ياسين الطالبي العدلُ هو الميزانُ الذي يزنُ القيمَ والمعاني، ويقفُ عندَ تقاطعِ الرؤى بين الإلحادِ والإيمان. في التصورِ الإلحادي، يُنظرُ إلى الإنسانِ كمجردِ نتاجٍ لتفاعلاتٍ بيولوجيةٍ وتطورٍ عشوائي، مما يجعلُ مفهومَ العدلِ بلا أساسٍ موضوعي، إذ لا غايةَ تُوجّه الكونَ ولا قانونَ يَسمو على قوانينِ البقاء. ومع ذلك، يظهرُ التناقضُ حين يُطالبُ الإلحادُ بعدالةٍ لا يعترفُ بمنظومةٍ تمنحُها الشرعية، وحين يستنكرُ الظلمَ في عالمٍ يراهُ خاضعًا للمصادفةِ والفوضى. لكن المفارقةَ الكبرى تكمنُ في أن الإلحادَ كثيرًا ما يُولدُ من استنكارِ الظلمِ ذاته، إذ ينكرُ البعضُ وجودَ اللهِ لأنهُ يسمحُ بوقوعِ الظلم، غيرَ مدركين أن هذا الإنكارَ يُفضي إلى عالمٍ بلا معيارٍ للعدلِ أصلًا، حيثُ يُختزلُ كلُّ شيءٍ في معادلاتِ القوةِ والبقاء، فلا ظلمَ ولا إنصافَ في عالمٍ خالٍ من الغاية. إن الاحتجاجَ على الظلمِ يفترضُ ضمنيًا وجودَ ميزانٍ يتجاوزُ المادة، ويؤمنُ بعدالةٍ ليست وليدةَ الصدفةِ ولا خاضعةً لتقلباتِ القوة. وهنا تتجلى المفارقةُ العميقة، حيثُ يستعيرُ الإلحادُ مفهومَ العدلِ من رؤيةٍ إيمانيةٍ تمنحُ الوجودَ نظامًا وغاية، لكنهُ في الوقتِ ذاتهِ يرفضُ الاعترافَ بجذورها، مطالبًا بعالمٍ منصفٍ بينما ينكرُ وجودَ المبدأ الذي يمنحُ العدالةَ معناها الحقيقي. في الرؤية الإيمانية، العدل ليس فوريًا لكنه حتمي، لأن الدنيا ليست معيارًا نهائيًا للحكم، بل دار اختبار قبل الحساب. الإنسان يملك الإرادة، ويُترك له المجال ليقرر، وهنا يصبح تأجيل العقوبة ليس إنكارًا للعدل بل فرصةً لاختبار الخيارات. العدل الإلهي لا يعمل برد الفعل بل بمنظومة أكثر شمولًا، حيث يُمنح الطغاة فرصةً ليتمادوا حتى يسقطوا سقوطًا كاملًا، ويُترك للمظلوم مجالٌ للصمود والارتقاء. في القرآن نجد التفسير واضحًا: "وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ۚ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ...". إن تأخير العقوبة لا يعني غياب العدالة، بل تحققها في صورتها الأتم. الزمن ليس معيارًا للعدل، بل للعقل البشري. العدل ليس لحظة بل سيرورة تمتد حتى تكتمل أركانها. كما أن القوانين البشرية لا تُطبق فورًا، فإن العدالة الإلهية ليست انفعالًا لحظيًا بل جزءًا من نظام أشمل. مقاومة العبثية تبدأ حين يدرك الإنسان أن الخير لا يكتسب قيمته إلا حين يكون خيارًا لا نتيجة قسرية، وأن النضال ضد الظلم ليس مجرد طلبٍ للعدل بل هو ذاته معنى العدل. لا يُفترض بالإنسان أن يكون متفرجًا في انتظار العدالة، بل فاعلًا في تحقيقها. العدل ليس عزاءً مؤجلًا بل تجربة مستمرة تشارك فيها الإرادة الإنسانية. الإنسان، في ضيقه اللحظي، يقبل تأجيل العدالة حين تصدر من محكمة بشرية، لكنه يتمرد حين يكون التأخير صادرًا عن قانون الوجود. يبرر تعقيد الإجراءات، ضرورات التحقيق، تراكم القضايا، لكنه لا يمنح العدل الإلهي ذات المساحة الزمنية، كأنه يريد قاضيًا يعمل وفق استعجاله الشخصي لا وفق حكمة الزمن. هذا التناقض ليس سوى امتداد لوهم السيطرة الذي يعيشه الإنسان؛ يعتقد أن الأمور يجب أن تجري وفق تصوره، وعندما لا يجد العدل في وقته، يُعلن تمرده كأنما يملك مفاتيح المطلق. لكنه يغفل أن العدل ليس استجابة لحظية، بل معادلة تُبنى عبر طبقات لا يدركها وعيه المحدود، فلا يُنقَض ميزان لمجرد أن صاحبه لم يرَ كفته تُرجَح بعد. القلق من تأجيل العدل هو قلق من العبث، لأن الإنسان لا يخشى الظلم بحد ذاته بقدر ما يخشى أن يكون الظلم بلا نهاية، أن يكون العدل مجرد وهم خادع، أن تكون الحياة لعبة فوضوية لا ميزان فيها. لذلك يتمرد على التأخير، لا لأنه لم يرَ الحساب بعد، بل لأنه يخاف ألا يراه أبدًا. لكنه بهذا يفترض أن العدل لا يكون عدلًا إلا إذا رآه بعينه، كأنما حكمه على العالم هو المعيار، كأنما الحقيقة تُقاس على حدود تجربته الضيقة. ولو أدرك أن العدل يتجلى بطرق لا يشترط أن يكون شاهدًا عليها، وأن الميزان لا يحتاج إلى تصفيق الجماهير ليكون قائمًا، لما انزلق إلى هذا القلق الوجودي الذي لا ينتهي. لكن حين يفقد العدل امتداده في الزمن، وحين يُطلب كاستجابة لحظية لا كميزان أزلي، يولد الإلحاد كرد فعل على التدين الفاسد، كما لو كانا موجتين متعاقبتين في بحر الفكر الإنساني، كلتاهما تنبع حين تفسد الأخرى، وكأنهما روحان متصارعتان في جسد الحضارة. حينما يتحول الدين من نهر عذب يغذي الأرواح إلى مستنقع راكد تختلط فيه الطقوس بالسلطة، وحين يصبح الإله أداة في يد المستبدين بدلًا من كونه مطلقًا متسامياً، ينفجر الإلحاد كصرخة احتجاج، كتمرد ضد الإله المشوه، لا ضد الإله الحق. وحين يطغى الإلحاد نفسه، متحولًا من رفض للاستبداد الديني إلى دوغما جديدة، مستنسخًا ذات الاستبداد ولكن بصيغة أخرى، يكون الناس قد سئموا الفراغ، فيعودون للبحث عن نور المعنى في الدين من جديد. لم يكن الإلحاد يومًا أزمة وجودية بقدر ما هو أزمة صورة مشوهة للإله، أزمة صناعة بشرية للإله بدل البحث عن الله كما هو، أزمة تدين يغيب عنه العدل والرحمة ويحل محله الخوف والرهبة والطاعة العمياء. وهكذا، كلما فسد الدين ولد الإلحاد، وكلما فسد الإلحاد عاد الناس إلى الدين، كما نشهد اليوم في تهاوي بعض تيارات اليسار المتطرف التي كانت تتبنى الإلحاد كجزء من أيديولوجيتها، لكنها باتت تتخبط في تناقضاتها، ما دفع البعض إلى العودة إلى القيم الروحية بحثًا عن ثبات مفقود. إن السؤال الجوهري الذي يتجاهله الجميع: لماذا تتكرر هذه الدائرة؟ لماذا ننتقل من الإيمان الأعمى إلى الإلحاد الغاضب، ثم من الإلحاد المتطرف إلى البحث مجددًا عن الإيمان؟ لعل الجواب يكمن في أن الإنسان لا يستطيع العيش بلا معنى، لكنه أيضًا لا يحتمل أن يُفرض عليه هذا المعنى بالقوة. إن التدين حين يكون حقيقيًا، لا يحتاج إلى قمع الإلحاد، بل يتجاوزه في منطقه، يعيد تعريف العلاقة بين الإنسان والمطلق بعيدًا عن الوساطة القسرية، يحرره من عبودية الأصنام، سواء كانت أصنام المعابد أو أصنام الأيديولوجيا. وكذلك الإلحاد حين يكون حقيقيًا، لا يتحول إلى دين جديد يلاحق المخالفين بنيران الوصاية الفكرية، بل يبقى فضاءً للبحث، لا مقصلة جديدة تُنصب لكل من يجرؤ على طرح أسئلة مختلفة. المشكلة ليست في الإيمان ولا في الإلحاد، بل في لحظة التحجر التي تصيب كل منهما عندما ينسى الإنسان أن رحلته نحو الحقيقة لا تنتهي، عندما يتحول الدين إلى مؤسسة مغلقة تحكمها المصالح، أو يتحول الإلحاد إلى دين آخر يقدس عبثيته. العدل ليس فكرةً تُلقى على عاتق القدر، ولا رجاءً يُعلق في انتظار تدخلٍ سماوي، بل هو التزامٌ يحمله الإنسان حين يدرك أن مسؤوليته لا تقل عن حقه. إن أعقد ما يواجهه العقل الإنساني ليس الظلم نفسه، بل ردة فعله أمامه: هل يستسلم ويبرر، أم يقاوم ويصنع معنىً رغم العبث الظاهري؟ إن الإلحاد الذي يتذرع بغياب العدل لتبرير عبثيته ليس أقل سطحيةً من الإيمان الذي يتخذ من فكرة الجزاء المؤجل ذريعةً للعجز. كلاهما، في جوهرهما، يُنكران دور الإنسان في صياغة التوازن الكوني، كأنما الوجود مُسخَّرٌ إما للفوضى أو للانتظار. لكن العدل، في حقيقته، لا ينتمي لا إلى هذا ولا إلى ذاك؛ إنه فعلٌ ممتد، سيرورةٌ لا تتوقف، وموقفٌ أخلاقيٌّ يختبر صبر الإنسان كما يختبر شجاعته. العدل ليس مفعولًا به، بل فاعلٌ يُنتظر منه الفعل، وإن كان الإلحاد تمردًا على الظلم، فإن الإيمان الناضج هو إدراكٌ لعمق العدل الذي لا يُرى إلا بامتداد الزمن، هو كفاحٌ هادئٌ ضد الظلم، ونحتٌ دؤوبٌ في صخور المصير، حتى تُسوَّى الأرض بمقدار ما تسمح به إرادة الذين لا يخضعون.