ياسين الطالبي التاريخ لم يكن يومًا ساحةً للثبات، بل كان دائمًا مسرحًا للتغيرات غير المتوقعة، وللحتميات التي لا تعترف بالحسابات المغلقة للنخب التي تعتقد أنها تجاوزت مرحلة الخطر. لكن هناك لحظة فاصلة في كل مشروع إمبراطوري، لحظة لا تأتي من الخارج، بل من الداخل نفسه، حيث يبدأ النظام في التهام ذاته، ليس بفعل قوة خارجية، بل بفعل التناقضات التي تصبح أقوى من قدرة النظام على التحكم بها. وهذا هو القانون الذي لم يفهمه بلينكن ولا من سبقوه ولا حتى من راهنوا على تكرار نفس السيناريوهات التي صنعت إمبراطوريات سابقة. كلما توسعت دائرة الهيمنة، زاد الرعب من اللحظة التي يصبح فيها الانكشاف أمرًا حتميًا. لم يكن الخوف في تلك النخب نابعًا من مجرد السقوط السياسي، بل من حقيقة أن كل البناء الذي تم تشييده لعقود وقرون، كان قائمًا على خدعة نفسية قبل أن يكون قائمًا على القوة المادية. فالنخب المالية، التي أدارت اللعبة لقرون، لم تكن تخشى انهيار الأسواق، بل كانت تخشى أن تدرك الشعوب أن كل شيء كان مجرد وهم. وأن من كانوا يظنون أنهم يحكمون العالم ليسوا سوى ظلال باهتة لأسلاف أكثر ذكاءً وحذرًا. بلينكن وأمثاله لم يفهموا هذه الحقيقة. اعتقدوا أن كل شيء يمكن التلاعب به، من الاقتصاد إلى الإعلام، من السياسة إلى الحروب، لكنهم لم يدركوا أن هناك لحظة تصبح فيها الهيمنة مرهونة فقط بمدى نجاحها في إخفاء هشاشتها. وعندما يفقد النظام القدرة على الإخفاء، يبدأ في الانهيار ليس من الخارج، بل من داخله، حين يبدأ أتباعه أنفسهم في التشكيك به، حين يتوقف الجنود عن الإيمان بالحرب، حين يتساءل الصحفيون عن الأخبار التي يروجونها، حين تنظر الشعوب إلى قادتها وتدرك أنهم ليسوا سوى أدوات في يد نظام لم يعد يملك حتى القدرة على التماسك داخليًا. كل مشروع سياسي هو بالضرورة مشروع فلسفي أيضًا، لكن المشاريع التي تفشل في إدراك عمق الفلسفة، تصبح مجرد تكرارات رديئة لسيناريوهات قديمة. النخبة التي صعدت مع النظام العالمي الحالي لم تكن تملك فلسفة أصيلة، بل كانت مجرد مستنسخات هزيلة لنخبة كانت تمتلك على الأقل رؤية متماسكة، ولو كانت استبدادية. بلينكن وأمثاله ليسوا سوى تكنوقراط فقدوا الحس الفلسفي، أشخاص يديرون النظام بنفس منطق الشركات، حيث كل شيء عبارة عن استثمار مؤقت، حرب هنا، أزمة هناك، تحكم في الأسواق، لكن دون أن يدركوا أن النظام الذي يديرونه لا يقوم فقط على الإدارة المالية، بل على القدرة على إنتاج سردية تجعل الناس يؤمنون به. وحين يفقد النظام القدرة على إنتاج تلك السردية، فإنه يبدأ في الانهيار الذاتي، لأنه لم يعد قادرًا على إقناع حتى أتباعه بأنه يمتلك مستقبلًا. وهذا هو الفرق بين الأنظمة الاستعمارية القديمة التي، رغم قسوتها، كانت تمتلك على الأقل رؤية فلسفية تجعل أتباعها يعتقدون أن ما يفعلونه له هدف، وبين النظام الحالي الذي لم يعد لديه أي هدف سوى تأجيل سقوطه بأي ثمن. الاستراتيجية التي استخدمتها النخبة الحاكمة لعقود كانت تقوم على فكرة "الفوضى المُدارة"، أي خلق الأزمات ولكن ضمن حدود يمكن التحكم بها. لكن ما لم يفهمه بلينكن وأمثاله أن هناك فرقًا بين إدارة الفوضى وبين خلق فوضى لا يمكن السيطرة عليها. عندما أشعلوا الحرب في أوكرانيا، ظنوا أنهم قادرون على التحكم في مسارها، لكنهم لم يدركوا أنهم فتحوا صندوقًا لن يتمكنوا من إغلاقه بسهولة. روسيا لم تكن مجرد عدو يجب استنزافه، بل كانت قوة تاريخية تدرك تمامًا كيف تُلعب هذه اللعبة، لأنها خاضت تجارب مماثلة مع نابليون، ومع هتلر، ومع الحروب الباردة. وبالتالي، حين قررت روسيا أن تدخل أوكرانيا، لم تكن مجرد خطوة عسكرية، بل كانت خطوة لكشف "ما خلف الستار"، لكشف المختبرات البيولوجية، لكشف أن الغرب لم يكن مجرد لاعب ديمقراطي في ساحة السياسة، بل كان يصنع أدوات الهيمنة بطرق تتجاوز كل ما كان يُتهم به أعداؤه. وهذا ما جعل الأزمة تتجاوز مجرد حرب تقليدية، إلى أزمة إعادة تشكيل للقوة العالمية، ليس فقط بين الشرق والغرب، بل داخل الغرب نفسه، حيث بدأ الحلفاء يشكون في بعضهم، وبدأت بعض الدول الأوروبية تتساءل إن كانت فعلاً تخوض هذه الحرب لمصلحتها، أم أنها مجرد أدوات في يد واشنطن. كل إمبراطورية تصل إلى نقطة تصبح فيها الهيمنة عبئًا على نفسها، حيث تتحول السيطرة العالمية إلى استنزاف ذاتي. هذا ما حدث للإمبراطورية البريطانية حين وجدت أن تكاليف استعمارها أكبر من العوائد التي تحصل عليها، وهذا ما بدأ يحدث الآن مع الولايات المتحدة، حيث لم تعد الهيمنة الاقتصادية مجرد وسيلة للربح، بل أصبحت عبئًا يجعل النظام الأمريكي يدفع أكثر مما يحصل. حرب أوكرانيا لم تكن فقط حربًا عسكرية، بل كانت حربًا اقتصادية كشفت أن العالم لم يعد يعتمد على الدولار بالطريقة التي كان يعتمد بها قبل عشرين عامًا، وأن العقوبات لم تعد أداة فعالة كما كانت في الماضي، وأن النظام المالي نفسه لم يعد حصنًا غير قابل للاختراق، بل أصبح هشًا لدرجة أن بعض الدول بدأت تبحث عن بدائل حقيقية. وهنا تظهر المفارقة الكبرى، النظام الذي كان يهدف إلى السيطرة على العالم، بدأ في الانهيار بسبب طموحه المفرط، لأن القاعدة الأساسية في الجيوبوليتيك تقول إن أي مشروع توسعي يصل إلى نقطة يصبح فيها تمدده سبب سقوطه، وليس سبب بقائه. ربما الأخطر في كل هذا، أن النظام الذي صنعه بلينكن وأمثاله ليس فقط نظامًا استبداديًا، بل هو نظام بلا هوية حتى داخل نفسه، نظام فقد حتى الإيمان بذاته، لأن الذين يديرونه ليسوا مفكرين، ولا حتى رجال دولة، بل مجرد منفذين بلا رؤية. وهذا ما يجعل سقوطه أكثر حتمية، لأن أي مشروع استبدادي يحتاج إلى أن يكون لديه على الأقل وهمُ الإيمان بنفسه. لكن حين يصبح النظام قائمًا على مقامرين لا يملكون حتى إحساسًا بالتاريخ، فإنه يبدأ في تدمير نفسه من الداخل حتى قبل أن يسقط من الخارج. وهكذا، فإن الخوف من الانكشاف لم يعد خوفًا من الأعداء، بل خوفًا من الذات، من أن يدرك القادة أنفسهم أنهم لا يملكون أي رؤية حقيقية، بل هم مجرد أدوات في مشروع لم يعد يفهم حتى من يديره حقًا. كل نظام يصل إلى لحظة تتوقف فيها أدواته عن العمل، وحينها، لا يكون السؤال هل سينهار، بل متى وكيف. النخبة التي صنعت هذا النظام كانت تعتقد أنها وصلت إلى نقطة اللارجوع، لكن ما لم تدركه أن التاريخ لا يعترف بهذه الفكرة، وأن كل محاولة للسيطرة المطلقة لا تؤدي إلا إلى كشف محدودية السيطرة ذاتها. بلينكن لم يكن مجرد سياسي أخطأ في الحسابات، بل كان تجسيدًا لنظام فقد إحساسه بنفسه، لم يعد يعرف متى يجب أن يتوقف، ولم يعد يدرك أنه لم يعد قادرًا حتى على إنقاذ نفسه، وأن لحظة السقوط لم تعد بعيدة، بل أصبحت مسألة وقت.