. التخويف – صناعة الرعب الداخلي

ولكي لا يجرؤ أحد على كسر هذا القيد، فُعّلت آلية التخويف. من يشكك في الشريعة يُرمى بتهم جاهزة: زندقة، فتنة، خروج عن السلف، إفساد للعقيدة. التخويف لا يحتاج إلى دليل، يكفي أن تُطلق التهمة، فيرتعد الناس من مجرد التفكير. وهكذا يُزرع في النفوس رعب داخلي يجعل كل فرد شرطيًا على نفسه، فيُراقب أفكاره، ويكبح أسئلته، قبل أن يجرؤ أحد على معاقبته.

4. التكفير – السيف المسلط

أما الأداة الأقصى فهي التكفير، الذي يعمل كسيف مسلط على الرقاب. من يخرج عن الطاعة أو يرفض اللعبة يُجرّد من هويته الدينية تمامًا. لم يعد الاختلاف اجتهادًا، ولا النقد بحثًا، بل صار ارتدادًا عن الدين كله. التكفير يحوّل المجتمع إلى قاعة محكمة مفتوحة، حيث الجميع تحت التهديد، وحيث كلمة واحدة يمكن أن تلغي إيمانك وتعرضك للعقوبة وربما للموت. وهكذا يكتمل البناء: الطقوس تُمسك بالجسد، الإجماع يُقيد العقل، التخويف يزرع الرعب، والتكفير يُطلق الرصاصة الأخيرة.

بهذه الآليات الأربع، رُسّخ “دين الشريعة” في القلوب والعقول، لا كإيمان صادق بل كنظام مراقبة شامل. وهكذا ضُبط المجتمع كله داخل البنية الثلاثية: منافقون يعيشون في المسرحية، ملحدون يفرون من المسرحية والدين معًا، ومنبوذون يُسحقون لأنهم كشفوا اللعبة. وكل ذلك تحت لافتة كبرى تقول: “هذا هو الدين”، بينما هو في الحقيقة دين بشري مصنع، غُلّف بغشاء إلهي رقيق.

بين الحدث الفعلي والتاريخ المدون

حين ننتقل من “الدين” كما تجلى في الوحي إلى “الشريعة” كما تجلت في المدونات، نكتشف أننا لا نقف أمام مجرّد فروق في الفهم أو في التفسير، بل أمام انقلاب عميق في طبيعة ما نعتبره “تاريخًا”؛ فبينما الحدث الفعلي ينتمي إلى واقع عاشه أشخاص محددون في لحظة زمنية معينة، فإن ما بين أيدينا ليس هذا الحدث، بل ما اتُّفق لاحقًا على كونه صورة هذا الحدث، أي أننا لا نقرأ الماضي كما وقع، بل كما صيغ لاحقًا ضمن هندسة رمزية صنعتها سلطة تحتاج إلى “ماضٍ مُوحِّد” لتبني فوقه حاضرها وتضمن مستقبلها.

إن التاريخ المدون ليس ذاكرة بريئة تسجل وقائع انقضت، بل هو اختيار انتقائي، إعادة تركيب، بل وإعادة خلق، يتم فيه إسكات ما لا يخدم البنية، وإبراز ما يشرعنها، وتثبيت ما يضمن طاعتها. فالتدوين لم يكن استجابة شفافة لما وقع، بل كان إملاءً سلطويًا يحدد لا فقط “ماذا يُقال”، بل “كيف يُفهم”، ومن له الحق أن ينطق، ومن يُحظر عليه التفكير. ومن هنا نفهم أن الفارق بين “الحدث” و”التاريخ” هو الفارق بين مادة خام ونتاج مؤدلج، بين فعل وقع بالفعل وبين نص تم إخراجه وفق سيناريو، حتى ليبدو أحيانًا وكأن مؤلفًا واحدًا كتب القصة كلها، رغم أنه في الحقيقة مجموع من الأصوات صهرها السرد السلطوي في حبكة واحدة.

إن الخطورة لا تكمن في أن المدونات لا تطابق الحدث، فهذا طبيعي في كل كتابة تاريخية، بل في أن هذه المدونات ارتدت عباءة المطلق، وعلقت نفسها في سقف المعبد، بحيث غدا نقدها خيانة، أو على الأقل خروجًا على “الإجماع”، ذلك الإجماع الذي لم يكن يومًا حدثًا يمكن توثيقه، بل كان دومًا أداة سلطوية تُخفي غياب الأصل وتُحصّن ما قيل إنه الأصل. وهكذا صار التدوين أداة قمع معرفي: فبدل أن يفتح الباب أمام التساؤل والتحقيق، صار جدارًا يمنع السؤال أصلاً، إذ لم يعد يُسأل عن “ما وقع”، بل فقط يُكرر “ما يجب أن يُعتقد أنه وقع”.

ومن هنا يبدأ الجرح الأكبر: نحن لا نملك أصول الشافعي، ولا بخط أحمد بن حنبل، ولا موطأ مالك بنسخته الأولى، ومع ذلك صارت هذه الكتب أعمدة الدين المدون، لا لأنها وُجدت ماديًا، بل لأن “الجماعة” سلّمت بأنها وُجدت، وهنا يتجلى المعنى العميق للتاريخ المدون: ليس سجلًا لما وقع، بل هندسة رمزية لما يجب أن نؤمن أنه وقع، حتى لو لم يترك في الواقع أثرًا يمكن أن يُفحص.

كيف تحوّل التدوين إلى أداة سلطوية – العباسيون وصناعة المرويات

لم يكن التدوين في بداياته حركة علمية بريئة تنطلق من حماسة لحفظ المعرفة كما كانت، بل كان مشروعًا سياسيًا مدروسًا أدرك الخلفاء العباسيون مبكرًا خطورته وطاقته، فالتاريخ لا يُترك عفويًا، وإنما يُصاغ وفق الحاجة، وما دامت الشرعية السياسية للسلطة العباسية هشة في مواجهة بقايا الأمويين، وثورات العلويين، وتعدد الجماعات والمذاهب، فقد كان لزامًا عليها أن تُعيد تعريف الماضي، وأن تُصنّع نصوصًا تؤسس لحاضرها وتُبرر هيمنتها.

هكذا تحوّل “الفقه” و”الحديث” و”السيرة” إلى ساحات سياسية أكثر منها ساحات علمية، ولم يكن اختيار الشافعي أو أحمد أو مالك مجرد اختيار معرفي، بل كان جزءًا من إعادة تشكيل المرجعية بحيث لا يبقى القرآن هو الأصل الحاكم وحده، بل تُبنى فوقه هياكل موازية، تضمن للسلطة شبكة ولاءات، وتُعيد تعريف الدين بما يخدمها. ومن هنا نفهم لماذا لم يظهر من هذه النصوص أصول معاصرة لمؤلفيها، بل ظهرت نسخ مكتملة بعد قرون، في زمن السلاجقة والمماليك، أي في مرحلة كانت فيها السلطة بحاجة إلى جهاز رمزي متماسك يُدار به العقل الجمعي.

لقد كانت المرويات أخطر سلاح، فهي تمنحك القدرة على قول: “النبي قال”، دون أن يملك أحد الشجاعة لمساءلتك، لا لأن الناس يصدقونك في ذاتك، بل لأن السلطة جعلت من الشك فيك خروجًا عن الجماعة. وهكذا تكوّنت صناعة كاملة: أسانيد، جرح وتعديل، رحلات في طلب العلم، منامات تبريرية، أساطير عن النبوغ المبكر والاضطهاد، كلها تُستخدم كأدوات لإضفاء هالة قدسية على نصوص لا نملك منها أثرًا ماديًا، ولكننا نُساق إلى الإيمان بها وكأنها حقائق مطلقة.

إن العباسيين لم يكتفوا بالسيطرة على السيف والمال، بل أدركوا أن السيطرة الكبرى لا تأتي إلا من خلال إعادة تشكيل الذاكرة الجمعية، والذاكرة لا تُشكَّل بالسيف المباشر، بل بالكلمة المدونة التي تُقدَّم كدين. وهكذا أصبح التدوين سلاحًا أعمق من السيف: السيف يقتل الجسد، أما النص المدون فيعيد تشكيل العقل والروح، ويحوّل المجتمع كله إلى قاعة طاعة ممتدة عبر الزمن.

ولذلك، فإننا حين نقرأ اليوم “الموطأ” أو “الرسالة” أو “المسند”، فإننا لا نقرأ نصوصًا كما كتبها مؤلفوها، بل نقرأ ما أرادت السلطة أن يبقى من تلك النصوص، وما تم هندسته لتقديم صورة معينة للدين، صورة تُحوّل الوحي الإلهي إلى شريعة بشرية، وتُحوّل النقد العقلي إلى فتنة، وتُحوّل التبعية للسلطة إلى طاعة لله.

 

الشافعي وأحمد ومالك – بين ما قيل إنه كُتب وما لم يُكتب

إن أخطر ما يواجه الباحث حين يقترب من كتب الشريعة الأولى هو هذا الصمت الكثيف الذي يحيط بغياب الأصول؛ إذ لا نسخة واحدة بخط الشافعي، ولا بخط تلميذ مباشر له، ولا بخط أحمد بن حنبل أو ابنه عبد الله الذي يُنسب إليه “كتاب السنة”، ولا نسخة للموطأ بخط مالك أو أصحابه الأوائل، بل ما نملكه هو روايات متأخرة، ونسخ لا تظهر إلا في القرون اللاحقة (السابع، الثامن)، أي في أزمنة كان فيها جهاز السلطة والفقه قد تبلور تمامًا، واحتاج إلى نصوص مكتملة ليقدمها كأعمدة لا تُمس.

فالشافعي، الذي يُقدَّم اليوم كـ”مؤسس أصول الفقه”، لا نجد لكتابه الأشهر “الرسالة” أثرًا مبكرًا يمكن التحقق منه؛ فكل ما بين أيدينا نسخ جاءت متأخرة، مكتملة البنية، مهيكلة بطريقة لا تلائم القرن الثاني الهجري بقدر ما تلائم عصور التدوين المتأخر، حيث كانت الكتابة تخضع لمعايير دقيقة في التصنيف، والتبويب، وإحكام المنطق الداخلي. وهنا يحق لنا أن نسأل: كيف لكتاب مؤسس أن يغيب أثره المادي لقرون، بينما تبقى حوله سردية أسطورية عن كونه أصلًا لكل الأصول؟

أما أحمد بن حنبل، فإن “المسند” الذي يُنسب إليه لا يظهر في نسخة مكتملة إلا بعد زمن بعيد، ومع ذلك صار مرجعًا يُبنى عليه حكم التكفير والتفسيق، وكأن الذاكرة اختارت أن تحفظ نصًا لم تره، لكنها سلّمت به، وحوّلته إلى معيار. الأخطر أن كتبًا أخرى نُسبت إلى أحمد (مثل “الرد على الزنادقة” أو “كتاب السنة”) لا نعرف إن كانت له أصلاً، أم لأتباعه الذين احتاجوا أن ينسبوا كلامهم إلى “الإمام”.

أما “الموطأ”، فنحن أمام نص يحمل في داخله أكثر من رواية، وأكثر من نسخة، بعضها من طريق يحيى الليثي، وبعضها من غيره، ما يكشف أن الكتاب لم يكن وثيقة ثابتة بخط مالك، بل كان ساحة سيولة تدوينية، حتى استقر لاحقًا في نسخة واحدة قُدمت للأمة بوصفها الأصل، بينما الأصل لم يُعرف أين اختفى.

هنا ندرك المفارقة: لسنا أمام نصوص عفوية انتقلت كما هي، بل أمام نصوص أُعيدت صياغتها، أو على الأقل أُعيد تقديمها، بحيث تصبح جاهزة لتُحمل فوقها بنية السلطة. فلو طبقنا مناهج علم الحديث نفسها (الجرح والتعديل، اتصال السند، ثبوت الرواية) على هذه الكتب، لسقطت كلها من أول وهلة، لا لأنها ضعيفة في متنها، بل لأنها تفتقد الشرط الأول: الأثر المباشر للمؤلف أو لتلميذه القريب.

لكن هذا الغياب لم يكن نقصًا، بل صار فضيلة في عين الجماعة، لأنه حمى النصوص من المساءلة، وأتاح للسلطة أن تقدمها على أنها “مقدسة” دون أن تُفتح على النقد. وهكذا تحوّل غياب الأصل إلى أصل للقداسة، وصار النص يعيش لا بما هو مكتوب، بل بما يُقال عنه، حتى غدا الوصف بديلاً عن الوثيقة، والتكرار بديلاً عن البرهان.

آليات التقديس السلطوي – منامات، أسفار، واضطهادات

لم يكن يكفي أن يُقال “الشافعي كتب” أو “أحمد جمع” أو “مالك دوّن”، فالنصوص، حين تظهر متأخرة بلا أصل مباشر، تحتاج إلى هالة مضاعفة، لا لكي تُقرأ، بل لكي تُخشى، ولا لكي تُناقش، بل لكي تُقدَّس. وهنا استُدعيت آليات رمزية دقيقة تتكرر في كل سيرة إمام، حتى تكاد تبدو وكأنها خرجت من قلم كاتب واحد يكتب السيناريو نفسه لكل شخصية:

المنامات: يُقال إن النبي ﷺ ظهر للإمام في المنام ليأمره أو يبشره، كما في قصة البخاري حين قيل إنه رأى النبي يمسح بيده على صدره. المنام هنا ليس حدثًا عابرًا، بل وثيقة غيبية بديلة عن الوثيقة المادية المفقودة؛ فإذا غاب الأصل المكتوب، جُعل الأصل حلمًا مقدسًا لا يمكن الطعن فيه.

الأسفار: لا يُقدَّم إمام إلا وقد “رحل في طلب العلم” آلاف الأميال، من مكة إلى بغداد إلى مصر إلى نيسابور، وكأن الرحلة في ذاتها برهان على صدق النص، وكأن الطريق المتعبة تغني عن الورقة الغائبة. وهنا يتحول السفر إلى طقس تطهيري، يرفع النص من مستوى التجميع البشري إلى مقام الرسالة القدرية.

النبوغ المبكر: دائمًا ما تبدأ السيرة بعبارة: “حفظ القرآن صغيرًا”، “كان يفتي وهو ابن خمس عشرة”، “نبغ وهو غلام”، وهذه الصور ليست بريئة؛ إنها صناعة للأسطورة منذ الطفولة، حتى يصبح الكتاب المنتسب إليه لاحقًا امتدادًا لمسار قدريّ لا يمكن الشك فيه.

الاضطهادات: لا بد من صورة الإمام المظلوم الذي طُرد أو سُجن أو عُذّب، ليُقال إن الحق دائمًا مطارد، وإن كل معاناة هي ختم إلهي على صدق المذهب. وهكذا يصبح المسند أو الرسالة أو الموطأ ثمرة دموع وآلام، لا مجرد نصوص، فيُغلق باب المساءلة، لأن من يشكك بالنص كأنه يشكك بصبر الإمام وجهاده.

هذه الآليات ليست أحداثًا فردية، بل بنية سردية موحدة، تتكرر حرفيًا من إمام إلى آخر، حتى يبدو وكأنها “سوبرماركت رمزي” يقدم لكل جمهور ما يرضيه: الصوفي يجد المنام، الفقيه يجد الرحلة، العامي يجد الأسطورة الطفولية، والمظلوم يجد قصة الاضطهاد. وبهذا يُدار العقل الجمعي من خلال سردية شاملة تحمي النصوص من النقد، لأنها تحيطها بدروع وجدانية لا تُخترق.

إننا أمام ما يمكن تسميته بـ “الهندسة السردية للقداسة”: حيث لا يقوم النص على برهان مادي، بل على شبكة قصصية تُعيد إنتاج الطمأنينة وتمنع السؤال. فالمنام يُغلق باب العقل، والسفر يُغلق باب التاريخ، والاضطهاد يُغلق باب السياسة، وفي النهاية يُصاغ وعي جماعي لا يرى الكتاب بما هو كتاب، بل بما هو “معجزة سردية” تفرض نفسها من خارج المنطق.

بنية الهيمنة

 

النصوص بين زمن الادعاء وزمن الوجود

حين نضع بين أيدينا ما يُسمى بالكتب المؤسسة للشريعة، من “الموطأ” إلى “المسند” إلى “الرسالة” إلى “الصحيحين”، فإن أول ما يلفت النظر ليس ما تحمله من مرويات أو ما تسرده من أقوال، بل البنية المحكمة التي رُتّبت بها: أبواب مصنفة بدقة، تبويبات متسلسلة، بناء منطقي متماسك، أسلوب يقترب من صياغة الموسوعات القانونية الحديثة أكثر مما يقترب من ملامح التدوين الأولى في بيئة القرن الثاني أو الثالث الهجري، حيث كان التشتت المعرفي، وضعف آليات التوثيق، وقلة انتشار أدوات النسخ، تجعل من الصعب تصور ولادة نصوص بهذه الصرامة المنهجية.

إن العقل التاريخي المتفحص لا يجد غرابة في أن يختلف مضمون النصوص، أو أن تتنوع زوايا النظر، لكن الغرابة الحقيقية تكمن في درجة “الهندسة” التي تطبع هذه الكتب؛ فهي لا تُقرأ كمذكرات فردية أو تجميعات طلاب علم، بل كأعمال مؤسساتية مكتملة، ذات وعي تنظيمي عالٍ، وكأنها خرجت من عقل دولة أكثر مما خرجت من عقل فقيه منفرد. وهنا بالضبط تبرز الفجوة التي تكشف المفارقة: فالقرن الثاني والثالث لم يعرف بعد هذا الشكل المؤسسي في إنتاج المعرفة، بينما أقدم النسخ التي وصلتنا – في القرن السابع والثامن – تلائم تمامًا هذه البنية، وتنسجم مع السياق السياسي والثقافي الذي عرفه زمن المماليك والسلاجقة، حيث احتاجت الدولة إلى نصوص “مضبوطة” تشبه القوانين، أكثر مما احتاجت إلى سرديات حرة أو مذكرات شخصية.

إن هذه الفجوة الزمنية بين زمن الادعاء (أن النص كتب في القرن الثاني أو الثالث) وزمن الوجود الفعلي (أقدم نسخة محفوظة في القرن السابع أو الثامن) ليست مجرد فراغ في سلسلة النقل، بل علامة على أن النصوص وُلدت معرفيًا حيث ظهرت مادّيًا، أي أنها بنت عصرها الحقيقي، لا عصر نسبتها. فهي تلائم تمامًا ذلك المناخ الذي كان فيه النظام السياسي والعلمي يبحث عن أدوات للهيمنة، فوجد في “الشريعة” نصًّا مُهندسًا يضبط المجتمع، أكثر مما وجد فيها “دينًا” يفتح الأفق.

ومن هنا يتضح أن ما نقدسه اليوم بوصفه “تراث الأئمة الأوائل” ليس بالضرورة أثرًا مباشرًا لأولئك الأئمة، بل بناء لاحق نُسب إليهم ليستمد قدسيته من أسمائهم، بينما هو في بنيته الداخلية ومظهره الخارجي ابنٌ وفيّ لعصر المماليك والسلاجقة. إن التبويبات المحكمة، والصرامة المنهجية، وغياب الأصول المباشرة، وظهور النسخ المتأخرة، كلها تشكل خيوطًا لنسيج واحد: نسيج يُظهر أن النصوص لم تُبن لتكون شواهد على الماضي، بل لتكون أدوات للسلطة في حاضرها، وأنها صُممت هندسيًا لتخدم غاية محددة: إخضاع العقل تحت سلطة مدونة لا يُناقَش أصلها ولا زمنها، بل يُسلَّم بها كما هي، لأنها جاءت في لحظة احتاجت فيها الدولة إلى “إطار مقدس” يمنح شرعية كاملة لأدواتها السلطوية.

لماذا تلائم النصوص زمن المماليك والسلاجقة أكثر من زمن الأئمة الأوائل؟

إن النظر في البنية الداخلية للنصوص المؤسسة للشريعة يضعنا أمام مفارقة تكاد تكون صاعقة: فما بين زمن الأئمة الأوائل ـ القرن الثاني والثالث الهجري ـ وزمن أقدم النسخ التي نملكها ـ القرن السابع والثامن ـ فارق لا يمكن ردمه بالثقة وحدها، لأن الثقة لا تعوض غياب الوثيقة. غير أن ما هو أدهى من هذا الغياب هو أن النصوص، في هندستها البنائية الدقيقة، لا تنتمي إلى بيئة أولئك الأوائل، بل إلى سياق لاحق تمامًا، هو سياق الدولة المملوكية والسلاجقة.

لقد كان القرن الثاني والثالث قرنين مضطربين، عرفت فيهما الخلافة العباسية توترات سياسية ومذهبية، ولم يكن التدوين قد استقر بعد في هيئة مصنفات محكمة؛ بل كانت الغلبة للتجميع، للمختصرات، للمرويات المتناثرة، للسماع الفردي والنسخ الجزئي. في مثل هذا المناخ، لا يمكن أن يولد “صحيح” مكتمل البناء، ولا “مسند” مرتب على هذا النحو، ولا “موطأ” يُقرأ وكأنه قانون وضعي مُفهرس. أما ما نراه في أيدينا اليوم من هندسة متقنة للنصوص فهو أقرب إلى عقلية الدولة التي تبحث عن “مدوّنة” شاملة، تضبط الفقه وتؤطر الفتيا وتضع المجتمع تحت سقف نصوص مرجعية. وهذا بالضبط ما احتاجه المماليك والسلاجقة حين فرضوا سلطتهم: قانون له قداسة، لكن منسوج بلغة الدين.

إن التبويب المحكم، والتقسيم المنهجي، والصرامة في العناوين، كلها تشي بوعي مؤسساتي لم يكن ممكنًا في زمن مالك أو الشافعي أو أحمد، بل صار ممكنًا فقط حين غدت الدولة بحاجة إلى “سوبرماركت ديني” يحتوي كل الشرائح: الفقهاء والقضاة والسلاطين، الصوفية والوعاظ، السلفية والمحافظين، كلٌ يجد بضاعته مرتبة على الرفوف. الشريعة في هذا السياق لم تعد مجرد اجتهادات فردية، بل غدت بنية سلطة: هندسة مكتملة أشبه بالقوانين الرومانية أو المدونات البيزنطية التي عرفتها تلك المرحلة، حيث الحاجة إلى الضبط لا تقل عن الحاجة إلى الشرعية.

وما يزيد المفارقة وضوحًا أن هذه النصوص لم تظهر في فراغ، بل في زمن كانت فيه ملامح الحياة العلمية والثقافية قد نضجت إلى مستوى يسمح بإنتاج موسوعات، حيث ازدهرت مدارس النسخ، وتطورت أدوات الفهرسة، وظهر الوعي بالتصنيف المنهجي. عندها فقط يصبح منطقياً أن نرى نصوصًا بهذه البنية المحكمة. أما في القرن الثاني والثالث، فإن أقصى ما يمكن تصوره هو أوراق متفرقة، تذكارات سماع، صحائف متناثرة، لا بناء موسوعي متماسك.

إن تطابق هذه النصوص مع روح عصر المماليك والسلاجقة لا مع روح الأئمة الأوائل ليس مجرد ملاحظة شكلية، بل هو برهان بنيوي على أن زمن الوجود الحقيقي للنصوص هو زمن نسخها، لا زمن نسبتها. وبذلك، فإن ما نعده “تراثًا أصليًا” ليس إلا تراثًا مُعاد كتابته، أُسقط على الماضي ليكتسب قداسة، بينما هو في جوهره ابن لحظة سلطوية محددة: لحظة احتاجت فيها الدولة إلى قانون مقدس، فأنتجت “الشريعة” بوصفها دينًا بشريًا مصنّعًا، ممهورًا بأسماء الأئمة، لكنه مُهندس في مختبر السياسة.

تداعيات هذه الاكتشافات – الزلزال الصامت في الوعي الديني

حين ندرك أن النصوص المؤسسة للشريعة لا تنتمي في بنيتها إلى القرن الثاني أو الثالث، بل إلى زمن لاحق ارتبط بالسلاجقة والمماليك، فإننا لا نكون أمام مجرد تصحيح تاريخي أو تعديل في نسب المؤلفات، بل أمام زلزال صامت يضرب أعماق الوعي الديني الذي تأسست عليه قرون من الفقه والعقيدة والسياسة. فالخطر لا يكمن فقط في إعادة تأريخ النصوص، بل في سقوط الحائط الذي استندت إليه شرعية سلطة كاملة، سلطة لم تكن سلطوية بالمعنى السياسي وحده، بل سلطوية بالمعنى الوجودي، حيث تماهت صورة الدين مع صورة هذه النصوص، وصار نقدها نقدًا لله نفسه.

إن التداعيات الأولى لهذا الاكتشاف تظهر في تفكك وهم القداسة؛ فما كان مقدسًا لأنه منسوب للإمام، يصبح هشًا حين نرى أن يد الإمام لم تمسّه، وأن زمنه لم يعرفه، وأن أقدم أثر له لا يعود إليه بل إلى قرون بعده. وهنا ينكشف البشري وقد غُلّف بغشاء إلهي رقيق، وحين يتمزق هذا الغشاء، يُدرك المرء أن ما عاشه الناس كدين لم يكن إلا شريعة مصنّعة، صُنعت لتخدم السلطة وتعيد إنتاجها.

لكن التداعيات الأعمق لا تقف عند حدود النصوص، بل تمتد إلى هوية الجماعة؛ إذ ماذا يعني أن أمة بكاملها بَنَت وجدانها، وشكّلت مؤسساتها، وأقامت محاكمها، وخاضت حروبها، استنادًا إلى نصوص غائبة في أصلها، حاضرة فقط كخرافة متفق عليها؟ إن معنى ذلك أن الجماعة لم تكن تعيش الدين في جوهره القرآني، بل كانت تعيش انعكاسًا مُصنّعًا، وأن إيمانها لم يكن بالله وحده، بل بهياكل رمزية بُنيت فوق فراغ، حتى صار الفراغ ذاته موضوع إيمان.

ومن هنا تأتي التداعيات الأخطر: أزمة الثقة. فإذا كان صحيح البخاري أو موطأ مالك أو رسالة الشافعي قد وصلتنا لا من أصحابه بل من عصور متأخرة، فما الذي يضمن أن غيرها لم يُصَغ بالطريقة نفسها؟ وما الذي يمنع أن تكون الرواية التاريخية كلها مجرد “هندسة تدوينية” صنعتها السلطة؟ هنا يجد العقل نفسه أمام امتحان وجودي قاسٍ: هل يستمر في التسليم خوفًا من الانتماء؟ أم يواجه الحقيقة المرة بأن الدين الذي بين أيدينا دين بشري مصنع، بينما الدين الإلهي القرآني ظلّ مسكوتًا عنه أو محجوبًا خلف جدار الشريعة؟

هذه التداعيات ليست نظرية، بل عملية، لأنها تعني أن الانقسام الذي نراه اليوم بين السلفي المتمسك بالشريعة، والملحد الرافض للدين كله، والقرآني المنبوذ من الطرفين، ليس إلا نتيجة مباشرة لهذه الهندسة التاريخية التي رفعت نصوصًا بشرية فوق الوحي، ثم جعلت من نقدها جريمة، فخلقت مجتمعات من المنافقين الذين يعيشون ظاهر التدين وباطن النفاق، والأحرار الذين اختاروا الإلحاد فرارًا من الاستبداد باسم الله، والغرباء الذين تمسّكوا بالقرآن وحده فدفعوا ثمن العزلة والنبذ.

إن تداعيات هذا الاكتشاف تهزّ ثلاثة أعمدة كبرى:

الفقه: إذ يتبين أنه بُني على نصوص غير مؤكدة، فتسقط قداسته.

السلطة: إذ تفقد شرعيتها التي استندت إلى هذا الفقه.

الهوية الجماعية: إذ تجد نفسها مضطرة إلى مواجهة حقيقة أنها عاشت قرونًا على دين لم يكن هو الدين.

وهكذا نرى أن هذه التداعيات ليست مجرد إعادة قراءة للماضي، بل إعادة تعريف للوجود الديني ذاته، لأن المؤمن حين يعلم أن ما عاشه لم يكن إلا شريعة بشرية مغلفة بغشاء إلهي، يجد نفسه أمام لحظة امتحان وجودي: إما الطمأنينة الزائفة بالاستمرار في خداع النفس، أو الحقيقة الموجعة التي تحرر العقل لكنها تهدم كل يقين موروث.

 

الشريعة كسلاح جيوسياسي – تغييب القرآن وتوظيف السنة في حروب العصر

حين نطلّ على العقود الأخيرة من القرن العشرين، نجد أن اللعبة الكبرى بلغت ذروتها، إذ لم تعد الشريعة مجرد إطار فقهي تاريخي يُستعمل لتبرير السلطة الداخلية، بل تحوّلت إلى سلاح جيوسياسي عالمي تُدار به الحروب وتُهدم به الإمبراطوريات. وفي كل هذه العمليات، ظلّ القرآن مغيَّبًا، بل مُبْعَدًا عمدًا عن ساحة الصراع، ليبقى الحاضر الوحيد هو “السنة” كما صاغتها المدونات الفقهية والحديثية، وكأن الوحي الذي أنزل للناس كافة قد تم إقصاؤه لصالح نصوص بشرية مرفوعة فوقه.

إن المثال الأوضح هو الحرب في أفغانستان؛ هناك حيث اجتمع المال النفطي، والمخابرات الغربية، والمدارس الوهابية، لإنتاج “مجاهدين” يرفعون راية الشريعة، ويهتفون بتطبيق السنة، بينما لم يكن القرآن حاضرًا إلا كزينة لفظية على الرايات، لا كمرجعية فكرية أو قيمية أو فلسفية. لقد كان المطلوب واضحًا: تعبئة بشرية عاطفية لا تعقل جوهر الدين، بل تتحرك تحت تأثير “النصوص القتالية” المروية في الحديث، بعيدًا عن القرآن الذي يركز على الحرية والعدل والرحمة. وهكذا تمكّن الشيطان – مرة أخرى – من استخدام الشريعة لا لهدم “الكفر”، بل لهدم دولة عظمى كالتحاد السوفياتي، في سابقة تاريخية جعلت من الدين المصنع أداة هندسية عسكرية.

لكن اللعبة لم تقف عند هذا الحد؛ فبعد سقوط الاتحاد السوفياتي، لم يُترك المجال لوعي قرآني أن يظهر، بل جرى توجيه الطاقات ذاتها نحو الداخل الإسلامي: خطاب يُطالب بتطبيق الشريعة، وإسقاط الأنظمة القائمة، دون أن يتجرأ أحد على الحديث عن “الدين” بوصفه إيمانًا حرًّا أو عن “القرآن” بوصفه مصدرًا متفردًا. لقد تحوّل الشعار إلى استبدال استبداد باستبداد آخر؛ فبدلًا من نقد الأنظمة باسم الحرية أو العدالة أو الكرامة، كان النقد يتم باسم “الشريعة”، أي باسم نظام بشري آخر مغلَّف بهالة إلهية رقيقة، بحيث تظل لعبة السلطة هي ذاتها، فقط بأسماء وشعارات مختلفة.

والنتيجة أن الأمة انتقلت من معركة إلى أخرى، من أفغانستان إلى الجزائر إلى العراق إلى سوريا، وهي ترفع راية “تطبيق الشريعة”، دون أن تجرؤ على أن تسأل: وأين الدين؟ وأين القرآن؟ لقد صار الترديد الميكانيكي لعبارات مثل “الحاكمية”، و”الطاغوت”، و”العودة للسنة”، بديلاً عن أي تفكير نقدي في جوهر الإيمان أو مقاصد الوحي.

وهكذا يتجلى بوضوح أن الهندسة السلطوية للنصوص لم تكن مجرد أثر تاريخي بعيد، بل أداة حيّة في يد النظام العالمي؛ فمن خلال الشريعة – لا الدين – أُديرت الحروب، وصُنعت الجماعات، وأُطيح بالأنظمة، وتم تمزيق المجتمعات إلى طوائف ومذاهب وفصائل، بينما ظلّ القرآن، بصفائه وجرأته على مساءلة السلطان، غائبًا عن المشهد، وكأن إبعاده شرط أساسي لنجاح هذه اللعبة.

إن التداعيات هنا أخطر من مجرد “تسييس الدين”: إنها تكشف عن لحظة انتصار كبرى للشيطان، حين صار الدين المصنع – أي الشريعة – أداة هدم للأمة ذاتها، وأداة في يد قوى خارجية وداخلية معًا، بينما تم تحييد الدين الحقيقي، وترك القرآن في المصاحف يُتلى دون أن يُدخل في المعادلة. وهكذا تحوّلت المعارك كلها إلى صراع على “من يطبّق الشريعة”، لا على “كيف نعود إلى الدين”.

حين أسلم الشيطان وصار سلفيًا – الشريعة كأداة انتصار على فلسفة القرآن

حين ننظر إلى المسار الطويل الذي قطعته الأمة منذ القرن الثالث الهجري حتى لحظة أفغانستان وما تلاها، نكتشف أن الشيطان لم يكتفِ بالوسوسة في الهوامش، بل ارتدى عباءة الإيمان، ودخل من الباب الواسع الذي اسمه الشريعة؛ تلك التي صُنعت كبناء بشري ثم غُلِّفت بغشاء إلهي رقيق يمنع الناس من مساءلتها. وهنا وقع التحول الأخطر: الشيطان لم يعد عدوًا خارجيًا، بل صار “مسلمًا” سلفيًا، يرفع راية السنة، ويقاتل باسمها، ويُقصي القرآن باسمها.

إنه التحول الأشد فداحة في تاريخ الوعي الديني: أن يُستبدل الدين بوهم اسمه الشريعة، وأن تُستبدل فلسفة القرآن – بما هي أفق للحرية والرحمة والعدل والتفكير – بمدونات بشرية أُلبست قداسة مصطنعة، لتتحول إلى أداة صعق للعقل، وقيد على الروح، وسوط على الجسد.

وبهذا، تحقق للشيطان ما لم يكن له أن يحققه بالوسوسة المباشرة:

فقد كسب المؤمنين المنافقين الذين يحفظون النصوص دون أن يتذوقوا الروح.

وكسب الملحدين الأحرار الذين رفضوا دينًا مصنوعًا قائمًا على القهر.

وسحق القرآنيين الذين حاولوا العودة إلى الأصل، فنبذهم الجميع، واتُهموا بالزندقة والخيانة.

لقد تحولت الشريعة إلى المسرح العظيم للنفاق: طقوس تُمارَس، شعارات تُرفع، حاكمية تُنادى بها، بينما تغيب العدالة، وتُستباح الكرامة، ويُهمَّش الإنسان. فصار المجتمع أمام ثلاث طبقات مدمِّرة: منافقون يعيشون دينًا مسرحيًا، ملحدون يهربون من الاستبداد باسم الله، ومنبوذون يصرخون بالعودة إلى القرآن ولا يجدون صدى.

وهنا يظهر معنى القول: بالشريعة انتصر الشيطان، إذ أسلم فصار سلفيًا، وانتصر على فلسفة القرآن. لم ينتصر على الله – فالله باقٍ فوق كل شيء – لكنه انتصر على صورة الدين في وعي الناس، فشوَّهها وأفرغها من محتواها، حتى غدت سجنًا للروح بدل أن تكون أفقًا للتحرر.

والمفارقة المؤلمة أن هذا الانتصار ليس أبديًا، بل مؤقت، لأنه مبني على الفراغ: فراغ الوثائق، وفراغ البرهان، وفراغ الروح. ولكنه مع ذلك كان انتصارًا مدوّيًا في التاريخ الحديث، حيث استطاع أن يُطيح بإمبراطوريات، ويصنع جماعات، ويُخيف شعوبًا كاملة من مجرد التفكير.

إن هذا هو جوهر اللعبة الكبرى: تغليف البشري بغشاء إلهي رقيق، وإلباس الشيطان ثوب الإيمان، ليُمارَس القهر باسم الله، وتُهمَّش فلسفة القرآن.

 

بنية الهيمنة

الحنيفية الضائعة – حين صار الدين مصنعًا والشريعة غلافًا لغويًا

حين نقرأ القرآن، نجد أن جوهر الحنيفية هو الميل الفطري إلى الله، حرية الإنسان في التوجه إلى خالقه دون وسائط، دين يقوم على التوحيد والرحمة والكرامة والعقل. لكن ما بين القرآن والواقع مسافة شاسعة، مسافة صُنعت بعناية حتى لا يبقى من الحنيفية سوى اسمها، ويُستبدل الجوهر ببناء مُصنّع اسمه الشريعة.

لقد احتُفظ بكلمة “دين حنيف” كشعار لغوي، لتضفي على الناس شعورًا بالانتماء إلى الأصل، بينما تمّ في العمق إفراغ هذا الأصل واستبداله بمسار آخر:

مسار يُدجّن العقل في قوالب فقهية جامدة.

مسار يُخضع الجسد لشبكة من المحرمات والواجبات التي لا أصل لها في الوحي.

مسار يُطوّع الضمير بالتهديد والترهيب، حتى يغدو الدين قيدًا لا حرية.

فالحنيفية صارت زينة لغوية، والشريعة صارت المصنع الحقيقي الذي يُدار منه الدين، فاختُزل الإيمان إلى طقوس ظاهرية، وأُقصيت الحرية التي هي جوهر الميل الحنيف. لم يُلغَ القرآن صراحة، بل حُجِب وراء شبكة من المرويات والمؤسسات، حتى صار مجرد تلاوة بلا أثر، وصار الدين – الذي وُصف بالحنيف – دينًا لغويًا فقط، بينما في حقيقته لم يبق فيه من الحنيفية شيء.

وهكذا، يُرفع شعار “ديننا الحنيف” في المنابر والخطب والكتب، بينما يعيش الناس في ظل دين مُصنّع، مصنعه التاريخ السلطوي، ومادته الشريعة البشرية، وغلافه الرقيق هو كلمة “الحنيفية” التي أُبقيت كواجهة تُسكّن الوجدان وتُخدّر السؤال.

بهذا، نصل إلى المفارقة المؤلمة: ديننا الحنيف لم يعد حنيفًا إلا باللفظ، أما بالواقع، فهو منتَج بشري يُدار كمنظومة سلطة، وقد أُفرغ من روحه القرآنية، حتى لم يبقَ له من الحنيفية سوى الاسم.

 

آليات إعادة إنتاج الوهم

الفصل التاسع: الجامعات ومعامل تخريج الموظفين – حين صارت البيداغوجيا ملغومة

حين ننظر إلى الجامعة، لا نجد فضاءً للبحث عن الحقيقة، بل مصنعًا لإعادة إنتاج الموروث كما هو، مغلفًا بما يسمى “البيداغوجيا”. والسؤال المركزي هنا: هل البيداغوجيا في أصلها ملغومة لتمنع الباحث من أن يكون باحثًا؟ أم أنها صُممت عمدًا لتنتج تقنيين، لا مفكرين؟

البيداغوجيا كأداة ضبط

البيداغوجيا، كما تمارس في العالم الإسلامي، ليست منهجًا لتحرير العقل، بل شبكة لإدارته وضبطه. فهي تُدرِّب الطالب على مهارة التكرار، لا على شجاعة السؤال، وتجعله يتقن فنون الاقتباس والحاشية، لا فنون التفكيك والمساءلة. وكأن الغاية ليست تكوين باحث، بل تدريب موظف قادر على إعادة تدوير التراث دون أن يمسه بسؤال.

إنتاج التقنيين لا المفكرين

الجامعات لا تخرج باحثين، بل “تقنيين” في الفقه، أو الحديث، أو التاريخ، يجيدون استعمال الأدوات المقررة، لكنهم لا يجرؤون على تجاوزها. التقني يعرف كيف يستخدم العُدة، لكن المفكر هو الذي يتساءل: من صنع هذه العدة؟ ولماذا؟ وما حدودها؟ وهنا يكمن الفرق بين من يُوظَّف ومن يُفكِّر.

الخوف من الزندقة

المشرفون أنفسهم – حراس المعبد – يرون أن أي تشكيك في “الكتب المؤسسة” باب إلى الكفر. فمن يجرؤ على القول بأن البخاري أو الشافعي قد لا يكونان ما نُسب إليهما، إنما يهدد القاعدة كلها. لذلك يُجرَّم السؤال قبل أن يولد، ويُخنق الباحث في المهد، ليُسلَّم في النهاية بحثًا تقنيًا “مقبولًا”، لكنه عقيم معرفيًا.

الهندسة الملغومة

النتيجة: منظومة بيداغوجية محكمة، ملغومة منذ أصلها، مفصلة لكي تمنع الباحث من أن يكتشف أن الشريعة – كما تُدرَّس – منتج بشري ملفوف بغشاء إلهي. أي محاولة لكسر هذا الغشاء تُقرأ فورًا كخيانة، لا كبحث. وهكذا، بدلاً من أن تكون الجامعة فضاءً للتحرر، صارت مصنعًا للتطويع، ومعملًا لتكريس الوهم بآليات أكاديمية صارمة.

 

الجامعة كمعمل لإعادة إنتاج الطاعة – حين تحوّلت البيداغوجيا إلى أداة قهر ناعم

إنّ الجامعة، في صورتها الراهنة، لم تُبنَ لتكون فضاءً للبحث الحر أو ميدانًا للتساؤل الجريء، بل صُمِّمت – بوعيٍ أو دون وعي – لتكون مصنعًا يضمن إعادة إنتاج الموروث كما هو، مع بعض التجميلات الشكلية التي توهم الطالب بأنه باحث، بينما هو في العمق مجرد “تقني” مدرَّب على إعادة ترتيب مواد جاهزة مسبقًا، دون أن يُسمح له بالاقتراب من أصلها أو مساءلة شرعيتها. فالبيداغوجيا، التي يُقدَّم لها اليوم بوصفها “المنهج العلمي”، ليست إلا شبكة ضبط وإدارة للعقول، فهي تدرِّب الطالب على تقنيات التكرار والإحالة والتوثيق، وتجعله يتقن فنون الحاشية والهامش، لكنه يُحرَم من القدرة على لمس المركز أو كسر السياج الذي يحيط به، فيبقى أسيرًا لآلة معرفية لا تصنع الحقيقة، بل تصنع الطاعة.

إنّ ما يُسمى “التكوين الأكاديمي” في حقول الدراسات الإسلامية أو التاريخية، لم يُصمم ليصنع مفكرين، بل ليُنتج موظفين، فالتقني يعرف كيف يستخدم العدّة المنهجية الموروثة، لكنه لا يتساءل من صنع هذه العدّة، ولا لأي غاية وُضعت، ولا لماذا بقيت دون مساءلة قرونًا طويلة، وكأن المعرفة تتحول هنا إلى صنعة ميكانيكية، يتقنها الطالب ليُرضي مشرفه، ويُسلّم في النهاية بحثًا “مقبولًا” بمعايير المؤسسة، لكنه عقيم على مستوى الإبداع والفكر. وهكذا، يغدو الباحث الحقيقي مشروعًا غير مرغوب فيه، لأن التفكير النقدي في هذا السياق ليس فضيلة، بل تهديدًا للبنية كلها.

فالمشرفون أنفسهم – حراس المعبد – لا يرون في السؤال حول “الكتب المؤسسة” سوى خطوة أولى في طريق الزندقة، ولذلك فإن أي محاولة للتشكيك في نسبة البخاري أو الشافعي أو أحمد بن حنبل إلى ما يُتداول بأسمائهم تُعتبر خروجًا عن الجماعة قبل أن تكون بحثًا أكاديميًا. فالبنية الأكاديمية هنا لا تعمل كآلة للمعرفة بل كآلية للرقابة؛ إذ يتم قمع السؤال قبل أن يولد، ويُحاصر الباحث بمصطلحات مثل “الفتنة”، “الزندقة”، “الخروج عن المنهج”، فيُرغم على الصمت أو على تسليم بحثٍ ميت من حيث الفكر، حي فقط من حيث الشكل.

وهكذا تتحول البيداغوجيا إلى أداة قهر ناعم، أخطر من أدوات القمع المباشر، لأنها لا تُشعر الباحث أنه مقموع، بل تُقنعه أنه يتعلم. إنها لا تكسر العقل بالعنف، بل تُدجّنه بالمنهج، فلا يجرؤ على أن يسأل السؤال الجوهري: كيف لكتب بهذه الهندسة المحكمة والتبويبات الدقيقة أن تكون من القرن الثاني أو الثالث الهجري بينما لا نجد أقدم نسخة لها إلا في القرن السابع أو الثامن؟ كيف يمكن أن يكون النص سابقًا على مادته؟ ومن الذي استفاد من رفع هذه النصوص إلى مقام المطلق، وتحويل غياب أصلها إلى جدار من القداسة؟

إنّ البنية الأكاديمية اليوم لا تُخرّج باحثين بل موظفين، ولا لأن البيداغوجيا أخفقت في وظيفتها، بل لأنها نجحت تمامًا في وظيفتها الخفية: تجميد السؤال، وإعادة إنتاج الوهم، وتكريس النصوص الغائبة بوصفها حقائق مطلقة، وحماية هذا البناء من أي تفكيك عبر سلاح التخويف الرمزي. فهنا لا يكون القمع سيفًا على الرقاب، بل يكون حكمًا مسبقًا على العقول، بأن التفكير نفسه كفر، وأن النقد زندقة، وأن البحث العلمي لا يُقاس بجرأة السؤال، بل بمدى الطاعة للمرجعيات التي لا تُمس.

وبذلك، تغدو الجامعة معملًا هائلًا لإنتاج الطاعة وإعادة تدوير الخوف، حيث يتخرج آلاف “المتخصصين” الذين لم يُدرَّبوا على التفكير، بل على حراسة المعبد من أي اختراق معرفي، فيستمر الوهم متماسكًا، لا لأنه حقيقي، بل لأن كل يدٍ ارتجفت قبل أن تمتد إلى حجاب الغياب.

 

فالصدمة الإدراكية لا تقع حين يكتشف المرء خطأً عابرًا في رواية أو تضاربًا بين مرويتين، بل حين يُدرك أن البناء كله قد يكون وُضع على أساس من الغياب، وأن النصوص التي نُسبت إلى أئمة القرون الأولى لا دليل على نسبتها إلا إجماع موروث يرفض النقد، وأن الشريعة التي رُفعت إلى مقام القداسة ما هي إلا بناء بشري مُغلّف بقشرة إلهية رقيقة تمنع من لمسه، وكأن الحقيقة قد دُفنت عمدًا خلف جدار من الخوف الجماعي.

وحين يصل العقل إلى هذه العتبة، تنفجر داخله آليات دفاعية متناقضة: فمن جهة، يعرف أن الأدلة قائمة، والبرهان حاضر، والتاريخ المادي يفضح نفسه بغياب النسخ الأولى وانقطاع السند الوثائقي، ومن جهة أخرى، يخشى أن يفتح الباب، لأنه إذا فتحه، فكل شيء سيتهاوى: معنى الدين كما عُرف، سلطة العلماء كما رُفعت، طمأنينة الجماعة كما تواطأت على صونها. وهنا يُفضِّل الكثيرون أن يهربوا إلى آلية نفسية عميقة: الإنكار لا كخيار فكري بل كحاجز بقاء، وكأن اللا-تصديق نفسه يصبح طوق نجاة من السقوط في فراغ الحقيقة.

وهذا ما يجعل “الصعق للعقل” ليس مجرد لحظة انبهار أو دهشة، بل حالة من الشلل المعرفي؛ فالفرد لا يعود قادرًا على التفكير الحر، لأنه يشعر أن السؤال ذاته خيانة، وأن التفكير نفسه صار كفرًا، وأن مجرد تصوّر أن هذه الكتب ليست لأصحابها ضرب من الجنون أو الزندقة. ومن هنا ينبع ما يمكن أن نسميه بـ”الوهم الاستحالي”، حيث يغدو بعض الأفكار – مهما كانت مدعومة بالبرهان – غير قابلة للتصوّر أصلًا، لأنها لو صُوِّرت لانهار الوعي برمته.

والعجيب أن هذه الصدمة لا تقع على مستوى الفرد وحده، بل على مستوى الجماعة كلها، إذ أن المجتمع الديني بأسره قد بُني على بنية وجدانية ترى في الشك خيانة، وفي السؤال فتنة، وفي النقد خروجًا عن الإجماع. فالمسألة إذن ليست معرفية فقط، بل وجودية بامتياز: لأن التصديق الموروث لم يعد مجرد موقف من النص، بل هو شرط للانتماء، وجدار للأمان النفسي، وحدّ فاصل بين الداخل والخارج، ومن يجرؤ على تجاوزه يُطرد لا من الدين وحده بل من هوية الجماعة.

وهكذا يصبح الصعق للعقل اختبارًا للحرية الداخلية: فالعقل الحر، حين يُصعق، يخطو خطوة إلى الأمام، ويقول لنفسه: “إن كان هذا صحيحًا، فعلي أن أعيد بناء كل شيء”، بينما العقل الأسير، حين يُصعق، يتراجع إلى الوراء، ويردد بلا وعي: “يستحيل، هذا كفر، هذا زندقة”، لا لأنه مقتنع بما يقول، بل لأنه يخاف أن يواجه فراغ الأصل.

إننا هنا أمام آلية وجودية دقيقة: فالحقيقة الصادمة ليست مرفوضة لأنها ضعيفة، بل لأنها قوية أكثر مما يحتمل الوعي، لأنها تكشف الفراغ حيث لا يتصور المرء إلا الامتلاء، وتزرع الشك حيث لا يعرف إلا الطمأنينة، وتضع الإنسان أمام نفسه مجردًا من جدار الجماعة، وكأنها تقول له: “الآن عليك أن تختار، إما أن تبقى في دفء الوهم الجماعي، وإما أن تواجه حقيقة الغياب وحدك”. وهنا بالضبط يولد الرعب، لأن مواجهة الحقيقة لا تعني مجرد تغيير رأي، بل تعني هدم الذات وإعادة بنائها على أسس جديدة، وهو ما لا يقدر عليه إلا من امتلك الشجاعة الوجودية، لا الشجاعة الفكرية فقط.

فالخلاصة أن الصعق للعقل ليس حالة معرفية بل سيكولوجية-أنطولوجية، جذرها الأعمق ليس ضعف الحجة بل خوف الإنسان من الفراغ، وذروة مأساتها أن هذا الفراغ هو الأصل الذي صُنعت منه الشريعة، وصار الغياب نفسه جدارًا ضد النقد، حتى لم يعد العقل قادرا أن يتصور أن ما بين يديه ليس دينًا، بل بناء بشري مُقدّس بالصمت، ومصنوع من خوف الجماعة لا من نور الوحي.

الصعق للعقل – حين يصبح التفكير نفسه كفرًا

حين نتأمل اللحظة التي يتعرض فيها العقل البشري لصعقة من هذا النوع، ندرك أننا لسنا أمام مجرد ارتباك معرفي عابر، بل أمام انهيار عميق في نظام الإدراك ذاته، لأن العقل حين يواجه الغياب في موضع كان يُفترض فيه الامتلاء، لا يرى نفسه مضطرًا لإعادة تفسير معلومة واحدة، بل يجد نفسه مضطرًا لإعادة بناء بنيته كلها من جديد، كمن يكتشف أن الجدار الذي عاش يحتمي وراءه لم يكن جدارًا من حجر بل ستارًا من دخان، وأن الأمن الذي كان يظنه يقينًا لم يكن سوى اتفاق جماعي على تجاهل الفراغ.

إن الإنسان، في لحظة الصعق، لا يصطدم بدليل تاريخي فحسب، بل يصطدم بذاته، بما وُرِّث إليه منذ طفولته، بما تشكّل في لاوعيه من مسلمات غير قابلة للمساءلة، بما غُرس فيه من إحساس عميق أن كل شيء يمكن أن يُشكك فيه إلا هذه الركيزة بالذات، فإذا به يكتشف أن هذه الركيزة هي الأكثر هشاشة، وأنها لا تقوم على مادة بل على تكرار، وأنها لم تُحفظ لأنها كانت أصلًا، بل لأنها كانت ضرورة لسلطة أرادت أن تُقيم نفسها باسم الأصل. وهنا يتجمد الوعي في صمت داخلي رهيب، كأن النفس ترفض أن تنطق بالاحتمال الذي بدأ يتسلل إليها، لأنها تعلم أن النطق به سيعني بداية انهيار لا رجعة فيه.

ولعل أخطر ما في الصعق أن العقل لا يرفض الحقيقة الجديدة لأنها غير مقنعة، بل يرفضها لأنها مقنعة أكثر مما ينبغي، لأنها تحمل وضوحًا صادمًا لا يحتاج إلى برهان إضافي، ولأنها تكشف عن فراغ كان العقل قد بناه في داخله كملاذ، فإذا بالملاذ يتحول فجأة إلى هاوية، وإذا باليقين يصبح غريبًا عنه، وإذا به يرى أن كل ما عاشه لم يكن إلا نتاجًا للهندسة الجماعية التي حوّلت الغياب إلى حضور مطلق.

في تلك اللحظة، يتحرك الجهاز النفسي للإنسان بحيلته الأكثر بدائية وفعالية: الإنكار، ليس بوصفه رفضًا عقلانيًا، بل كآلية بقاء، كجدار طارئ يُقام بسرعة قصوى لحماية الذات من الانهيار، لأن مواجهة الحقيقة ستتطلب من الإنسان أن يعيد كتابة ماضيه كله، أن يراجع عقيدته، أن يهدم ما بُني في وجدانه طوبة طوبة، أن يخلع عباءة الانتماء ليقف عاريًا أمام ذاته، بلا جماعة، بلا طمأنينة، بلا إجماع، وكأن الصعق يقول له: إن أردت الحقيقة، فعليك أن تسير وحيدًا. وهنا يتراجع الكثيرون إلى الوراء، يختارون الطمأنينة الزائفة على الحقيقة القاسية، ويختارون أن يعيشوا في وهم ثابت بدل أن ينفتحوا على فراغ مزلزل.

إن الصعق للعقل ليس حادثة فكرية بل تجربة وجودية، لا تُهدد المعلومات بل تهدد الكيان، لأنها تمسّ أكثر النقاط حساسية في النفس: الحاجة إلى الأمان، الرغبة في الانتماء، الخوف من العزلة، اليقين بأن للحياة معنى، فإذا زُعزعت هذه النقاط، لم يعد الإنسان في مواجهة فكرة، بل في مواجهة فراغ أنطولوجي لا قاع له، ولذلك يبدو له أن القبول بالوهم، مهما كان واهيًا، أرحم من مواجهة الحقيقة، وأن الاستسلام لسلطة الغياب، مهما كانت عارية من البرهان، أسهل من الدخول في جحيم المراجعة الذاتية.

والأدهى من ذلك أن هذا الصعق لا يُعاش على المستوى الفردي فقط، بل يُصاغ على مستوى الجماعة كلها كإستراتيجية ضمنية لحماية نفسها، إذ لا يجرؤ أحد على أن يضع يده على الجرح، لأن مجرد الإشارة إليه تعني فضح هشاشة الجماعة بأكملها، وتعني زعزعة الأساس الذي تقوم عليه شرعية سلطتها الروحية والسياسية، ولهذا يصبح السؤال نفسه خيانة، والتفكير نفسه كفرًا، والشك نفسه جريمة، لا لأن العقل فقد القدرة على الفهم، بل لأن الجماعة قررت أن تحرم عليه الفهم، وكأنها تزرع في وعيه من البداية جهاز إنذار داخلي ينفجر بمجرد أن يقترب من هذه المنطقة المحظورة.

ومن هنا نرى أن الصعق للعقل ليس مجرد أثر جانبي للبحث في المخطوطات أو نقد الروايات، بل هو جزء من البنية التي أرادت لها السلطة أن تكون كذلك، لأنه كلما اقترب الفرد من الحقيقة، اصطدم بالخوف، وكلما حاول أن يسأل، ارتطم بجدار التكفير والاتهام، فيتراجع تلقائيًا، ويظل في دائرة الطاعة. وهذه هي قمة المهارة التي بلغت بها الشريعة المصنوعة ذروة قوتها: لم تُقنع الناس بالبرهان، بل عطّلت فيهم القدرة على طلب البرهان أصلًا، حتى أصبح التفكير نفسه علامة على الضلال، وكأن العقل حين يُفكر يعاقب نفسه قبل أن يعاقبه الآخرون.

إن هذه البنية النفسية العميقة، التي تجعل العقل يخاف من نفسه، هي جوهر ما يمكن أن نسميه بـ”الهندسة الصاعقة”، حيث يُربَّى الإنسان منذ بدايته على أن التسليم هو الأمان، وأن النقد هو الفتنة، وأن كل ما يُقال عن الكتب المؤسسة للشريعة هو فوق الشبهة، فإذا ما حاول أن يمدّ يده، ولو قليلاً، ليختبر صلابة هذا الأساس، شعر كأنه يمد يده إلى نار، فإما أن ينسحب مذعورًا، أو أن يحترق وحده خارج الجماعة. وهنا يتحقق الانتصار الأكبر للغياب: ليس فقط أن يُصدَّق كحضور، بل أن يُمنع التفكير فيه أصلًا.

والنتيجة أن الصعق للعقل يصبح هو الامتحان الأعظم للإنسان: هل يختار أن يظل في دفء الوهم الجماعي، محاطًا بطمأنينة مصطنعة تحميه من مواجهة نفسه، أم يملك شجاعة الدخول في العراء، حيث لا جماعة ولا إجماع، بل فراغ هائل يفرض عليه أن يبني إيمانه من جديد؟ هذا هو السؤال الذي لا يطرحه أحد علنًا لكنه يسكن في كل باحث صادق: هل أحتمل أن أرى ما وراء الغشاء الإلهي الرقيق الذي غُلّف به البشري، أم أبقى داخل الدائرة، أعيد ترديد ما قيل، وأعيش مطمئنًا إلى أنني لست وحدي؟

إن الصعق للعقل، في حقيقته، ليس نهاية البحث، بل بدايته الحقيقية، لأنه اللحظة التي يُنتزع فيها الإنسان من أسر الجماعة ليوضع أمام امتحانه الوجودي الخاص، وهنا فقط يبدأ الدين الحق: دين العقل الذي يواجه، لا دين الشريعة التي تُخدِّر، دين الحقيقة التي تُربك، لا دين الطمأنينة التي تُخدَع، دين الوحي الذي يدعو إلى التفكر، لا دين الغياب الذي يحوّل التفكير إلى كفر.

حين يصبح ورع الأموات أثقل من يقين العقل

إن الباحث، حين يدخل في أعماق النصوص المؤسسة لما نُسميه “الشريعة”، يصطدم أول ما يصطدم لا بنصوصها فحسب، بل بالتناقضات التي تتكاثر أمامه كالأصداء في مغارة مظلمة، فيرى روايات تسقط إحداها الأخرى، ويواجه تناقضًا بين الفقه والقرآن، ويجد نفسه أمام أبواب من الأسئلة التي تتوالد بلا نهاية، حتى ليكاد يظن أن ما بين يديه ليس وحيًا بل بناءً بشريًا تعتريه كل علامات الصنعة: الاختلاف، التناقض، التدرج، والتأثر بالسلطة، لكنه رغم ذلك يتوقف فجأة، ليس لأن البرهان ضعيف، بل لأن صورًا أخرى، أكثر قوة من البرهان، تنهض في وجدانه، صور “القديسين” الذين أُلبسوا في المخيال الجمعي ثوب الورع والقداسة.

يتذكر الإمام الفلاني الذي قيل إنه قضى حياته في السجود، والشيخ العلاني الذي حُكي عنه أنه لم يضحك إلا تبسمًا، والفقيه الآخر الذي صُوّر في كتب التراجم وكأنه ملاك يمشي على الأرض، فيسأله قلبه قبل عقله: كيف أجرؤ على القول بخطأ هؤلاء؟ أأنا وحدي على حق بينما أمة بأكملها، بجهابذتها وزهادها وورعيها، كانت على باطل؟ ألا يكون عقلي قد زلّ بي، وأن الحق كان معهم، وأن التناقض الذي أراه إنما هو قصور في فهمي لا خلل في بناءهم؟

هذا الصراع النفسي هو لبّ آلية الحماية الجمعية التي صاغتها السلطة عبر القرون: أن تجعل من رموز الماضي جدارًا مقدسًا لا يمكن تجاوزه، فإذا اهتز النص فلتكن القداسة في الرجال، وإذا انكشف الفراغ في الوثيقة فلتُسد الفجوة بفضائل الصالحين. وهكذا يصبح ورع الأموات أثقل من يقين الأحياء، وتتحول القداسة من فكرة إلى أداة قمع صامتة: إذ لا أحد يجرؤ على مواجهة نفسه حين يخطر له أن عقله أصدق من كل هذه الوجوه النورانية التي يراها في مخيلته.

إن سيكولوجية هذا الموقف تكشف عن واحدة من أعمق آليات “الصعق للعقل”: ليس الصعق من غياب المخطوط أو تناقض الروايات، بل الصعق من احتمال أن يكون المرء وحده في مواجهة وهم جمعي، أن يكون الفرد أصدق من الجماعة، أن يكون عقله أوثق من إجماع الصالحين، أن تكون عينه التي ترى التناقض أقوى من آلاف العيون التي سكتت، وهنا يدخل الإنسان في امتحان وجودي مضاعف: هل يثق بعقله أم يركن إلى طمأنينة الجماعة؟

إن هذه الآلية ليست بريئة ولا عفوية، بل صيغت بعناية عبر “هندسة الرواية”: فكتب التراجم لم تُكتب لتأريخ الأئمة فقط، بل لتصنيع صورة أسطورية عنهم، تحوّلهم إلى نماذج لا تُمس، بحيث يصبح مجرد التفكير في نقدهم ضربًا من الجرأة على الصالحين، وجرأة على الصالحين تعني جرأة على الدين نفسه. فكيف يجرؤ باحث أن يطعن في كتاب أو منهج إذا كان مؤلفه قد وُصف بأنه “حافظ الأمة” أو “إمام الدنيا” أو “المحدث الذي لم يُخلق مثله”، أو إذا قيل عنه إنه رأى النبي في المنام يرش عليه الماء الطاهر، أو أن جبينه كان يضيء في الليل؟

إنها لعبة دقيقة: كلما ضعفت الوثيقة، قويت الأسطورة، وكلما فُقد النص، تضخمت صورة المؤلف، حتى صار السؤال عن النص لا يُجاب بدليل، بل بسرد فضائل لا تنتهي. فإذا قال الباحث: أين المخطوط؟ قيل له: وهل تشك في رجلٍ كان يصلي كذا ركعة في الليل؟ وإذا قال: هذا التناقض لا يستقيم، قيل له: وهل أنت أعلم من الإمام الذي لُقّب بـ”شيخ الإسلام”؟ وإذا قال: هذه المرويات تبدو مصنوعة، قيل له: وهل أنت أصدق من الأمة التي تلقتها بالقبول؟ وهكذا يُصعق العقل، لا لأنه لا يرى الحقيقة، بل لأنه يُحاصر بقداسة لا علاقة لها بالحقيقة، قداسة تحوّلت إلى جدار نفسي أقسى من أي سيف.

ولذلك فإن الباحث حين يصل إلى هذه اللحظة لا يواجه نصوصًا فقط، بل يواجه ذاته، يواجه صورة “الطفل الداخلي” الذي تربى على توقير هؤلاء، يواجه الذاكرة العاطفية التي ارتبطت منذ الصغر بسماع أسمائهم مقرونة بالخشوع، يواجه اللاوعي الذي ربط الإيمان بالله بالإيمان بهم، وهنا يصبح الصراع وجوديًا: إذا رفضت نصوصهم، هل أكون قد رفضت الدين كله؟ إذا شككت فيهم، هل أكون قد خنت الله؟ إذا صدقت عقلي، هل أكون قد كفرت بإجماع الأمة؟

إنه امتحان لا يطيقه الكثيرون، ولهذا نراهم يتوقفون عنده، يختارون التبرير بدل النقد، ويقولون لأنفسهم: “لعلني أنا المخطئ”، “لعل عقلي قاصر”، “لعل الأمر أعقد مما أرى”، وهكذا يعودون إلى حضن الجماعة، إلى طمأنينة الورع الأسطوري، إلى الأمان الزائف الذي يقدمه الإيمان بالقديسين، بدل مواجهة العراء القاسي للحقيقة.

لكن الحقيقة تبقى، تتسرب في الليالي الصامتة، تنبض في أعماق العقل، تذكّر الباحث أن الله لم يطلب منه أن يقدّس الأئمة، بل أن يفتح عينيه، وأن القرآن لم يجعل وسطاء بينه وبين الفهم، بل قال له: “أفلا تعقلون؟”، “أفلا تتفكرون؟”، “لقوم يعقلون”. وهنا فقط يمكن للباحث أن يعبر من امتحان القديسين إلى امتحان ذاته، من رهبة الأسطورة إلى جرأة العقل، من عبادة الأموات إلى وفاء للوحي الحي، وحينها يبدأ الدين الحق في الانبثاق من جديد، لا دين الشريعة المصنعة، بل دين القرآن الذي لم يحتج إلى رجال ليُقدّسوه، لأنه هو بنفسه قد قدّس العقل وجعل السؤال شرطًا للإيمان.

البنية المفككة تنتج مجتمعًا مفككًا

حين ننظر إلى حال المسلمين في حاضرهم الممزق، لا ينبغي أن نتصور أن التشرذم الذي يعيشه واقعهم مجرد عرض عابر أو نتيجة لسوء تفاهم تاريخي بين الفرقاء، بل هو حصيلة بنيوية لبناء ديني مصنوع، تأسس منذ البداية على نصوص متناقضة، وإجماعات وهمية، ومرويات مشكوك في أصلها، حتى صار الانقسام مكتوبًا في جينات هذا البناء، وكأن الشريعة نفسها — لا الواقع السياسي وحده — قد خُطّط لها أن تكون مولِّدة للفرقة، حاضنة للنزاع، معمّدة بالاختلاف.

ذلك أن الشريعة، بما هي إطار بشري صُنِع وغُلّف بغشاء إلهي رقيق، لم تنشأ بوصفها امتدادًا طبيعيًا للوحي القرآني الذي جاء بلسان مبين يهدف إلى تحرير الإنسان من عبودية الإنسان، بل بوصفها منظومة فقهية تراكمت عبر القرون تحت ضغط السلطة والسياسة، وصيغت بطريقة تضمن بقاء التناقضات قائمة لتُفتح أبواب التأويل والفتوى لكل سلطان جديد، ولكل إمام يريد أن يثبت هيبته، ولكل جماعة تبحث عن شرعية فوق طبيعية لوجودها. وهكذا تحولت هذه المنظومة إلى بنية متشظية في أصلها، إذ كل نصٍّ يُوَلِّد نقيضه، وكل قاعدة تُقابَل باستثناء، وكل مذهب لا يعيش إلا بتكفير الآخر، حتى أصبح المسلم يعيش داخل دائرة من الاحتمالات المتنازعة، لا يجد فيها يقينًا إلا من خلال التبعية العمياء لما ورثه، ظانًا أن وراثته يقين، وهي في الحقيقة استسلام للخوف من السؤال.

إن المفارقة الكبرى، والتي لا يجرؤ العقل الجمعي على الاعتراف بها، هي أن هذا التناقض ليس ناتجًا عن سوء نقل أو ضعف ذاكرة أو تعدد ثقافات، بل هو نتيجة مقصودة لبناء هندسي محكم: إذ كان على السلطة التي أرادت أن تحتكر معنى الدين أن تنتج نصوصًا تكفي لإرضاء كل فئة، وأن تترك في ثناياها من الثغرات ما يسمح بظهور المذاهب والمدارس، ليبقى الدين دائمًا في حالة حركة وصراع، وليبقى المؤمن دائمًا محتاجًا إلى “الوسيط” الذي يشرح له ما لا يفهم، ويفتي له فيما لا يجرؤ أن يبتّ فيه بنفسه، وهكذا تحولت الحاجة الطبيعية إلى سؤال معرفي، إلى تبعية مرضية دائمة.

من هنا نفهم أن التشرذم الإسلامي لم يكن قط طارئًا، بل كان نتيجة طبيعية لبنية الشريعة نفسها؛ فهي لم تُصنع لتوحِّد، بل لتُشرذِم، لم تُصمم لتكون مركزًا جامعًا، بل لتكون سوقًا دينية مفتوحة، يتنقل فيها المسلم بين مذهب ومذهب، وبين شيخ وشيخ، وبين دولة ودولة، وكأن الدين لم يعد دين الله بل دين السوق، حيث الكثرة قيمة في ذاتها، والانقسام ثراء، والتعدد دليل على “سعة الرحمة”، بينما في الحقيقة هو دليل على ضياع البوصلة، وانفراط العقد، وتحول الأصل القرآني البسيط إلى متاهة من الفروع التي لا تفضي إلا إلى صراع أبدي.

ولذلك فإن التشرذم، الذي يبدو اليوم لعوام الناس فضيحة حضارية، وللباحثين معضلة تفسيرية، ليس سوى النتيجة المنطقية لهيكلية وُضعت منذ قرون، حيث تم بناء نصوص غامضة بلا سند أصلي، ثم تزيينها بهالة قداسة تمنع من مساءلتها، ثم تركها تتناسل في بطون الكتب حتى صارت كالمتاهة التي يدخلها الباحث ليخرج منها أكثر حيرة مما دخل، وحين يبحث عن الخيط الناظم لا يجد إلا سلطة فقيه أو إمام أو سلطان.

إن المجتمع الذي يتأسس على نصوص مفككة، لا يمكن أن يكون إلا مفككًا؛ فالتشرذم ليس خطأ في التطبيق، بل هو هوية هذا البناء؛ وهو ما يفسر أن المسلمين، رغم خيرات أوطانهم وغنى مواردهم واتساع رقعتهم، لم يعرفوا وحدة حقيقية منذ قرون، لأن الأصل الذي يوحِّدهم غُيِّب، والأصل الذي يشرذمهم صُنِع ليبقى حاضرًا، وهكذا أصبح الانقسام قدَرًا لا يُقاوَم، لأنه جزء من المعادلة ذاتها، معادلة دينية صنعتها الشريعة وباركها السلطان.

استحالة النجاة من بنية مفخخة

حين نتأمل الواقع الممزق الذي يعيشه المسلمون، ونبحث في أسباب عجزهم المزمن عن الخروج من دائرة الانهيار والتشرذم، فإن السؤال الذي يطرح نفسه ليس: لماذا نحن في هذا الحال؟ بل: كيف كان يمكن أصلًا أن نكون في غير هذا الحال؟، إذ أن البنية التي تأسس عليها التدين لم تكن بريئة، ولا عفوية، ولا امتدادًا طبيعيًا للوحي القرآني، بل كانت منذ بداياتها بناءً مفخخًا، محشوًا بالثغرات والتناقضات والاختلافات المقصودة، بحيث يستحيل أن ينتج عنها واقع متماسك، أو جماعة موحدة، أو أمة تقف على قدمين ثابتتين.

ذلك أن الشريعة – بما هي دين بشري مصنع، أُلبس لباس القداسة – لم تُصمم لتكون حبلًا واحدًا يُمسك به الجميع، بل لتكون شبكة متشعبة من الخيوط، بعضها يلتف على بعض، وكلها تقود إلى مزيد من الارتباك، حتى يغدو التدين ذاته فخًّا لا خلاص منه: فالمؤمن العادي إذا حاول أن يلتزم بمدرسة واحدة وجد نفسه متهمًا بالضلال عند أتباع المدارس الأخرى، وإذا حاول أن يوفّق بينها ضاع في بحر التناقضات، وإذا عاد إلى القرآن وحده رُمي بالكفر أو الزندقة. وهكذا، كان كل طريق مسدودًا سلفًا، لأن المنظومة لم تُبنَ لتنتج استقرارًا، بل لتنتج تبعية دائمة لسلطة الفقيه الذي وحده يملك الحق في فك ألغاز هذه المتاهة.

إن الذي يظن أن حال المسلمين يمكن أن يكون غير ما هو عليه، يتوهم أن الأصل الذي يقومون عليه أصل سليم، بينما الحقيقة أن الأصل ذاته مُصطنع، مُفخخ، مُجهَّز مسبقًا ليُنتج الفوضى. فكما أن معادلة رياضية خاطئة لا يمكن أن تعطي نتيجة صحيحة مهما حاولت إصلاح خطوات الحل، كذلك فإن معادلة التدين التي بُنيت على نصوص غائبة، وعلى إجماعات وهمية، وعلى سلطات متوارثة بالهيبة لا بالبرهان، لا يمكن أن تعطي أمةً واحدةً مستقرة، بل لا بد أن تعطي فرقًا متنازعة، وطوائف متحاربة، وأفرادًا ممزقين بين نفاقٍ معلن وكفرٍ مكتوم، أو استسلامٍ كامل للجهل.

وحين نقول إن الانقسام قدر محتوم في هذا البناء، فإننا لا نعني أن القرآن نفسه عاجز عن توحيد الناس، بل نعني أن البنية التي صُنعت باسم القرآن كانت مصممة لتُبعد القرآن عن مركزه، وتضع مكانه نصوصًا بشرية ملفقة أُحكمت هندستها كي تحمل في داخلها بذور الصراع: أحاديث متعارضة، أقوال منسوبة إلى أئمة لم يكتبوها، تفريعات لا نهاية لها، ومذاهب لا تستقر إلا بتكفير غيرها. وهكذا صار “الوحي” في وعي الأمة ليس ما أنزل الله، بل ما رتبه البشر ورتقوه ورتبوا له تبويبات وأسفارًا تناسب عصر المماليك والسلاجقة أكثر مما تناسب عصر التنزيل.

إن انهيار الواقع الإسلامي اليوم ليس حادثة عابرة، بل هو اكتمالٌ لمسار طويل، بدايته كانت في لحظة “أسلمة الشيطان”، حين أُلبس البشري لباس الإلهي، وحُوِّل الدين إلى شريعة، والوحي إلى فقه، والحرية القرآنية إلى قهر فقهي، ومنذ تلك اللحظة لم يعد ممكنًا أن يُنتج هذا البناء إلا واقعًا كواقعنا: تشرذم لا ينتهي، استبداد باسم الله، مجتمع منافق في داخله، وملحد في هامشه، ومنبوذ قرآني لا يجد لنفسه مكانًا إلا في الظل.

لذلك فإن السؤال الحقيقي ليس: كيف نخرج من هذا التشرذم؟ بل: هل يمكن أصلًا أن نخرج منه ما دمنا نعيش في بنية صُنعت لتفجّرنا من الداخل؟ والجواب، إذا تحلينا بالشجاعة، هو أن النجاة لا يمكن أن تكون إلا بالخروج من أسر هذه البنية كلها، لا بترميمها ولا بترقيعها، لأن ما صُمِّم على الفساد لا يُصلح، وما بُني على الغياب لا يُعيده الحضور، وما صيغ ليخدم السلطة لا يمكن أن يتحول فجأة إلى أداة للحرية.

استحالة الحل من رجال الدين

إنّ من يتطلّع إلى رجال الدين باحثًا عن مخرج من الأزمة، يشبه من يطلب من الحارس أن يفتح الباب وهو نفسه الممسك بالمفتاح ليبقى الباب مغلقًا إلى الأبد؛ ذلك أن رجال الدين – في بنيتهم ووظيفتهم – لم يُعيَّنوا ليحرروا الناس، بل ليبقوهم داخل قفص محكم، قفص وُضعت مفاتيحه في جيوبهم، وصيغت جدرانه من خوف الجماعة، وجُعل سقفه من قداسة مصطنعة، فإذا ما حاول أحد أن ينظر إلى السماء من نافذة صغيرة، سارعوا إلى اتهامه بالزندقة حتى لا يتجرأ أحد غيره على رفع رأسه.

رجال الدين، في بنية التدين البشري المصنع، ليسوا مجرد شارحين للنصوص، بل هم حراس لبنية كاملة، بُنيت لتستمر بفضلهم. فهم يستمدون شرعيتهم من الشريعة، ولو ظهر للناس أن الشريعة بشريّة، لانكشف أن سلطتهم هي الأخرى مصطنعة، ولذلك تراهم أشد الناس حرصًا على إغلاق باب السؤال، وأمهر الناس في تحويل التفكير إلى جريمة، لأن بقاءهم مشروط ببقاء الخوف، واستمرار مكانتهم مرهون باستمرار النصوص الغائبة في مقام الطوطم الذي لا يُمس.

إن الذين ينتظرون من رجال الدين إصلاحًا، يغفلون عن أن الإصلاح الحقيقي لا يمكن أن يتم إلا بنقد الأصول التي صنعتهم، بينما هم لا يستطيعون نقدها لأنهم لو فعلوا لسقطوا معها، إذ كيف يجرؤ فقيه أن يقول: “الشريعة بشرية” وهو يعلم أن كل سلطته الروحية والاجتماعية والاقتصادية قائمة على إقناع الناس بأنها إلهية؟ وكيف يعترف محدّث بأن كتب الحديث بنيت على غياب الوثائق، وهو يعلم أن هذا الاعتراف يُفقده مكانته كحارس للذاكرة؟ وكيف يعترف شيخ طريقة صوفية بأن المسار كله وُضع في لحظة تاريخية مريبة، وهو يعلم أن كل أتباعه سيتفرقون عنه إن فقدت الأسطورة بريقها؟

لهذا فإن استحالة الإصلاح من رجال الدين ليست عيبًا في أخلاقهم الفردية – فقد يكون فيهم الصادق أو الورع أو حسن النية – بل هي استحالة بنيوية، لأن موقعهم ذاته لا يسمح لهم إلا بأن يكونوا مدافعين عن البنية، حتى وإن كان ذلك الدفاع في صورة وعظ أو فتاوى أو خطب ظاهرها الرحمة وباطنها الإغلاق. إنهم ليسوا خونة للوحي، لكنهم أسرى لوظيفة حُدِّدت سلفًا: وظيفة الوسيط الذي يُقنع الناس أن لا خلاص لهم إلا عبره، وأن لا فهم للوحي إلا من خلال تفسيراته، حتى يتحول الدين إلى نظام وساطة، لا إلى علاقة مباشرة بين الإنسان وربه.

والأدهى من ذلك أن كل محاولة لإصلاح المؤسسة من الداخل تتحول بالضرورة إلى تجديد لسطوتها لا إلى نقض لها؛ فحين يخرج عالم ليقول “نحتاج إلى تجديد الخطاب الديني”، فإن ما يفعله في العمق هو إعادة ضخ دم جديد في جسد قديم، بحيث يُعطي الناس وهم التغيير بينما تبقى البنية كما هي، بل وتزداد قوة لأنها أثبتت قدرتها على امتصاص النقد وتحويله إلى وقود لمزيد من البقاء.

لذلك، فإن الحل لا يمكن أن يأتي من رجال الدين، لأنهم في جوهرهم جزء من المشكلة، ولا يمكن أن يكونوا أبدًا جزءًا من الحل، لا لأنهم أشرار، بل لأن هندسة البنية نفسها صاغتهم بهذه الوظيفة: أن يحرسوا الغياب، أن يقدسوا الشريعة، أن يربطوا الدين بما صنعه البشر لا بما أنزل الله، وأن يقنعوا الجماعة أن النجاة في الطاعة لا في التفكير. ومن ثم، فإن أي تغيير حقيقي لا بد أن يأتي من خارج أسوار المؤسسة، من العقل الحرّ الذي يجرؤ على أن يقول: “هذا ليس دين القرآن، بل دين الشريعة”، ولو وقف وحده في مواجهة جدار الإجماع.

وهم النجاة من الداخل

إنّ أخطر ما يواجهه الوعي الجمعي في لحظة أزمته الوجودية ليس أن يكون أسيرًا لبنيةٍ أُحكمت حلقاتها بعناية عبر قرون، بل أن يتوهّم أن النجاة ممكنة من داخل تلك البنية نفسها، فيظلّ العقل يراهن على إصلاح ما لا يُصلح، ويرى في مناصري النظام أدوات لتقويضه، وكأننا نطلب من الحائط أن يهدم نفسه أو من السقف أن ينهار بملء إرادته، غير مدركين أن ما نحاول أن نعالجه هو عين ما يغذّي المرض.

فالداخل، أي الداخل المؤسسي للدين المصنع، ليس فضاءً مفتوحًا يمكن أن يولّد النقد من قلبه، بل هو شبكة محكمة تبتلع النقد وتحوّله إلى جزء من جهازها الدفاعي، بحيث يصبح أي صوت ناقد داخلها مجرد طبقة إضافية من الطلاء الذي يُخفي التشققات، ويغدو من يصرخ في وجهها من الداخل أشبه بالمرآة التي تعكس الأزمة لتعيد تأكيد الحاجة إلى المؤسسة ذاتها، وكأن النظام وُضع ليبتلع خصومه قبل أن يواجههم.

وإنّ أخطر أشكال الوهم أن يُخيَّل للباحث أو للعامة أنّ في الداخل من سيجرؤ على هتك الحجاب، لأن الداخل ذاته قائم على منطق البقاء، والبقاء مشروط بتقديس البنية، ومن ثم فإن كل ما يُقدَّم باسم الإصلاح لا يتجاوز إعادة ترتيب المقاعد في المسرح ذاته، بينما المشهد والسيناريو والمخرج والجمهور لم يتغيروا، بل يُعاد إنتاجهم بذات الصياغة التي منعتهم منذ البداية من أن يسألوا: من كتب؟ ولماذا؟ وكيف بقي ما بقي وغاب ما غاب؟

هذا الوهم ليس بسيطًا، بل هو وهم مركّب، لأنه يستند إلى إحساس زائف بالأمان: “دعوا العلماء يصلحون شأن الدين”، وكأن العقل يهرب من مسؤوليته ليلقيها على مؤسسةٍ لا تستطيع أن تهدم ذاتها، لا لأنها لا تريد، بل لأنها لا تُبنى إلا على استمرارية ذاتها، فالهدم يعني محوها، ومحوها يعني فقدان كل ما تراكم حولها من سلطات وامتيازات ونفوذ رمزي ومادي، وهي أشياء تتجاوز الأشخاص لتصل إلى بنية متكاملة من المصالح والخيالات الجماعية التي لا تتجرأ على مواجهة فراغها.

إن الداخل، في حقيقته، فضاء منغلق يتغذّى على طاقتنا، أشبه بماكينة ضخمة تبتلع أصوات النقد وتحوّلها إلى أصداء مكرورة لا تُزعج إلا من أطلقها، بينما تظلّ البنية تمارس هيمنتها الرمزية من دون خدش يُذكر، لأن الداخل لا يسمح بالخروج عن النص، ومن تجرأ داخل أسواره على المساءلة الحقيقية كان نصيبه الطرد أو التكفير أو العزل، ليُصبح عبرة لمن يعتبر، وكأن العقوبة بحد ذاتها هي الضمانة القصوى لاستمرار الغياب.

ولأن الداخل لا يعيش إلا بالتكرار، فإن أي محاولة للتغيير من داخله تغدو مجرد تجديد للطقوس، وتدويرٍ للأزمة ذاتها في صور جديدة، كمن يبدّل الأقنعة بينما الوجه واحد، أو يغيّر الموسيقى بينما الرقص ذاته، فلا ينكسر الإيقاع بل يتكرّس، ولا ينهار النظام بل يزداد رسوخًا، لأن وهم التغيير يمنح الناس شعورًا زائفًا بالتحرر، وهو بالضبط ما تحتاجه البنية لتستمر دون مقاومة حقيقية.

من هنا نفهم أن النجاة لا يمكن أن تُستمدّ من الداخل، لأن الداخل صُمّم ليُحاصر السؤال قبل أن يُولد، وليحوّل التفكير إلى تهمة قبل أن يُنطق، وليربط أي محاولة للتحرر بتهمة الخيانة، فيغدو العقل أسيرًا لآلية دفاعية تحوّل الضحية إلى متواطئ مع جلاده، وتحوّل الباحث عن الحرية إلى جندي يحرس السجن الذي أراد أن يهرب منه.

وهكذا ندرك أن أوهام النجاة من الداخل ليست إلا استمرارًا للأسر بأدوات ألين، وأن الخلاص الحقيقي لا يبدأ إلا حين يجرؤ العقل على الانفصال عن البنية كلها، والخروج من جدرانها إلى فضاء أرحب، حيث الدين لا يُختزل في شريعة بشرية مغشوشة، بل يستعاد في صفائه القرآني الذي لا يحتاج إلى وسيط، ولا إلى مؤسسة، ولا إلى طقوس تصادر على العقل قبل أن يفكر.

استحالة القلوب المزدوجة

إنّ أخطر ما يجعل أوهام الإصلاح من الداخل عبثًا محضًا، هو أن الداخل ذاته قائم على مبدأٍ لا يمكن تجاوزه: أن الدين صار مصدرًا للعيش، ومجالًا للرزق، وسوقًا متسعًا تُباع فيه الفتاوى كما تُباع السلع، وتُدار فيه المناصب كما تُدار الشركات، وتُبنى فيه الهيبة كما تُبنى القصور، فإذا كان القلب أصلًا مشدودًا إلى مصلحة مادية ملموسة، فكيف يُنتظر منه أن ينفصل عنها ليحيا لحظة صدق روحي خالص؟ وكيف نطالب من يعيش بفضل الشريعة أن يعترف بأنها غطاء بشري على الوحي، وهو يعلم أن اعترافًا كهذا يعني سحب الشرعية من يده، وتجريده من الامتيازات التي راكمها عبر قرون؟

إن الجمع بين القلب الباحث عن الحقيقة، والقلب الراكض وراء المصلحة، ليس فقط أمرًا صعبًا، بل أمر مستحيل في البنية التي نتحدث عنها، لأن البنية لم تُصنع لتؤوي الباحثين عن الله، بل لتؤوي المستفيدين من إدارة اسم الله، ومن ثم فإن ازدواج القلب هنا لا يكون توازنًا، بل يكون تمزقًا لا حلّ له، حيث تغلب المصلحة على الروح، ويُضحّى بالحقيقة في سبيل الامتياز، ويُستبدل نور الوحي بظلّ السلطة.

ومن ينظر إلى تاريخ هذه المؤسسات الدينية يدرك بوضوح أن كل محاولة إصلاحية حقيقية وُئدت في مهدها، لا لأن الفكرة لم تكن قوية، بل لأن حاملها لم يكن يملك سوى قلب واحد، بينما الذين وُكِّل لهم أمر الدين كانوا ذوي قلبين: قلب يردد شعارات التقوى، وقلب يزن المكاسب، والقلب الثاني هو الذي انتصر دومًا، لأن البنية صُمّمت لتكافئ من يُحسن إدارة المصالح لا من يُحسن خدمة الروح.

ولذلك فإن انتظار الإصلاح من رجال الدين هو أشبه بانتظار التمر من شجرة يابسة؛ لأنهم، بوعي أو بغير وعي، لا يستطيعون إلا أن يكرروا المنظومة التي تُطعمهم، فالهدم يعني الجوع، والنقد يعني العزل، والتعرية تعني فقدان مصدر السلطة، ولا أحد يتنازل طوعًا عن امتيازاته لوجه الحقيقة، بل يلبسها ما أمكن غطاءً منطقًا شرعيًا أو تأويليًا ليواصل حماية مصالحه، وكأن الخوف من الحقيقة صار وظيفة، والتستر عليها صار عبادة.

وهنا يظهر البُعد السيكولوجي الأخطر: أنّ من يعيش على الدين لا يمكنه أن يتحرر منه، لأنه إن تحرر، فقد موضع رزقه ومكانته ودفء الجماعة، ولهذا تراه يقاوم النقد بكل ما أوتي من أدوات: التخويف، التكفير، التشهير، وكلها ليست وسائل معرفية، بل دفاعات وجودية، إذ هو لا يدافع عن نصوص بقدر ما يدافع عن طعامه ومكانه ولقبه، وكأن المساس بالشريعة تهديد مباشر للخبز اليومي، لا مجرد مساس بكتاب قديم.

ولذلك فإننا حين نطالب “العلماء” بأن يكونوا جسورًا إلى الحقيقة، فإننا نُخطئ في طبيعة الطلب؛ لأنهم جسور نحو أنفسهم، ونحو مصالحهم، ونحو استمرار سلطتهم، أما الحقيقة فهي غريبة عنهم كما الغريب في وطن ليس وطنه. ومن هنا يمكننا أن نقول بثقة: لا يمكن أن يجتمع في قلب واحد مصلحة مادية وروح خالصة، ولا يمكن أن نطلب من مؤسسة قامت على المكاسب أن تهدم ذاتها من أجل الله، لأن الله ليس ضمن جدول رواتبها، بل ضمن شعاراتها فقط.

إن هذا الإدراك المؤلم هو الذي يفتح الباب للسؤال الوجودي الأكبر: إذا كان الداخل مغلقًا، وأهله لا يستطيعون إلا أن يحرسوا ما بنوا، فهل يبقى لنا إلا أن نخرج؟ هل يبقى لنا إلا أن نستعيد الدين من خارج الشريعة التي ابتلعته، ومن خارج المؤسسات التي سجنته، ومن خارج القلوب المزدوجة التي قتلت فيه كل صفاء؟

أضف تعليقك

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)

تعليقات ( 0 )