ياسين الطالبي الناسخ والمنسوخ – سيفٌ وهمي على النص من أين جاءت الجرأة على رفع اليد إلى السماء، ثم خفضها إلى الكتاب، لتشير بإصبع الفقيه لا بإصبع النبوة، وتقول: هذه الآية لاغية، كأن النص الذي نزل بإحكامه، وامتدّ في الزمن بمعجزته، لم يكن إلا مسودة قابلة للمحو والتصحيح؛ ومن أين جاءت القدرة على إقناع الأمة بأن الله الذي قال ﴿وتمت كلمة ربك صدقًا وعدلًا﴾ قد عاد فاستدرك على نفسه، وأبدل الصدق بالاستثناء، والعدل بالمحو، وأن ما كان بالأمس حقًا أزليًا صار اليوم أثرًا بعد عين؟ أيها الذين حملوا المصحف على أكتافهم كالتاج، ثم مدّوا اليد الخفية لتقصّ من ثوبه، كيف استساغت العقول أن تجمع بين إيمانها بأن الله عليم حكيم لا يبدّل القول لديه، وبين يقينها بأن آية قد سقطت بسيف أخرى، حتى غدا النص كجسد قُطعت منه الأعضاء، ثم قيل لنا: ما زال كاملًا؟ وأي عقل علمي أو فلسفي أو حتى بدائي يمكنه أن يقبل بأن الإله الذي أبدع نظام النمل والنحل في دقةٍ عجيبة، وجعل في كل خلية غاية لا تنقض غاية، يمكن أن يترك في كتابه مساحة للتناقض، أو يزرع فيه بذور الإلغاء، ثم يترك لعباد متأخرين مهمة إعلان هذا الإلغاء؟ لقد حُوّل مفهوم النسخ، الذي لا يرد في القرآن إلا في أفق القدرة الإلهية على إحلال ما هو أصلح بما هو أصلح، إلى آلةٍ فقهية حادّة، قُطّعت بها آيات الرحمة في سبيل تثبيت قراءات القوة، وأُغلق بها باب التدبر الحرّ لصالح أبواب الطاعة العمياء، حتى كأنّ المقصد الأسمى للوحي لم يعد هداية الإنسان إلى الجنة في الدنيا – تلك الجنة التي تقوم على فرد سعيد ومجتمع سعيد – بل إخضاعه لسلطةٍ نصّبت نفسها قيّمةً على الوحي، تتحكم في بقائه وزواله. ولئن كان الفيلسوف يسأل: كيف يمكن لعقل أن يطمئن إلى نص إذا كان قابلاً للإلغاء من داخله؟ فإن المؤمن يسأل قبل ذلك: كيف يمكن لقلب أن يحبّ إلهًا إذا كان يظنّ أنه يتراجع عن وحيه، أو يبدل هدايته، أو يعتذر عن قوله بقول آخر؟ إن قبول فكرة النسخ بهذا المعنى هو القبول الضمني بأن كلام الله غير مُحكم، وأنه في حاجة إلى مراجعة لاحقة، وهذا – في ميزان الفلسفة القرآنية – أخطر من الكفر المعلن، لأنه يلبس لبوس العلم، ويتزين بعمائم التفسير، ثم يطعن النص في خاصرته باسم الدفاع عنه. أيها القارئ، إذا كان الله قد أحكم كتابه، وأتم كلماته، وختم آياته، فمن يجرؤ – أيًّا كان – على أن يقول: هذا النص لاغٍ؟ ومن ذا الذي يملك مفاتيح الجنة والنار حتى يعطل آية ويستبقي أخرى؟ وأي عقل، وأي قلب، وأي وجدان يقبل أن تكون يد الفقيه أقوى من يد الوحي، وسيف التأويل أمضى من نور التنزيل؟ منذ اللحظة التي نزل فيها القرآن على قلب النبي، كان الوحي في ذاته كاملاً في نظامه، متناسقًا في نسيجه، ممتدًا في الزمن بحكمته، حتى بدا كأنه خُلق دفعة واحدة، وإن كان قد تنزّل في اثنين وعشرين عامًا؛ وكل من يتأمل هذا البناء يدرك أن كل آية فيه كالحجر في جدارٍ لا يَقبل الفراغ، وأن كل موضعٍ فيه له وظيفة تتجاوز اللحظة إلى الأبد. فكيف يُتصوّر أن يُفتح في هذا الجدار ثقبٌ، بحجة أن حجرًا أُزيل لأن حجرًا آخر "نسخه"، وأن النص الذي وصف نفسه بالإحكام والتمام يحتاج إلى شهادة لاحقة لإلغاء بعضه؟ لقد وُلدت فكرة النسخ في بيئةٍ لم تكن تقرأ النص من داخله، بل من خارجه، بيئة كانت ترى الوحي من منظور إدارة الحكم وحماية السلطة، لا من منظور حفظ المعنى وصيانة الهداية. وهكذا تحوّل النسخ من احتمال تأويلي محدود – يتعلّق بتدرّج التشريع أو انتقال الأمة من حالٍ إلى حال – إلى أداةٍ حاسمة لتعطيل آيات كاملة، حتى تلك التي لا تحتمل في ذاتها أي تضادّ مع غيرها. ومن هنا، صار النسخ سيفًا وهميًا مسلّطًا على النص، لا يقطعه حقًا، بل يقطع صلة القلوب به، إذ يزرع في الوعي فكرة أن القرآن ليس متجانسًا في كل أجزائه، وأنه نصٌّ به أجزاء "منتهية الصلاحية". إن الدفاع عن نقاء القرآن ليس ترفًا معرفيًا، بل واجبًا إيمانيًا، لأن الإيمان لا يستقيم مع الشك في إحكام كلام الله. فإذا سلّمنا بأن آيةً أبطلت أخرى، بلا ضرورة عقلية ولا نصية، فإننا نفتح الباب لكل عصر أن يلغي من القرآن ما لا يوافق ذوقه، حتى يغدو الوحي كتابًا بشريًا يتغير مزاجه مع السياسة. وهذا هو الخطر الذي لم يُدركه كثيرون، إذ ظنّوا أنهم يحرسون النص وهم في الحقيقة يضعون في قلبه بذرة التعطيل. أيها القارئ، إذا كان الله قد أحكم كتابه، وجعله هدى ورحمة ونورًا، فمن يجرؤ أن يرفع صوته فوق صوته، أو أن يقول عن آية: هذه لاغية؟ ومن يملك أن يمدّ يده إلى اللوح المحفوظ ليشطب منه سطرًا؟ وأي عقل أو قلب أو وجدان يقبل أن يكون الإلغاء حيلة لتسوية التناقضات المتوهمة، بدل أن يكون التدبر وسيلة لاكتشاف الانسجام العميق الذي لا ينكشف إلا لمن غاص في المعنى حتى بلغ أعماقه؟ القرآن كلّه واحد، والنسخ – إذا فهم في غير موضعه – ليس إلا سحابة غبار افتعلها التاريخ، حجبت عن العيون صفاء النص، لكنها لم تمسّ جوهره. ومن واجبنا أن ننفض هذا الغبار، لا لنحاكم التراث، بل لنردّ للنص قدسيته التي لا تُمس، ولنجعل كلمة الله كما أنزلت: كاملة، محكمة، لا يلغيها إلا من جهل أنها فوق الإلغاء. ثمة لحظةٌ في التاريخ الإسلامي، لم تكن صاخبة كما ينبغي، لكنها كانت أشبه بانعطافة حادة في مسار الفهم، لحظةٌ دخل فيها مصطلح النسخ من باب الضرورة التفسيرية ثم خرج من النافذة اللاهوتية ليصبح حكمًا على النص، لا مجرد أداة لفهمه. ومنذ تلك اللحظة، انشطر الوعي القرآني بين من يرى النص محكمًا مكتملًا، وبين من يقبل أن يحمل بين دفتيه آياتٍ مرفوعة الفعالية، أقرب إلى آثارٍ باهتة من ماضٍ تجاوزه الحاضر. إن الجذور العميقة لهذه الفكرة لم تُغرس كلها في التربة القرآنية، بل امتصت ماءها من بيئةٍ أوسع، حيث النصوص – في الأديان السابقة – قد خضعت فعلًا لعمليات إلغاء أو تبديل بفعل القرارات المجمعية أو السلطات الدينية. وفي تلك البيئات، صار من الطبيعي أن يُفهم الوحي كوثيقةٍ قابلة للمراجعة، حتى وإن كان الاعتقاد يقرر أن أصله إلهي. هذا الظل الثقافي امتد إلى عقول بعض المفسرين الأوائل، الذين وجدوا أنفسهم أمام آيات تبدو – بظاهرها – متباينة في التوجيه أو الحكم، فآثروا أن يرفعوا سيف "النسخ" بدل أن يغوصوا في طبقات المعنى العميق بحثًا عن الانسجام الخفي. البنية المفاهيمية التي أفرزت النسخ تقوم على ثلاث دعائم: الأولى، افتراض أن التعارض الظاهري لا يمكن أن يكون إلا تعارضًا حقيقيًا، وأن حله لا يكون إلا بإلغاء أحد الطرفين. الثانية، تغليب البعد الفقهي الإجرائي على البعد المقاصدي القيمي، حتى صار الحكم اللحظي مقدمًا على الهدي الكلي. الثالثة، تسليم غير مشروط بقدرة التراث على أن يضع تعريفًا لماهية النص، ولو كان هذا التعريف يحدّ من إطلاقه وامتداده. لكن حين يُستدعى العقل إلى الميدان، ويُسأل: هل يمكن لوحيٍ يصف نفسه بالإحكام والاتساق أن يحتوي على أمرٍ يبطله أمرٌ آخر؟ يجد نفسه بين خيارين: إما أن يقبل بهذه الفرضية فينتقص من كمال النص، أو أن يرفضها فيبحث عن أفق أوسع يضم الآيات في نظامٍ واحد، حيث كل نص هو جزء من بنية متكاملة لا تُبطل نفسها، بل تتوالد معانيها في حركة مستمرة. إن الخطر في البنية المفاهيمية للنسخ ليس في كونها اجتهادًا تاريخيًا، فهذا طبيعي في سياق التفسير، بل في تحولها إلى عقيدة معرفية أغلقت باب السؤال، وحوّلت النص من كتاب مفتوح على الأبدية إلى كتاب محكوم بإرادة فقهية ماضية. والنتيجة أن القارئ الحديث، حين يواجه مفهوم النسخ كما استقر، يشعر أن النص مشروط بزمنه، وأنه لم يأت ليعبر العصور، وهذا وحده كافٍ لتفريغ الرسالة من وعدها الكوني. إن إعادة النظر في مشكلة النسخ ليست ترفًا فكريًا، بل هي دفاع عن العلاقة الطبيعية بين النص والعقل، تلك العلاقة التي تجعل العقل شريكًا في الفهم لا خصمًا، وتجعل النص رفيقًا في الطريق لا سيدًا صامتًا خلف جدار من القرارات الموروثة. فالقرآن – في صورته التي تنزلت – لم يكن بحاجة إلى من يمسك بيده ليقول له: هنا تتوقف، وهنا تلغى، بل كان يفيض بالمعنى الذي يظل جديدًا بقدر ما يُقرأ بعيون لا ترى فيه تعارضًا إلا كفرصة لاكتشاف طبقة أعمق من الانسجام. في البدء، كان النسخ كلمةً طيّعة في لسان العرب، تتنقل بين دلالات شتى، فتارةً هي النقل الحرفي لشيءٍ من موضعٍ إلى آخر، كما يُنسخ الكتاب عن الكتاب، وتارةً هي الإزالة والمحو كما تمحو الشمسُ الظل، أو كما يمحو الليلُ النهار، وكان المعنى يتسع لينطوي على المفارقة بين الإبقاء والإلغاء، بين حفظ الأصل وإبطاله، دون أن يشعر العربي القديم بأن في هذا التناقض شذوذًا عن طبيعة اللغة التي تحب أن تجمع الأضداد في حيّزٍ واحد. لكن هذه المرونة اللغوية التي كانت زينة الكلام، ما لبثت أن تحولت إلى أداة مفهومية قادرة على تقرير مصائر النصوص نفسها، حين انتقل اللفظ من ساحة البيان إلى ساحة العقيدة والفقه. وحين أغمضت المدينة عينيها على رحيل صاحب الرسالة، ووجدت الأمة نفسها على تخوم سؤالٍ جديد: كيف نتصرف مع نصوصٍ تبدو متغايرة في ظاهرها، وواقعٍ اجتماعي وسياسي يتحرك بسرعة تفوق إيقاع التنزيل؟ بدأ المعنى اللغوي للنسخ يتهيأ لرحلته الجديدة؛ رحلة الخروج من الدلالة الطبيعية إلى الاصطلاح الشرعي. لم يكن الأمر مؤامرةً ولا تفلتًا من النص، بل كان محاولة لتأويل لحظات الحيرة الأولى في حياة الأمة، حين أخذ الفقهاء والمفسرون الأوائل يفتشون في كلام العرب، وفي سير التشريع، عن أداة تفسّر الفروق بين ما نزل في مكة وما نزل في المدينة، بين الأحكام المرحلية والأحكام النهائية، أو هكذا تصوروا الأمر. لكن اللحظة الفاصلة لم تكن في توليد هذا الاصطلاح، بل في لحظة تثبيته كقانونٍ معرفي، حين تحوّل من مجرّد حلٍّ مؤقت للإشكالات إلى منظومة فكرية تُفترض قبل قراءة النص. هنا، دخل النسخ في صلب منهجيات المفسرين الأوائل، الذين لم يتردد بعضهم في قبول فكرة أن النص يمكن أن يتجاوز نفسه بإلغاء بعضه لبعض، وأن الآية قد تُرفع فعاليتها لتبقى شاهدًا بلا سلطان، وأن الحكمة الإلهية قد تقتضي – في ظنهم – هذا التدرج الذي ينتهي بمحو ما سبقه. هؤلاء المفسرون لم يكونوا كتلةً واحدة؛ فمنهم من تعامل مع النسخ بحذرٍ واعتبره آخر الحلول، ومنهم من أسرف فيه حتى صار التوفيق بين آيتين أمرًا مرهونًا بأن تنتصر إحداهما على الأخرى. وهنا يظهر البعد الفلسفي الكامن خلف المشهد: فالمفسر الذي يختار النسخ بدل الجمع، إنما يعكس – بوعي أو دون وعي – تصوره عن طبيعة النص نفسه، أهو نصٌ متعالٍ عن الزمن يحكمه من فوق، أم نصٌ يواكب الزمن ويخضع لإيقاعه. إن تتبع المسار من المعنى اللغوي البسيط إلى البنية المفاهيمية المعقدة يكشف أن النسخ لم يكن في بدايته سوى استعارة من حياة الأشياء، استعارة تعني أن الجديد قد يغطي القديم، لكن بقاء المعنى الأصلي في الذاكرة لم يكن محل شك. غير أن انتقال الاستعارة إلى مجال النص القرآني منحها سلطة جديدة، سلطة قادرة على القول بأن كلام الله نفسه يمكن أن يكون فيه ما يُلغى، وبذلك وُلد التوتر العميق بين النص والعقل، بين وعد الإحكام في الوحي وإمكانية الإبطال في التفسير. النص القرآني وتفكيك الفكرة قراءة تحليلية لآيتي البقرة (106) والنحل (101) منذ اللحظة التي يضع فيها القارئ يده على مقبض هاتين الآيتين، يشعر أن الباب ليس بابًا واحدًا، وأن الدهليز ليس ممرًا مستقيمًا؛ فالنص، وهو يُلقي كلماته بطمأنينة العليم، لا يسلّم مفاتيحه للقراءة الأولى، بل يستدرج الوعي إلى طبقات من المعنى، تلتفّ حول بعضها كما تلتفّ السنابل إذا مرّ عليها نسيم الرشد، وتكاد تقول لمن يستعجل الحكم: تمهّل، فالفكرة التي ظننتها بسيطة – فكرة “النسخ” – ليست في القرآن سيفًا معلّقًا فوق رقاب الآيات، بل منطقًا أوسع من الإلغاء وأدقّ من المحو، منطقًا يعيش في منطقةٍ بين “الآية” بوصفها علامة، و”الآية” بوصفها مقطعًا من الكلام، وبين “النسخ” بوصفه انتقالًا للحكمة في التاريخ، و”النسخ” بوصفه نقلًا بلاغيًّا لا يُسقط معنى بل يفتح مسارًا. 1) ما ننسخ من آيةٍ أو ننسها…: سياق السيادة لا رخصة الإلغاء تقع آيةُ البقرة (106) في سياقٍ محكم لا يُخطئ من يستمع لنبرةِ السيادةِ فيه: ﴿مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ… مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾، ثم يُتبعها بإعلان الملك: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾. لا يتكلم النص هنا من غرفةٍ فقهيةٍ تطوي ورقات الأحكام في جدول إلغاء وإثبات، بل من مقام ربّاني يُذكّر المخاطَبين بأن “الخَيْر” الذي ينزل ليس رهينة أهواء أهل الكتاب والمشركين، وأن الحركة التشريعية أو البيانية، بما فيها التعاقب بين آياتٍ وآياتٍ، إنما تُدار تحت سلطان القدرة الشاملة لا تحت ضغط الاعتراض التاريخي؛ ومن ثَمَّ فإن “النسخ” في هذا المقام يخرج من أيدي الناس – حيث أُحبّ أن يُتخيّل بوصفه مقصًّا يجزّ من جسد النص – إلى يد الله، حيث يُفهم بوصفه تدبيرًا يتقدم فيه “خير” أو “مثل”؛ و”خيرٌ منها” لا تقول بالردّة على المعنى، بل تقول بتجاوزٍ في البيان، بأليقٍ بسياقٍ جديد، بأوفى لمقاصد الهداية حين تتبدّل الظروف وتتسع دوائر الابتلاء. ثم إن لفظ “آية” – في معجم القرآن – ليس مرادفًا حصريًّا لـ“الآية المصحفية”؛ فهو يتردّد بين “العلامة” الكونية، و”المعجزة” على يد رسول، و“المقطع” من الوحي المتلوّ؛ وهذا التعدّد ليس لعبًا باللفظ، بل اقتصادًا إلهيًّا في اللغة يسمح للخطاب أن يحمل أكثر من مستوى، فيقول لمن يريد أن يجعل الآية سيفًا على أختها: تمهّل، فقد يكون المقصود “علامة” تُبدّل بعلامة، أو “حُجّة” تُقام بدل حُجّة، أو “مرحلة بيان” يُنقلُ إليها الخطاب نقلةً لا تُبطل سابقتها بقدر ما تُحدّد مجالها، أو تُخرِجها من حيّز التكليف إلى حيّز العبرة. وعلى حافّة اللفظ نفسه تقف قراءةٌ قرآنيةٌ معتبرة لـ«نُنْسِهَا» على هيئة «نُنْسِئْهَا»؛ أي نؤخّرها ونُرجئ ظهورها، وهي قراءة تنقل الفعل من منطقة “الإذهاب عن الذاكرة” إلى “التأجيل في الخطة”، فتجعل النسخ هنا أقرب إلى التدبير الزمني منه إلى المحو النصّي، وتُسند المعنى إلى هندسة الوحي لا إلى منطق المقصّ، فيغدو “التأخير” ضربًا من التربية: يُكشف بعضُ القول حين يتهيأ له محله من النفوس والوقائع، ويُؤخّر بعضُه حتى لا تتحول الشريعة إلى ثقلٍ يمحق الطاقة الروحية للمجتمع الناشئ. 2) وإذا بدّلنا آيةً مكان آية…: جدل الاتهام وردّ التربية أما آية النحل (101) فتجيء ضمن جدلٍ مخاصِم: ﴿وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ – وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ – قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ﴾، ثم يأتي الجواب المبدِّد لظنّ الاختلاق: ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾. تؤطر الآيتان فكرة “التبديل” ضمن ثلاثة محاور: علمُ الله بما يُنزّل؛ اتهامُ الخصوم بالافتراء عند رؤية التعاقب؛ وتعليلُ هذا التعاقب بوظيفة تربوية: “ليثبت الذين آمنوا”، لا ليرتبكوا، “وهدى وبشرى”، لا لإلغاء نصٍّ بنص. هنا يتقدّم المقصد على التصنيف، ويتحوّل “التبديل” من حجّةٍ على نسخٍ إطلاقيٍ يُطفئ نور بعض الآيات، إلى علامةٍ على طريقة تنزيلٍ تتفاعل مع مسار التلقي، تُغذّي يقين المؤمنين على دفعات، وتفتح لهم أبوابًا من الهداية والبشرى كلما ترقّى الوجدان الجمعي وتحوّلت الحاجة. ولفظ “بدّلنا” – وإن جاز أن يُفهم على مستوى “النص” – يبقى أوسعَ في بنيته من مجرّد الإلغاء؛ فهو في البيان القرآني كثيرًا ما يرد في سياق التعويض والتداول (تبديل يوم مكان يوم، حالٍ مكان حال)، بما يجعل “آيةً مكان آية” قابلةً لأن تُقرأ بوصفها انتقالًا في الأسلوب، أو استبدالَ “حجّةٍ” بحجّةٍ أبلغ، أو نقلَ حكمٍ مرحليٍّ إلى حكمٍ أكمل في مقصده، دون أن يستلزم ذلك محوًا للآية السابقة من المصحف، ولا تحويلاً لوعد الإحكام إلى وثيقة تناقض داخلي. إن اتهام المفترين لا ينبع هنا من غضبهم لإبطال حكمٍ يحبّونه، بل من ارتباكهم أمام خطابٍ حيٍّ لا يمكث في صورةٍ واحدة، لأنه يخاطب بشرًا في حركة، ويعالج قلوبًا تتقلب، ويصنع أمةً تحتاج إلى بيانٍ “ينزل” لا بيانٍ يُستخرج من خزنةٍ مغلقة. 3) بين “الإحكام” و”التبديل”: كيف تتصالح البنية؟ لا بدّ أن يظلّ في خلفية القراءة أصلان كبيران: ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ﴾، و﴿لَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾؛ والإحكام هنا ليس أسطورة صلادةٍ لا حركة فيها، بل هو “تماسكٌ أعلى” يُديرُ داخله تفصيلًا وتدرّجًا وتداولًا في الأساليب والأحكام، دون أن ينقلب إلى تناقضٍ يلتهم ذاته. ولهذا كان أفدح أخطاء التأويل – في تاريخ الفكرة – أن تُرفع هاتان الآيتان (البقرة 106، النحل 101) إلى مقام “الترخيص العام” بإبطال النص بالنص، وأن تُجعل مفاتيح لبابٍ يُفضي إلى تعليق عشرات الآيات على مشجب النسخ، حتى يُحفظ للمنهج وقاره على حساب النص، وتُبنى سلطة المفسر على أنقاض صوت الوحي، بينما الآيتان – في سياقهما – تُصنّعان حسًّا آخر: حسّ السيادة الإلهية في التدبير، وحسّ التربية التدريجية في التلقي، لا حسّ المقصّ الذي يقطع ليثبت أنه يحسن القطع. 4) آيةٌ… آيةٌ: لعبة اللفظ وأفق الدلالة إن بقاء لفظ “آية” مُعلّقًا بين “العلامة” و”المقطع” ليس التباسًا، بل نعمة في البلاغ؛ فهو يسمح لك أن ترى في “ما ننسخ من آية” محوَ أثر علامةٍ سابقةٍ من علامات أهل كتابٍ أو معجزةِ أمةٍ خلت، وقدومَ “خيرٍ منها أو مثلها” من دلائل القرآن وحججه، كما يسمح لك – في مستوى آخر – أن ترى حركية البيان داخل القرآن نفسه دون أن تُحوّلها إلى حرب أهليةٍ بين الآيات. وهذه المساحة المرنة في اللفظ لا تعني أن كل شيء جائز، بل تعني أن القراءة المسؤولة لا تُسارع إلى تثبيت معنى واحد يُنتج أقسى النتائج على النص باسم “المنهج”، لأن المنهج – إن لم يكن خادمًا للنص – صار خصمًا له، وإن لم ينطلق من إحكام الكتاب عاد إليه ليُخرّب إحكامه. وليس عبثًا أن تستكنّ على حافة “نُنْسِهَا” قراءة “نُنْسِئْهَا”، ولا أن يُختتم القول في البقرة بإثبات القدرة والملك، ولا أن يُستقبل التبديل في النحل باتهام الافتراء ثم يُردّ عليه بذكر روح القدس ووظيفة التثبيت؛ فهذه الإشارات كلها تدفعك بعيدًا عن حصر النسخ في وظيفة الإلغاء، وتفتحك على فهمٍ يرى الحركة لا التناقض، ويُمسك بخيط التربية في زمن الوحي، لا بخنجرٍ يطعن نصًا بنص. 5) نحو أفقٍ يليق بالنص: من “سياسة الإبطال” إلى “اقتصاد الهداية” إذا كان علينا أن نختبر هذه الآيات في ميزان العقل الهادئ والذائقة القرآنية، فسنرى أن “النسخ” – بالمعنى الذي ينسجم مع إحكام الكتاب – هو اقتصاد في الهداية لا سياسة في الإبطال؛ هو أن يجيء البيانُ على قدر الطاقة والمرحلة، وأن يُرفَع حكمٌ لم يعد محله قائمًا لأنه أدى وظيفته في التربية، مع بقاء آيته شاهدًا من شواهد الطريق لا صيدًا لسكينٍ فقهيةٍ تسنّ باسم “العلم”. وسنرى أن «خيرًا منها أو مثلها» لا تصلح ذريعةً لتقديس “التغليب” على حساب الجمع، ولا لِوَسمِ آياتٍ كاملة بأنها “ملغاةٌ” كي لا تُحرج النسق؛ بل تصلح مناطًا لحريةٍ داخليةٍ في الخطاب، تتحرك بين المكي والمدني، بين الشدّة واللين، بين الرخصة والعزيمة، دون أن تُسقط من يد القارئ حبل الإحكام، ودون أن تُسقط من قلبه هيبة الكلمة التي لم تنزل كي تُمحى، بل كي تهدي. إن أخطر ما أنتجه سوءُ قراءة هاتين الآيتين هو تحويلُ “التبديل الإلهي” – بما فيه من حكمة وسيادة – إلى “إلغاءٍ بشريٍّ” تُباشره مدرسةٌ على مدرسة، ومذهبٌ على مذهب، وقائمةٌ على قائمة، ثم تُساق الآيتان شاهدين على جنايةٍ لم يرتكباها، ويُصبح الدفاع عن إحكام الكتاب – في عيون بعضهم – تهمةً بالرومانسية الدينية أو الجهل بالمنهج، بينما هو في الحقيقة صونٌ لكرامة النص من أن يُجعل ميدانًا لصراع المقصّات. ولذلك، فإن تفكيك الفكرة لا يكون بهتافٍ ضد التراث، بل بعمارةٍ من الداخل: أن نردّ “آية البقرة” إلى سياق السيادة، و”آية النحل” إلى سياق التربية، وأن نُبقي للَّفظ مداه الذي أراده القرآن، وأن نقرأ “النسخ” باعتباره حركة الحكمة لا حركة الإلغاء، وأن نعيد للعقل المؤمن ثقته بأن كتابًا أُحكمت آياتُه لا يحتاج إلى حارسٍ يمحو كي يحفظ، بل إلى قارئٍ ينصت كي يرى كيف يجري الخَيْرُ في النص كما يجري الماء في مفاصل التاريخ، يبدّل اللهُ ما يشاء من “الآيات” بوصفها دلائل وأطوارًا وأحوالًا، ويبقي على الكتاب مُحكَمًا، لا تناقض فيه، ولا حاجة فيه إلى سيفٍ على عنق آيةٍ تقول: جئتُ لأبقى. التفريق بين نسخِ الشرائعِ السابقة والنسخِ داخل القرآن الانسجامُ النصّي والبنيةُ العضويةُ للوحي من أين يبدأ الخلطُ إلا من كلمة واحدة تُحمَّل أكثر مما تحتمل؟ فـ"النَّسخ" في الوعي الدارج صار سيفًا يلمع كلما تعسَّر الجمعُ بين آيتين، كأن الحلّ الطبيعي لأي توترٍ دلالي هو الإعدام، لا الإصغاء؛ مع أنّ الكلمة نفسها، في اللسان والوجدان، أوسع من مقصٍّ يجزّ، فهي انتقالٌ وتحوّلٌ وتدبيرٌ في الزمن، وقد تكون نقلًا للمعنى من طورٍ إلى طور، لا محوًا لنصٍّ بنص. هنا تحديدًا يلزم التفريق: بين نسخٍ يجري على خطٍّ رأسي عبر التاريخ الديني – من شريعةٍ إلى أخرى – وبين نسخٍ يُزعَم أنه أفقيٌّ داخليٌّ يلتهم بعضُ القرآن بعضًا؛ الأوّلُ من طبائع الوحي وهو يصنعُ دورةَ الرحمة في الأمم، والثاني سوءُ تأويلٍ يحوّل التدرُّجَ التربوي إلى خصومةٍ بين الآيات. أولًا: نسخُ الشرائعِ السابقة – حركةُ الوحي على المحور التاريخي حين يعلن الوحي أنه جاء "مصدِّقًا لما بين يديه ومُهيمِنًا عليه"، فهو لا يقيم محكمةً لإلغاء النبوات الماضية، بل يُعيد ترتيبَ العلاقة بين الرسالات: يُبقي جوهر الهداية ويخفّف الأغلال، يرفع عن القلوب أثقال التحريمات التعزيرية التي علقت بمرحلةٍ أو ظرف، ويستأنفُ مقاصدَ العدل والرحمة على قاعدةٍ أنضج وأرحب. هذا هو النسخُ الحقُّ في مداره: ليس تغييرًا لمعيار الحق، بل ترقيةٌ لطرائق تنزيله؛ ليس إنكارًا لنبعٍ قديم، بل إرواءٌ جديد بالماءِ نفسه في أرضٍ تغيّرت حاجاتها. من هنا يجوز أن تقول: نُسِخَ من شريعةِ قومٍ ما ضيَّق عليهم، واثبت من روحها ما لا زمان له؛ فالمحور هنا تاريخيٌّ رأسيٌّ، تتحرّك عليه "الشرعة والمنهاج" تبعًا لاختلاف الأقوام وطاقاتهم، دون أن يُمسّ أصل التوحيد والكرامة والعدل. ثانيًا: ادّعاء النسخ داخل القرآن – تحويلُ التدرُّج إلى إلغاء ما يَسِمُهُ بعضُ المتأخرين "نسخًا داخليًا" ليس في أكثر أحواله إلا تسرّعًا في التعامل مع ظواهر التعارض، واستعجالًا لإسكات الأسئلة بالمقصّ بدلَ سياسةِ الجمع والتركيب. إنّ الوحي – وهو يُفصِّل بعد إحكام – يتحرّك في النفس والمجتمع بمنطق التربية: يُطلق ثم يُقيِّد، يُعِدُّ القاعدة ثم يفتح الاستثناء، يُقرِّر أصلًا ثم يطبّقه في حالاتٍ تتفاوت؛ وهذه الحركية لا تنتج تناقضًا بل طبقاتٍ من البيان تتساند: عامٌّ يُخصَّص، مطلقٌ يُقيَّد، مقصدٌ يُستوفى عبر مساراتٍ متعدّدة. فإذا استُسهل الإلغاء ضاعت صنعةُ البيان: انقلب التخصيص نسخًا، وصار التقييد محوًا، وتحول اختلافُ المقام إلى حربِ أحكام، وتحوّلت المدرسةُ التأويلية من فنّ الجمع إلى حصرٍ قاسٍ لا يرى من الحلول إلا شطبَ أحد الطرفين. ثالثًا: الانسجام النصّي – كيف تعمل البنية العضوية للوحي؟ القرآنُ ليس رُزْمَة نصوصٍ متجاورة، بل كينونةٌ عضوية؛ فيه ما يشبه نموَّ الكائن الحيّ: بزرةُ المعنى في المكيّ، شجرةُ التفصيل في المدنيّ، عروقُ المقاصد تمتدُّ تحت السطح فتُغذّي الأوراق الغضةَ والأغصانَ الممتدّة، فإذا نظرتَ من علٍ رأيتَ واحدًا متماسكًا، وإذا دخلتَ بين التفاصيل سمعتَ اختلافَ الأصوات على مقامٍ واحد. هذا الانسجام لا يُفهَم بالمطالعة المتعجّلة، بل بالإنصات لمنطق الشبكة: موضوعٌ يُعاد، لفظٌ يهاجرُ من سياقٍ إلى آخر ولا يفقد هويته، قصةٌ تتعدد زواياها ولكن تظلُّ تُنيرُ الغاية نفسها. هنا يصبح "التوتر" بين آيتين مناسبةً للاكتمال لا سببًا للإلغاء: تتقدم آيةُ الشدّة بوصفها سياجًا للمقصد، وتأتي آيةُ الرِّفق بوصفها روحًا له؛ تُقرِّر آيةٌ حدًّا يُحمي الجماعة، وتفتح أختُها بابَ العفو كي لا يتحول الحدُّ إلى انتقام؛ فلا خصومة، بل توزيعُ أدوار داخل جسدٍ واحد. رابعًا: قاعدةٌ تأويليةٌ بديلة – من سياسة الإبطال إلى اقتصاد الهداية لردّ الاعتبار إلى العضوية القرآنية، لا بدّ من إعادة ترتيب أدوات الفهم: البدءُ بالمقاصد الكبار التي يشهد لها مجموعُ الكتاب، لتكون ميزانًا يوجّه قراءة المفردات؛ تقديمُ الجمع على الترجيح، والترجيح على الادّعاء بالنسخ؛ فإن تعذّر الجمع عُدنا إلى التخصيص والتقييد وحملِ المطلق على المقيَّد؛ الاحتكامُ إلى السياق الزمني والموضوعي: مكيٌّ يمهِّد ومدنيٌّ يُطبِّق، تحوُّلُ مجتمعٍ من الاستضعاف إلى التمكين، اختلافُ حال السائل والمقام؛ وفوق ذلك كلّه: الإقرارُ بأن "الإحكام" وصفٌ للكتاب كلّه، وأن أيّ قراءةٍ تُنتج تناقضًا جوهريًا إنما أخطأتْ مدخلها قبل أن تُخطئ مخرجها؛ فالإحكام لا ينفي التفصيل، كما أن التفصيل لا يَخدش الإحكام، بل كلاهما حركةُ المعنى في جسدٍ واحد. خامسًا: الفصلُ الحاسم – رأسيةُ النسخ وأفقيّةُ الاتساق حين نفرّق تفريقًا واعيًا بين نسخٍ رأسيٍّ للشرائع السابقة – وهو من طبائع التاريخ النبوي – وبين نسخٍ أفقيٍّ داخليٍّ يُفتريه بعضُ المتأخرين على النص ليحلّ به عُسْرَ قراءته، نكون قد حرّرنا القرآن من سيفٍ لم يضعه على عنق نفسه، وأعدناه إلى منطقه: كتابٌ أُحكمت آياتُه ثم فُصِّلت، يهدي في الزمن دون أن ينسف ذاته، ويتحول مع المجتمع دون أن يتخلّى عن جوهره. وبذلك نمنح العقل المؤمن حقّه في السؤال، ونمنح القلب حقّه في الطمأنينة: لا آيةَ تُقصى لأن أختَها حضرت، بل آيتان تتعانقان تحت ظلّ مقصِدٍ أعلى، يشبهان ليلًا وصبحًا في يومٍ واحد: اختلافُ صورةٍ، ووحدةُ شمس. إنّ الدفاع عن نقاءِ النص لا يكون بالصوت العالي، بل بحسنِ القراءة: أن نُبقي النسخَ حيثُ أراده الوحيُ على المحور التاريخي بين الرسالات، وأن نقرأَ الداخلَ القرآني بوصفه بنيةً عضويةً متماسكةً تتعدد فيها التجليات ولا تتقاطع المقاصد؛ عندها تغدو "الناسخ والمنسوخ" مدرسةَ حكمةٍ لا ورشةَ إعدام، ويعود القرآنُ من "مادةٍ قابلةٍ للإلغاء" إلى "كلمةٍ تُربّي": إذا شدَّتْكَ آيةٌ إلى الضبط فذلك لكي تحمي المعنى، وإذا أخذتك أختُها إلى الرحمة فذلك لكي تُحييَه؛ وبين الحماية والإحياء يعيش الوحيُ جسدًا واحدًا، لا يقتلُ عضوًا ليحيا آخر، بل ينسجُ من اختلاف الأعضاء حياةً كاملة، يليق بها أن تُسمّى: هدى. أمثلةٌ مزعومةٌ للنسخ… وتحليلٌ فلسفيّ–نصيٌّ يُحرِّر النصَّ من مقصِّ الإلغاء هل يحتاج كلامُ الله إلى من يُنقِّي كلامَ الله منه؟ أم أنّ الذي يحتاج إلى التنقية هو عادات قراءتنا حين تستسهل المقصّ لأن الجمعَ مُتعِب، وتستنجدُ بـ“النسخ” لأن الإصغاءَ لما بين الآيات يُربك يقينًا اعتاد البساطة؟ إنّ أخطر ما في خطاب النسخ الداخلي ليس ما يعلنه من “حَلّ” للتعارض، بل ما يُضمِره من تصوّرٍ للقرآن بوصفه جُزُرًا متنافرة لا جسدًا واحدًا، وللوحي بوصفه أوامرَ متعاقبةً ينقضُ لاحقُها سابقَها لا مقاصدَ متساندةً يشرحُ بعضُها بعضًا؛ ومن هنا كانت الحاجة لا إلى مهاجمة الأمثلة الشائعة باسم مثالٍ مضاد، بل إلى تفكيكٍ مزدوج: فلسفيٍّ يكشف كيف تُدار السلطة باسم المنهج حين يُرفع “النسخ” إلى رتبة الحلّ الشامل، ونصيٍّ يعيد كل مثالٍ إلى سياقه العضوي داخل البنية القرآنية، فينكشف أنّ ما سُمّي نسخًا كان في الغالب تخصيصًا لمطلق، أو تقييدًا لعام، أو تدرّجًا تربويًّا لا يلغي بل يَرقى. 1) “آية السيف” (التوبة 5) وكلُّ ما قبلها: من سيفِ الأسطورة إلى ميزانِ السياق لم تُسمَّ آيةٌ في القرآن “سيفًا” إلا في لسانِ قارئٍ استعجل الحسمَ حين ضاق بالصبر الذي تُعلّمه آياتٌ أُخَر؛ فالآية تتحدّث عن مشهدٍ تاريخيٍّ ضيّق: نقضِ عهودٍ معلومةٍ في نطاقٍ مكانيٍّ وزمنيٍّ محدّد، تُمهِّدُ له أربعَةَ أشهرٍ عُشْرًا من الإشعار والإنذار والتمييز بين من خانَ ومن استقام، ثم تُنهي المشهد بقاعدةِ العدل: فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلّوا سبيلهم، وإن أحدٌ من المشركين استجارك فأجِرْه؛ فكيف انقلب هذا السياق المشروط إلى فأسٍ يطيح بآيات السلم والبرّ والقسط وحُسن العِشرة مع غير المقاتِلين؟ إنّ الذي حدث في اللاشعور التأويلي أن “القتال” بوصفه علاجًا لواقعةِ غدرٍ صار هو الأصل، و”لا عدوانَ إلا على الظالمين” صار الاستثناء، بينما منطق القرآن ينسّق العكس: الأصلُ كفُّ الأذى والبرُّ والقسط، والقتالُ علاجُ ضرورةٍ حين يُعتدى؛ وبذلك لا تُنسَخ آياتُ السلام، بل تُوضَع آياتُ القتال في موضعها الجراحيِّ الضيّق بحيثُ لا تتسرّب “لغةُ الحرب” إلى فهمِ الحياة. 2) “لا إكراهَ في الدين” (البقرة 256) بين كرامةِ الاختيار ووظيفةِ الردع قيل: هذه الآية منسوخةٌ بآيات القتال. ولو كان النسخُ يُعفي من الحرج لكان القولُ مريحًا، لكنه يُسقِط البنية الأخلاقية للوحي: إنّ حرمةَ الإكراه على الاعتقاد ليست حكمًا مرحليًّا بل هي منطقُ الرسالة نفسِها، لأن الإيمانَ اختيارٌ لا ثمرةُ قسر؛ وعليه فالآيات التي تُقاتِل تُقاتل العدوانَ والفتنةَ والإخراجَ من الديار وقطعَ الطريق على حرية الدعوة، لا لتفرض على القلوب عقيدةً تسكنها إلا بحرية؛ بذلك يستقيم الجمع: لا إكراه في الدين قاعدةٌ في مستوى الضمير، ووقاتلوهم إجراءٌ سياديٌّ في مستوى حماية المجال العام من العُدوان، فلا أحد ينسخُ أحدًا، بل يلتقيان حيث يلتقي الحقُّ الأخلاقيُّ والواجبُ المدنيّ. 3) الخمرُ بين “تدرّج التربية” و“وهم النسخ” يُقال: هذه سلسلةُ أحكامٍ نسختْ بعضها: من الإيماء إلى وجود المنافع والمضار (النحل 67، البقرة 219)، إلى النهي عن الاقتراب من الصلاة سكارى (النساء 43)، إلى التحريم الباتّ (المائدة 90–91). والحقيقة أنّ النصّ لا “يلغي” ما قبلَ التحريم، بل يكشف المنهج: يوقظ الضمير أولًا بميزان المصلحة والمفسدة، يضبطُ الإيقاعَ العباديَّ حتى لا يتدنّسَ المقامُ بسُكْر، ثم يُعلنُ التحريمَ وقد تهيّأت النفوسُ لتركِ العادة؛ فالآيات السابقة لا تُمحى وظيفتُها، إذ تبقى دليلًا على أنّ الوحي لا يُربّي بالصدمة، وأنّ السياسة الشرعية ليست قفزًا فوق الإنسان بل رُقيًّا معه؛ “النسخ” هنا – إن أصرّ أحدٌ على التسمية – هو نسخُ حالٍ اجتماعيٍّ بعادةٍ راسخةٍ بحالٍ جديد، لا نسخُ آيةٍ بآيةٍ في معتركِ تناقض. 4) عِدّةُ الأرملة: سنةٌ أم أربعةُ أشهرٍ وعشر؟ بين (البقرة 240) و(البقرة 234) مثالٌ كلاسيكيٌّ يُدرَّس بوصفه نسخًا صريحًا: آيةٌ تأمر بمتاعِ الحولِ والسكنى، وأخرى تحدّد التربّصَ بأربعةِ أشهرٍ وعشْر؛ والحلُّ السهل: الثانية نسخت الأولى. أمّا القراءةُ التي تحترم العضوية فتفرّق بين الحدّ الأدنى للعدّة بوصفه أجلًا تعبّديًّا لا يُنقص، وبين حقّ السكنى والمتاع بوصفهما وصيةَ رعايةٍ اجتماعيةٍ تمتدُّ إلى الحول غيرَ إخراج؛ فإن شاءتِ الأرملةُ أن تمكثَ في بيتها لعامٍ كانت لها الوصيةُ وحقُّ الأمان، وإن اختارت الانصرافَ بعد انقضاء العدّة فلا جُناح؛ وهكذا يتجاور حكمُ العبادةِ وحكمُ الرعاية دون أن يلتهم أحدُهما الآخر. 5) الوصيّةُ والمواريث: (البقرة 180) و(النساء 11–12) بين “روح العدل” و“هندسة القسمة” زعموا أنّ آية الوصيّة “كُتِبَ عليكم إذا حضرَ أحدَكم الموتُ إن تركَ خيرًا الوصيّةُ للوالدين والأقربين” نُسخت بآيات المواريث، وأنّ الحديث “لا وصيّةَ لوارث” أغلق الباب. والقراءةُ التي تحافظ على تناغم المقاصد ترى أن آيات المواريث هندست قسمةَ الحقّ المفروض، بينما أبقت آيةُ الوصيّة روحَ البِرّ مفتوحةً لمن لا نصيبَ لهم في الفريضة أو لمن احتاجوا مزيدَ رعايةٍ في حالاتٍ مخصوصة، وأنّ الحديث قيّد الوصيّة بحيث لا تُستعمل للتمييز بين الورثة وإبطالِ قِسمتهم، لا ليقتل مبدأ الوصيّة أصلًا؛ وهكذا يَظهر أنّ “النسخ” المُدَّعى كان علاجًا اصطلاحيًّا لعجزٍ عن إدارة التعارض الظاهري، بينما الحلّ النصّيّ: جمعُ الفريضة والوصية في طبقتين مختلفتين من الحقّ. 6) عِدّةُ الحامل: (الطلاق 4) و(البقرة 234)… خصوصٌ لا إلغاء قيل: “أُولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن” نسخَتْ عدّةَ الوفاة لأربعةِ أشهرٍ وعشرٍ. والحقّ أنّ الخاصَّ مُقدَّمٌ على العام: الحاملُ – مطلّقةً كانت أو مُترمّلة – تنتهي عدّتُها بالوضع، لا لأن الآية محَت أختَها، بل لأن الحالة الخاصّة تُحكِّم حكمَها؛ هكذا يعمل القرآن: لا يمحو قاعدةً بقاعدةٍ، بل يُحسن تنزيل القاعدة بحسب المقام. فلسفةٌ جامعة: من “سياسة الإبطال” إلى “اقتصاد المعنى” حين نُعيد هذه الأمثلة إلى سياقاتها، يتضح أنّ “النسخ” كان كثيرًا ما يُستدعى لإطفاء قلقٍ منهجيٍّ لا لمعالجة تعارضٍ حقيقيّ: فـآية السيف تعود إلى سياقها السياسيّ ولا تمسّ كرائمَ القيم، ولا إكراه قاعدةٌ فوق نصوصِ الردع كلِّها، والخمر درسٌ في تدرّج التربية لا في محو النصوص، وعدّة الأرملة جمعٌ بين حقِّ العبادة وحقِّ السكنى، والوصية روحُ برّ لا تُبطل هندسةَ المواريث، وعدّة الحامل خصوصٌ يشتغل داخل عموم. عند هذا الحدّ تصبح القاعدةُ التأويلية واضحة: يُقدَّم الجمع على الترجيح، والترجيحُ على الادّعاء بالنسخ؛ يُحمَل العامُّ على الخاصّ، والمطلقُ على المقيَّد، ويُستفادُ من التدرّج سلوكُ الطريق لا محوُ علاماتِه؛ تُقرأ المقاصدُ الكبار “رحمةٌ، عدلٌ، كرامةٌ، حريةُ الضمير، حفظُ النفس والمال والعِرض” بوصفها لحنًا واحدًا تعزفُه التفاصيل؛ ويُحافَظ على صورة القرآن جسدًا عضويًا تُكمِّل فيه الآياتُ الآياتِ، كما تُكمّل أعضاءُ الجسد وظائفَها، لا يَحيا عضوٌ بموت عضو. إنّ الدفاع عن نقاءِ النص لا يقتضي أن ننكر التاريخ، بل أن نضعه في مكانه: قراءةُ الوحي بوصفه “نظامَ هداية” لا “سجلَّ أوامر”؛ فإذا ضاقت بنا القراءةُ اللائحية استدعينا “النسخ” لنتخلّص من الحيرة، أمّا إذا دخلنا البنية العضوية للوحي صارت الحيرةُ طريقًا إلى حكمة الجمع، وصار التوترُ الظاهر بين آيتين فرصةً لاكتشاف البعد الثالث الذي لا يظهر إلا لمن وقف بينهما بلا مقصّ: هناك – في المسافة التي لا يقطعها إلا الإصغاء – تتكشّف وحدةُ الصوت: صوتٌ واحدٌ يتلوّن بالمقام، يشتدُّ حين يلزم الردع، ويلينُ حين يحضر العفو، ولا يتناقض لأنّ غايتَه واحدة: أن يهبَ الإنسانَ طريقًا إلى الرشد، لا وصفةً لتعطيل النص بالنص. الأثر الفقهيّ والسياسيّ: كيف صُنِعت “آيةُ السيف” ميزانًا من حديدٍ لكتابٍ نزل ميزانًا من نور إذا كان الفقهُ مرآةَ تلقّي الأمة لكلام ربّها، فالسؤال الذي لا يني يعود – كلما طُويَت صفحةٌ ثم فُتِحَت أُخرى – هو: ماذا يحدث للنص حين تُرفَع آيةٌ واحدة إلى رتبة “مِفتاح التأويل” و“سياسة الباب العالي”، فتُساقُ إليها آياتُ الرحمة سوقًا لتُعلَّق على جدارها، وتُردّ إليها مقاصدُ العدل لتُختزل في “نظام طوارئ” دائم، ثم يُقال للمكلَّفين: هذا هو الأصلُ، وما عداه تزيينٌ لفظيٌّ نسختْهُ وقائعُ السيف؟ عند تلك اللحظة التي ينقلب فيها الميزانُ من نورٍ يوزّع الدلالات إلى حديدٍ يقطعها، تتبدّلُ البلاغةُ إلى إدارةٍ للقسوة، ويتحوّل “النسخ” من أداةٍ استثنائيةٍ لضبط التعارض إلى هندسةٍ سياسيّةٍ للهيمنة، ويخرج الفقهُ من مقام “فقهِ الهداية” إلى مقام “فقهِ الضرورة” الذي يُمدَّد بلا ضرورة. إنّ “آية السيف” – التوبة: 5 – لم تُسمَّ في التنزيل سيفًا، ولم تُعرِّف نفسَها بوصفها لائحةَ إلغاءٍ عامّة، بل قُدّمت في سياقٍ محدّدٍ مشروطٍ بإعلامٍ ومهلةٍ وتمييزٍ بين ناقضي العهد والمستقيمين، وبأبوابٍ مفتوحةٍ للتوبة والجوَار، ومع ذلك فقد رَسَخَ في تقاليد من التلقّي أنّها خاتمةٌ تُغلق ما قبلها وتوجّه ما بعدها، حتى قيل – في مبالغاتٍ يردّها النصُّ والعقل – إنّها نسخت مئات الآيات من البرِّ والقسط والدفع بالتي هي أحسن، ومعها صارت “لا إكراهَ في الدين” حُلْيةً أخلاقيةً لا قاعدةَ تشريع، و“وجادلهم بالتي هي أحسن” توصيةً وعظيّةً لا سياسةَ دعوة، وكأنّ الوحيَ الذي نزل هدىً للناس يحتاج إلى “مِفتاح طوارئ” دائمٍ يعلو عليه؛ هنا يبدأ أثرُ الآية في الفقه: انقلابُ الأصل والفرع، إذ يُجعل القتالُ – الذي جاء في مواضعه علاجًا لعدوانٍ قائم – أصلًا حاكمًا، ويُجعل السِّلمُ والاستعفافُ والبرُّ تبعًا أو ميدانًا للمستضعفين لا للآمنين. ومن هذه العتبة دخلت السياسةُ؛ فحين احتاجت الإمبراطوريةُ إلى لاهوتٍ للتمدّد، وجدت في تأويلٍ مُفرَطٍ لـ“آية السيف” ما يؤسِّس لمسارٍ يسمّيه الفقهاء “جهاد الطلب” بوصفه قاعدةً لا احتمالًا تاريخيًا، وترتّب على ذلك فقهُ علاقاتٍ دوليّة يبني على افتراض العداء الدائم، ويُبقي المعاهداتِ هدنةً مشروطةً لا سلمًا مُستقرًّا، ويوسّع منطقَ “التمييز” بين الداخل والخارج حتى يغدو الخارجُ كيانًا قانونيًّا أقلَّ حصانةً، ثم يتسرّب هذا كلُّه إلى فقه الذمّة، وإلى تصوّرٍ هرميٍّ للمواطنة، وإلى خطابٍ يجعل الجزيةَ عنوانَ الخضوع لا آليةً تاريخيةً لتقاسم الأعباء، وحين تتوطّن هذه الشبكةُ في العقل الفقهي، يصبح الرجوعُ إلى مقاصد العصمة – عصمة الدماء والأموال والأعراض – عملًا تأويليًّا متكلّفًا لا قاعدةَ الانطلاق. وباسم “النسخ” جرى إغلاقُ أبوابٍ كانت مفتوحةً للنظر؛ إذ ما إن تَصدَّرَ حديثُ الإلغاء حتى صار جمعُ الآيات فنًّا مهجورًا، وصار “حملُ العام على الخاصّ” و“المطلق على المقيّد” مجرّد قواعدَ مدرسيةٍ تُطوى لصالح جملةٍ جاهزةٍ تُسكِت السؤال: هذه منسوخة؛ وبذلك انقلبت الحِرفةُ الأصوليّةُ من صناعةِ الفهم إلى صناعةِ التعطيل، وانكمش الاجتهادُ إلى إدارةِ الموروث لا محاورته، وغُلِّف الخوفُ من التناقض بعبارة “سدّ الذرائع”، فتكوّن ما يمكن تسميتُه “فقه الخوف”: فقهٌ يُقدِّم صلابةَ النسق على أمانة النصّ، ويُفضِّل يقينًا فقهيًّا سريعًا على حرجٍ معرفيٍّ خصب، ويَستدعي السيفَ في كل مرّةٍ ترتبك فيها اليدُ عن حمل الميزان. وليس الأثرُ السياسيُّ أقلَّ فداحة؛ فحين يُرفَع التأويلُ القتاليُّ إلى رتبة “روح الشريعة”، تتوفّر للسلطةِ حجّةٌ مطّاطيةٌ تُمدِّد بها حالةَ الطوارئ، وتُصادَر بها المعارضةُ بوصفها “فتنةً” يُقاتَلُ أصحابها، ويُعادُ تعريفُ “دار الإسلام” لا بوصفها فضاءَ عدلٍ يَسَعُ المختلفين، بل بوصفها معسكرًا مُستنفَرًا تذوبُ فيه الفروقُ بين الأمن والحرب، وتُختزل “السياسةُ الشرعيّة” في هندسةِ العدوّ والصديق، مع أنّ القرآنَ – إذا قُرِئَ بجمعه – صاغَ تصوّرًا مدنيًّا رفيعًا: لا ينهـاكُمُ اللهُ عنِ الذينَ لم يُقاتِلوكُم في الدّينِ ولم يُخرِجوكُم من دِيارِكُم أن تبرّوهُم وتُقسِطوا إليهم؛ ولكنّ النسخَ – حين يُحوَّل إلى سياسةٍ – يَطمرُ هذه المقاماتِ تحت ركام “الواقعات”، فيرتفع الظرفُ إلى رتبة الدليل، يعلو الاستثناءُ على القاعدة، وتُساق الملّةُ إلى ضيقٍ لم يخلقه النصُّ بل خلقه الخوف. ومع ذلك، فإنّ طريقَ الاستدراك واضحٌ لمن شاء أن يُعيد للميزانِ وزنه؛ وأوّلُه أن نكسر سطوةَ “الاحتكار التأويلي” الذي يختبئ خلف لفظ النسخ، فنُعيد الآيةَ إلى سياقها، ونُعيد السياقَ إلى مقاصده، فنقول: الأصلُ في الدماء العصمة، والأصلُ في العلاقات البرُّ والقسط، والأصلُ في الدعوة حريةُ الضمير، والقتالُ علاجُ ضرورةٍ لدفع ظلمٍ مُتحقّقٍ لا برنامجُ حكمٍ يُؤبَّد، وأنّ “آية السيف” – إن قرأناها قراءةَ عضويةٍ مع آيِ الباب – لا تَنسخُ “لا إكراه” ولا “ادفع بالتي هي أحسن” ولا “وإن جنحوا للسلم فاجنح لها”، بل تنزل منزلةَ الجراحة عند استفحالِ الورم، والجراحةُ لا تُبطلُ علمَ التغذية، ولا تُحيلُ الحياةَ إلى غرفة عمليات. وثانيه ميثاقٌ تأويليٌّ بسيطٌ عميق: تقديمُ الجمع على النسخ ما وُجد إليه سبيل، لأنّ الوحيَ بُنيَ على الانسجام لا على التنافي؛ ردُّ المتشابه إلى المحكم: محكمُ المقاصد ومُحكماتُ القيم التي لا تقوم ملّةٌ بغيرها؛ قصرُ الحرب على الدفع لا الطلب بوصفه قاعدة، وتقييدُ قرارها بسلطان العدل والمصلحةِ المعتبرة لا بهواجس السلطة؛ تحريمُ التأبيد التأويليّ لحالةِ الاستثناء: فما شرِع للضرورة يُقدَّر بقدرها وينتهي بانتهائها؛ استعادةُ وظيفةِ “البرّ والقسط” كسياسةٍ عامة لا كفضلٍ أخلاقيّ؛ فهذه آياتُ سياسةٍ مدنيّةٍ بامتياز، لا شواهدُ إنشائية. وثالثه آثارٌ فقهيةٌ عمليةٌ إذا اعتنقنا هذا الميثاق: تتحوّل المعاهداتُ من هدنةٍ مريبةٍ إلى التزامٍ مُلزِمٍ ما التزم الطرفان، ويُعاد بناءُ فقه المواطنةِ على أساس عصمةِ الإنسان لا على تراتُبِ الملل، ويُصاغُ فقهُ الدعوةِ بوصفه خطابَ حِكمةٍ لا إدارةَ قسر، ويُحرَّر القضاءُ من ذريعة “الفتنة” التي تُستعمل لتجريم المخالِف، وتُردّ ولايةُ إعلان الحرب إلى مؤسّساتٍ تُحاسَب، ويُعاد فتح باب الاجتهاد في فقه العلاقات الدولية بميزان المقاصد لا بذاكرة الغزو؛ وعندها يستعيد الفقهُ كرامتَه كعلمٍ يُدير الحياةَ بالعدل، لا كأرشيفٍ يُدير الحياةَ بالخوف. الحصيلةُ إذن ليست “هجومًا على الدين” – كما يُحبّ المهتزّون أن يُسمُّوا كلّ مراجعة – بل دفاعٌ عن نقاءِ النصّ من تحميله ما لم يقله، ودفاعٌ عن العقلِ من أن يُغلَق بمفتاحٍ صُنِع لتسهيل الباب ثم استُعمل لإحكامه، ودفاعٌ عن السياسة من أن تُستَباح باسم الآية، وعن الآية من أن تُستَباحَ باسم السياسة؛ فالذي نطلبه ليس قرآنًا بلا قتال، بل قرآنًا لا يُختزل في القتال، وليس فقهًا بلا واقعة، بل فقهًا لا يؤبّد الواقعة فتلتهم الوحي، وليس دولةً بلا أمن، بل دولةً لا تُحوّل الأمنَ إلى ذريعةٍ لنسخِ القيم. ولعلّ الصورة الأقرب إلى ما نبتغيه أن نعيد الآيةَ من يدِ “السيف” إلى يدِ “الميزان”: الآيةُ التي تُمسِكُ بالكفّة لا تُعادي الآيةَ التي تُمسِكُ بالأُخرى، بل تتكاملان ليقوم العدل، فإذا رجحت كفّةُ الضرورة لحظةً بفعل عدوانٍ قائمٍ، لم تُكسَر الكفّةُ الأُخرى بل تُنتظر عودتُها لتستوي؛ وهكذا يتكلّم الوحيُ بلسانٍ واحدٍ متعدّد النبرات، نبرةُ حزمٍ حين يُصفَع الضعيف، ونبرةُ رحمةٍ حين يُستدرجُ القاسي إلى الخير، ونبرةُ حِكمةٍ حين يلتبس الطريق، وأمّا النبرةُ التي تُريد أن ترفع كلَّ ما سواها فهي ليست من القرآن في شيء، وإن لَبِسَتْ اسم “آية السيف”. إنّ إعادة فتح باب العقل هنا ليست ترفًا نظريًّا، بل شرطُ نفعيةٍ قصوى للإنسان والمجتمع: ففقهُ السلم يُخفّف أثمانَ الدم، وفقهُ البرّ يوسّع دوائرَ العيش المشترك، وفقهُ الضرورةِ المقيَّدةِ يَحُدُّ السلطةَ بسياجٍ من القانون، وكلّ ذلك من لُباب “الجنةِ في الدنيا” التي بشّرَ بها القرآنُ حين صاغَ مجتمعَ النملِ تعاونًا، ومجتمعَ النحلِ تدبيرًا، لا مجتمعَ الذئاب؛ فإذا استقام الميزانُ في الفقه والسياسة، أمكن للنصِّ أن يعود صوتًا لا سيفًا، وأن يظلَّ كما نزل: هُدًى ورحمةً، لا برنامجَ إلغاءٍ يُسَوِّغُهُ خوفُنا ويُعاقِبُنا به التاريخ. النسخ كأداةٍ للسلطة: حين تتحوّل تقنيةٌ تأويليّة إلى تقنيةِ حكم، وحين يُستعار من النص «قانونُ الاستثناء» لتطبيع العنف ليس هذا الكلامُ طعنًا في الدين، بل حِراسةٌ لمعناه من أن يُستعمل على غير وجهه؛ وليس مساءلةً للوحي، بل للآليات التي وُضِعت بين يديه ثم رُفِعت فوقه، حتى صار الممكنُ التأويليّ – في بعض البيئات – سلّمًا إلى الممكنِ السياسي، وصار “النسخ” الذي وُلِدَ بوصفه محاولةً فنيةً لرفع تعارضٍ متوهَّم بين آيتين، جهازًا إداريًا لإطفاءِ أصوات النصّ التي تُحرج القرار، وتقييدِ ما يَقِفُ حجرَ عثرةٍ أمام نزعاتِ الهيمنة؛ ومن هنا يبدأ الحديث: من تلك اللحظة التي يُعلَّب فيها الزمنُ القرآنيّ في هرمٍ قاسٍ يعلو فيه “اللاحق” على “السابق”، وتُستَبدَلُ حكمةُ التنزيل بالتدرّج بمزاجيةِ الإلغاء بالتغليب، فينشأ تراتُبٌ نصّي يُشبه تراتُب السلطة: آياتٌ آمرةٌ تُرفعُ إلى مقامِ “السيادة”، وأخرى راحِمةٌ تُنزَّلُ إلى مقام “الاستئناس”، ثم يُقال للناس: هذا هو الدِّين. النسخ – في صورته التي نَنْقُدُها – لا يعملُ كمفتاحٍ معرفيّ بارد، بل كرافعةٍ سيكولوجية وسياسية؛ إذ يمنحُ مَن يُمسِك بمفتاحه قدرةً على إعلان “نهاية النقاش” باسم نصٍّ أعلى يَطوَى ما سواه، ويمنح الجماعةَ شعورًا مُسكرًا باليقين السريع: يقينٍ يتخلّص من عناءِ الجمع، ومن كلفةِ حملِ العامِّ على الخاصّ، ومن حرجِ الموازنة بين المقاصد حين تتزاحم، فيُبنى بدله “حلٌّ نهائيّ” يستريح إليه الضميرُ ويستنيمُ له السلطان؛ وبذلك تُستوردُ من النصّ شرعيةُ “حالة الطوارئ” وتُؤبَّد، إذ يُقَال: هذه الآياتُ – آياتُ الحوار، وآياتُ البرّ، وآياتُ القسط – قد نُسِخت بحكم مرحلةٍ لاحقةٍ أشدّ، وكأنّ التاريخَ – لا المقصد – هو الذي يمنحُ النصَّ رتبتَه، وكأنّ الغايةَ من التنزيل أن يصل إلى لحظةٍ واحدةٍ تُغلقُ كلّ ما قبلها، لا أن يفتحَ مسارًا حيًّا يعقلُ الناسُ فيه الكتابَ بعضَه ببعض. هكذا تتكوّن “ميكانيكا النسخ” كأداةِ سلطان: تُؤطِّرُ الوجدان بخريطةٍ بسيطةٍ ثنائيةٍ تُقسّم الآيات إلى “مقبولةٍ الآن” و“مؤجلةٍ إلى إشعارٍ غير مسمّى”، وتُنقل القيمُ من مقامِ الإطلاق إلى مقامِ الإذن الإداري؛ فإذا احتاجت السلطةُ إلى تعبئةٍ عسكريةٍ أو إلى خطابِ قسوةٍ داخلي، رُفِعَ التأويلُ القتالي إلى صدارة المنبر، وشُغِّلَ “زرّ النسخ” لإسكات المعارض من النصّ: لا لأن النصَّ ساكتٌ، بل لأن الجهازَ الذي بين الأيدي صُمِّمَ ليُسكت، فتتحول الآيةُ – متى اقتضى الهوى السياسي – إلى “أداةِ إلغاء” لا “أداةِ هداية”، وتتحول الموعظةُ إلى دليلِ إجراءات، ويصير سؤالُ الأخلاق رفاهيةً لا يحتملها “الواقع”. ومن هذه البوّابة تولدُ نزعاتُ العنف الدينيّ بثلاثِ حلقاتٍ مترابطةٍ يُغذّي بعضُها بعضًا: حلقةٌ معرفيةٌ تُعلنُ التفوّقَ النصّيّ لآيةٍ على أخرى بدعوى النسخ فتُلغي التعدّدَ الهاديَ في الخطاب؛ وحلقةٌ نفسيةٌ تمنحُ القاتلَ راحةَ ضميرٍ لأن “الآية العليا” رفعت الحرج، فلا حاجةَ إلى تردّدٍ أمام دمٍ أو عرضٍ أو مالٍ إذا أمكن تسميةُ صاحبِهِ عدوًّا نسخته الحقوق؛ ثم حلقةٌ تنظيميةٌ تضعُ مفتاح تعريفِ “العدو” في يد السلطان أو الجماعة، فينقلبُ النسخُ من مسألةِ دلالةٍ إلى مسألةِ تصنيفٍ اجتماعي، ومن حوارٍ مع النصّ إلى تفويضٍ لمُحتكرِ قراءته، فتستقيمُ القسوةُ باسم “الضرورة الشرعية” ولو غابَ شرطُها، ويجري توسيعُ الاستثناء حتى يبتلعَ القاعدة. وإذا نزلنا من النظر إلى الواقع، وجدنا أنّ النسخ – بهذا المعنى – يمدّ السلطةَ بثلاث مزايا خطيرة: أوّلُها اختصارُ الزمن الأخلاقي: إذ يُعطّل المراحلَ التي تسبقُ الفعلَ العنيفَ (الحجّةُ، والصَّبرُ، والعهدُ، والبرُّ، والقسطُ) بدعوى أنّها آياتٌ “ماضية” أو “مُنتهية الصلاحيّة”، وثانيها تسويةُ التضادّ القيمي لصالح القوة، فحين يتنازع في قلب الفقيهِ نصٌّ يأمرُ بالبرّ وآخرُ يشرّعُ للقتال دفاعًا، يأتي النسخُ – لا الجمعُ – ليمنحَ السيفَ مقامَ الحَاكِم، وثالثُها تقديسُ الطاعة؛ لأنّ مَن يملك تعريفَ الناسخ والمنسوخ يملكُ تعريفَ الواجب والحرام، فيتضخّم سلطانُ الفقيهِ أو الأمير، ويضمرُ سلطانُ الضمير. لكنّ هذا كلّه ليس قدرًا؛ فالنسخُ لا يَغذّي العنفَ إلا حين يُنزَع من سياقه الدقيق ويُلقى في يدِ من يريد توسيع الاستثناء، وإلا فإنّ القراءةَ العضويةَ للنصّ – قراءةُ مقاصده ومُحكماته وتراتُبِ أولوياته – تُطفئُ وقودَ القسوة وتردّ “قانونَ الاستثناء” إلى حجمه، إذ تغلّب الجمعَ على الإلغاء، والمحكمَ على المتشابه، والضرورةَ المقدّرةَ بقدرها على شهوة التأبيد؛ عندها يغدو القتالُ علاجًا لعدوانٍ محقّق، لا برنامجَ حكمٍ دائم، وتعودُ آياتُ البرّ والقسط إلى مقامها: سياسةً عامّةً لا زينةَ خطاب، وتُستعاد قاعدةُ العصمة التي جعلها الوحيُ أصلًا لا فضلًا: “مَن قَتَلَ نفسًا بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنّما قتل الناسَ جميعًا”. إنّ أخطرَ ما تفعلُهُ السلطةُ – حين تتكئ على مفهومٍ مُفرَط للنسخ – أن تُعيدَ صَوغَ خارطةِ المقدّس بما يُناسبُ إدارةَ القوّة: ترفعُ منسوبَ “المهدِّد” في الخطاب، وتُحوِّلُ المختلفَ السياسيّ إلى خصمٍ دينيّ، وتبني حول المجتمعِ “سياجَ الخوف” الذي يُقنِعُهُ أنّ الأمانَ لا يتحقّق إلا بإسكاتِ المعنى الذي يُربك آلةَ العنف؛ فينقلبُ الفقهُ إلى بروتوكولِ أمن، وينقلبُ المنبرُ إلى غرفةِ عمليات، وينقلبُ النصّ – وهو نورٌ – إلى مصباحٍ أحمرَ لا يَكُفُّ عن الإنذار؛ وكلّ ذلك باسم آيةٍ زُحزِحَتْ من سياقها أو مقصودٍ صودرَ لصالح تأويلٍ لا يَرى في الناس إلا معسكرات. ولكي نكسر هذه الدائرةَ، لا نحتاج إلى اختراعِ دينٍ جديد، بل إلى إعادةِ النصِّ إلى طبيعته: ميزانٌ لا مِقصلة، وهدًى لا لائحةَ إلغاء؛ وذلك بميثاقٍ قارئٍ واضحٍ لا مساومةَ فيه: أن النسخَ آخرُ ما يُلجأ إليه بعد استنفادِ وجوه الجمع، وأنّ ادّعاءه يحتاجُ من الدليل ما لا يحتاجه غيره؛ وأنّ آياتِ الكرامة – حرمةُ الدم، حريةُ الاعتقاد، البرُّ والقسط – محكَماتٌ حاكمة لا تُنسخُ بواقعةٍ عابرةٍ ولا تُبطَلُ بظرفٍ سياسي؛ وأنّ سلطةَ تعريف “العدو” ليست تفويضًا مفتوحًا لأميرٍ أو جماعة، بل محكومةٌ بضوابط العدل وغاياتِ الأمن العام الذي يَسَعُ الناسَ كلَّهم؛ وأنّ الضروراتِ لا تُؤبَّد: فما شُرِع لعلاجِ خطرٍ راهنٍ يزولُ بزواله ولا يُحوَّلُ إلى هوية. حين نلتزمُ هذا الميثاقَ، يتراجعُ العنفُ الذي غذّته “أيديولوجيا النسخ” إلى حجمه الطبيعي: حالةُ دفاعٍ مُقَيَّدة، لا لاهوتُ توسّع؛ ويستعيدُ الفقهُ شجاعتَه في بناءِ سياساتِ برٍّ وقسطٍ لا تَخجلُ من إعلانِها كأصل، ويستعيدُ المجتمعُ حقَّه في ألا يُدارَ بخطابِ إنذارٍ دائم؛ وحينئذٍ فقط يتكلمُ النصُّ كاملًا: يتكلمُ بلسان العدل حين تُنتهكُ الحرمات، وبلسان الرحمة حين يُستَدرجُ الناسُ إلى الخير، وبلسان الحِكمة حين تلتبسُ الطريق، ولا يُترَكُ لسانٌ واحدٌ – لسانُ السيف – ليصادر ما سواه. إنّ السؤال التحفيزيّ الذي فتحنا به سلسلةَ هذه الأعمدة لا يزال يَصلُحُ خاتمةً لهذا العمود: إذا كان الله قد أحكمَ كتابه، فمن يجرؤُ – كائنًا مَن كان – أن يرفعَ ختمَ الإلغاء على آيةٍ قال فيها ربُّ العالمين ما قال؟ ومن يملكُ أن يُحوِّلَ “الاستثناء” إلى دستورٍ، و“حالةَ الطوارئ” إلى هوية؟ ليس الجوابُ حِجاجًا بل عهدًا: أن نردّ السياسةَ إلى حدودها، والدينَ إلى رحمتِه، والنصَّ إلى مقامِه، وأن نجعلَ من الفهمِ جسرًا إلى العدل لا إلى الشرعنة، ومن القراءةِ سببًا لخفضِ منسوبِ العنف لا لرفعه، ومن “النسخ” درسًا أخيرًا في رفع التعارض حين يَتعذّر الجمع، لا زرًّا سهلًا تُطفأ به أنوارُ القرآن كلّما تكلّم. الفلسفة القرآنية والبدائل: التدرّج لا الإلغاء… وكيف تُعلِّمنا النملُ والنحلُ هندسةَ التكامل ليس المقصودُ من هذا العمل أن يضعَ الدينَ في قفص الاتهام، بل أن يُخرِج النصَّ من الأقفاص التي صُنعت باسمه؛ فالداءُ – كما قلنا غير مرّة – ليس في الوحي، بل في الآليات التي تُحوِّل التنزيلَ من نهرٍ جاري إلى سِكّةٍ حديديةٍ لا تعرفُ إلا اتجاهًا واحدًا، فإذا ضاقَ التأويلُ بالاختلاف استدعى “الإلغاء”، مع أن الفلسفة القرآنية – في أعمق طبقاتها – قامت على “التدرّج”: ارتقاءٍ هدويٍّ يَضمُّ ولا يَقصّ، يُكمِّلُ ولا يُعطِّل، يُراكمُ الخبرةَ حتى تُصبحَ شريعةَ قلبٍ قبل أن تكونَ مادّةَ حكم. الفلسفةُ القرآنيةُ لا تُدرّبُ القارئ على سيفٍ يُسقِطُ نصًّا بنصّ، بل على مِيزانٍ يَجمعُ ما تفرّق ويَحملُ المتشابهَ على المحكم، ويُنزِّلُ الاستثناءَ منزلةَ العلاج، لا منزلةَ الهوية؛ إنّها فلسفةُ “الوقت” لا “القطيعة”: زمنٌ يُهَذِّبُ الرغبةَ حتى تليقَ بالحكمة، وزمنٌ يُقلِّبُ المعنى على وجوهِه حتى يستقرَّ في موضعه الطبيعيّ، فلا تُستعمَلُ آيةُ شدّةٍ مسرحًا دائمًا، ولا آيةُ رِفقٍ زينةَ خطابٍ موسميّ، بل يُعطَى كلُّ مقامٍ مقالَه على سلّمٍ مقاصديٍّ يتقدّم فيه حفظُ الإنسان وكرامتُه على نزوات القوّة، وتُقاسُ به الأحكامُ بقدرِ عللِها، فإذا زالت العِلّةُ رُدَّ الحكمُ إلى أصلِه، وإذا ضاق الظرفُ اتّسع العفوُ، وإذا تزاحمت القيمُ قُدِّمت الأعبَدُ للمقصدِ الأعمق، لا الأعلَى صوتًا في لحظةِ النزاع. ولأنَّ المجازَ كثيرًا ما يُضيءُ ما تُعميه التعريفاتُ المدرسيّة، فإنّ القرآنَ نفسَه يضع بين أيدينا رمزين كونيَّين للتكامل لا للإقصاء: النمل والنحل. في “النمل” تسمع حكمةَ التنسيق قبل الصدام: «قالت نملةٌ يا أيُّها النملُ ادخلوا مساكنكم لا يحطمنّكم سليمانُ وجنودهُ وهم لا يشعرون»؛ ليست آيةً في الهامش، بل درسًا في تدبير المخاطر: إنذارٌ رفيقٌ، إدارةٌ استباقيّة، تفويضٌ اجتماعيّ يُحافظُ على الجسدِ الكُلّي دون أن يُكفّرَ “الآخر” أو يشيطنَه، فالخطرُ هنا عارضٌ لا هوية. وفي “النحل” تسمعُ وَحْيًا غيرَ مُكلَّفٍ بالتشريع، لكنّه يُشرِّعُ لنا معنى الهندسةِ العضويّة: «وأوحى ربُّك إلى النحل أنِ اتّخذي من الجبال بيوتًا… ثم كُلي من كلِّ الثمراتِ فاسلكي سبلَ ربِّك ذُلُلًا»؛ سُبلٌ لا سَبيلٌ واحد، حركةٌ متعدّدةُ المسارات، ثم إنتاجٌ مُدهش: شرابٌ مختلفٌ ألوانُه، كأنَّ القرآنَ يقول: التكاملُ يُنتِجُ الشفاء، وتعدُّدُ المسارات لا يهدِّدُ الوحدة إذا كانت البوصلةُ ثابتةً نحو الربّ. بين نملةٍ تُقلِّلُ الأذى وتُكثِّفُ الوقاية، ونحلٍ يُكثِرُ السُّبُل ويُنتِجُ الشفاء، تتأسّسُ لنا ميتافيزيقا التدرّج: المجتمعُ الحيّ ليس منسجمًا لأنّ أحدًا أُسكت، بل لأنّ أصواتًا عديدةً عُومِلَت كما تُعامَلُ الآياتُ: تُحمَلُ بعضُها على بعض، ويقودُها مقصدٌ أعلى لا مطرقةُ إلغاء. من هنا، يتعيَّنُ علينا – منهجيًّا – أن نعكسَ مسارَ “النسخ” إلى بدائلَ قرآنيةٍ أربعة تحفظُ وحدةَ الوحي وتمنحُ العقلَ أدواتِ رفعِ التعارض دون مقصلة: الجمعُ قبلَ الحكم: الأصلُ أن تُجمَعَ الدلالاتُ لا أن تُستبعد؛ فإن بدا التضادُّ، فمَحاملُ اللغة واسعة: تخصيصُ العام، تقييدُ المطلق، حملُ المطلق على المقيَّد، بيانُ الشرط والمانع؛ وما سُمّي نسخًا في كثيرٍ من المواضع لا يجاوزُ هذه الصناعاتِ الدقيقة. المقاصدُ حاكمة: تُرتَّبُ النصوصُ على سُلَّمٍ قيميٍّ: كرامةُ الإنسان، عصمةُ الدم، الوفاءُ بالعهد، دفعُ الظلم؛ فما صادمَ المقصدَ العام حُمِلَ على ظرفِ الضرورةِ وقيودِه، ولا يُجعلُ قاعدةً دائمةً تُحَوِّلُ الاستثناءَ إلى هوية. الضروراتُ لا تُؤبَّد: كلُّ خطابِ شدةٍ معلَّلٌ بعلّة، مقدَّرٌ بقدرها، زائلٌ بزوالها؛ وبزوال العِلّة يَعودُ الأصلُ: البرُّ والقسطُ والإحسان. الترجيحُ عندَ العجز عن الجمع: فإذا تعذّرَ الجمعُ، رُجِّحَ بما يُقَرِّبُ من مقصدِ الهدى، لا بما يُرضي شهوةَ الغَلَبة؛ والراجحُ لا يُلغِي المرجوح، بل يَضبطُ مجالَه وشرطَه. ولكي لا يبقى هذا كلامًا جميلًا بلا أدوات، نقدّم ميثاقًا عمليًّا للقراءةِ التدرّجيّة يصلحُ أصلًا مُقرَّرًا بديلًا عن “بوّابة الإلغاء”: قاعدةُ اليقين: لا يُدَّعى النسخُ إلا ببينةٍ أوضحَ من دعوى التعارض، ولا يُنتَقَل إلى الإلغاء قبل استنفادِ وجوهِ الجمع. قاعدةُ المحكم: تُجعلُ آياتُ الكرامةِ والعدلِ حرزًا للنصّ، تُحمَلُ عليها سائرُ المواضع، وتبقى هي “الروح” التي لا تُنسخ. قاعدةُ الزمن: يُفهَمُ التدرّجُ كتربيةٍ لا كقَطعٍ؛ المكيُّ يُربّي الحساسيّة، المدنيُّ يُنظِّمُ السلوك، ولا أحدَهما يَبطُلُ الآخر. قاعدةُ السِّلم: الأصلُ في العلاقة مع الناسِ القسطُ والبرّ، والقتالُ علاجُ عدوانٍ محقّقٍ بضوابطه؛ فلا تُؤبَّدُ حالةُ الطوارئ. قاعدةُ الشورى: لا تُستَخرَجُ أحكامُ الاستثناءِ بقرارِ فردٍ أو عاطفةِ جماعة، بل بميزانٍ جماعيٍّ من أهلِ العلم والعدل، تُعرَضُ فيه المقاصدُ قبل النصوص الجزئية. بيداغوجيًا، نُحوِّل “مدخلَ علومِ القرآن” من درسِ إلغاءٍ إلى هندسةِ تكاملٍ بثلاث طبقاتٍ متصاعدة: طبقةُ التذوّق: يُستعادُ انفعالُ المكيّ: التوحيدُ، الرحمةُ، اليومُ الآخر؛ يتعلمُ الطالبُ كيف يسمعُ قبلَ أن يُفتي. طبقةُ التحليل: تُدرَّسُ صناعاتُ الجمع والبيان والتقييد، ويُمنَعُ استعمالُ “النسخ” قبل إحرازِ العجز عن الجمع. طبقةُ التطبيق: تُبنى “دراسةُ حالات” لآياتٍ يُظَنُّ تعارضُها، تُحَلّ بأدواتِ التدرّج، ويُظهَرُ كيف يلدُ التكاملُ حكمًا أرقى وأعدل. وعلى مستوى المخيال، نُعيدُ رسمَ صورةِ المجتمع على هيئةِ النمل والنحل: مجتمعُ النمل يُعلِّمنا أنّ الاتّساقَ لا يحتاجُ خصومةً دائمة: كفايةُ التدابير، أولويةُ الوقاية، احترامُ الجغرافيا الأخلاقية: «وهم لا يشعرون»؛ لا عداءَ مجانيّ، بل تحويلُ الخطرِ إلى مناسبةِ يقظة. مجتمعُ النحل يُعلِّمنا أنّ تعدُّدَ السُّبُلِ ثراء: سلوكٌ مرنٌ، إنتاجٌ يَشفي، اختلافُ الألوانِ تحتَ سقفِ مقصدٍ واحد؛ وهذا هو عينُ الفقه حين يَجمعُ المذاهبَ على مقصدٍ جامع. بهذا المعنى، يصبح التدرّجُ بديلاً فلسفيًّا وعمليًّا عن الإلغاء: بديلًا يحفظُ وحدةَ الوحي دون خنقِ تعدّدِه، ويُحرِّرُ الفقهَ من إدمانِ “زرّ الطوارئ”، ويمنحُ المجتمعَ مناعةً ضدَّ نزعاتِ العنف؛ فإذا سُئلنا: كيف نُؤسِّسُ “نفعيةً قصوى” على مستوى الفردِ والمجتمع؟ قلنا: بقراءةٍ تُربّي لا تُقصي، تُراكمُ الخيرَ لا تُبدِّده، تُديرُ الاستثناءَ بوصفه استثناءً، وتُعيدُ الأصلَ إلى أصلِه: هدًى ورحمة. وفي خاتمةِ القول، إنّ السؤالَ ليس: أيُّ الآياتِ تُسقِطُ أيَّ الآيات؟ بل: أيُّ البوصلاتِ تضبطُ حركةَ الآياتِ فينا؟ فإذا ثبتت البوصلةُ على الكرامة والعدل، لم نحتج إلى مقصلةٍ تَحذفُ المعنى، بل إلى ميزانٍ يُدخِلُ كلَّ آيةٍ في مقامها؛ وحينئذٍ فقط نُصغي إلى القرآن كلِّه يتكلّم: تُنادينا النملةُ إلى التعقّل قبل التصادم، وتدلُّنا النحلةُ إلى تعدّدِ السُّبُلِ ثم الشفاء، ويفتحُ لنا التدرّجُ طريقًا طويلًا آمنًا من القطيعة، حتّى إذا بلغنا الغايةَ، لم نترك أحدًا خارجَ الضوء. إننا اليوم، عند أعتاب هذه الخاتمة، لا نغلق باباً، بل نفتح أبواباً لم تكن تُرى، لأننا لا نتحدث عن إصلاح مادة علمية جزئية في موروثنا، بل عن إعادة هندسة العقل الذي يتعامل مع الوحي. فالنسخ، كما صُوّر في تاريخنا، لم يكن مجرد أداة تفسيرية، بل كان في أحيان كثيرة مِقصّاً بيد المؤوّل، يقصّ من جسد النص ما لا يتفق مع عقله أو مصلحته أو سياق سلطانه. وحين يتحوّل النص الإلهي إلى خرائط مشذبة على مقاس القارئ، يغيب النص الكلي، وتفقد الرسالة انسجامها العضوي، ويبدأ الانفصال بين «الوحي» و«الواقع»، حتى يظنّ بعضهم أن النص بحاجة إلى من ينقّيه من نفسه. لكن الفلسفة القرآنية التي انطلقت من مشهد النمل المتكامل في مهماته، والنحل المتكافل في صنع عسله، ترفض فكرة أن الحكمة الإلهية تبني لتُهدم، أو تُرسل قولاً لتلغيه بقول، إلا في سياق تطوّر الرسالات بين أمم متعاقبة. أما داخل النص الواحد، فالتدرّج والبيان والتخصيص والتفصيل هي أدوات الحياة، بينما الإلغاء هو أداة الموت. لقد آن أن نعيد بناء علم جديد لعلوم القرآن، علمٍ ينطلق من مركزية النص كما هو، لا كما يرسمه المفسر بحدود قراءته، وأن نتجاوز التصنيف التقليدي للآيات بين «مُحكمة» و«منسوخة» إلى رؤية تجعل كل آية عنصراً حياً في الجسد النصي، لها وظيفتها ودورها في نسيج الوحي. وفي هذا البناء الجديد، لا بد من منهج تعليمي يتجاوز التلقين إلى التفكير، ويجعل الطالب شريكاً في إنتاج الفهم لا مستهلكاً لفهم غيره، ويضع أمامه النص القرآني في كامل جسده العضوي، ليقرأه كما يقرأ الكون: شبكة من المعاني المترابطة التي كلما فقدت منها جزءاً انهار التوازن. هنا، يصبح تجديد علوم القرآن ليس ترفاً أكاديمياً ولا نزعة حداثية، بل ضرورة وجودية لحفظ النص من الانتحار الداخلي الذي وقع فيه عبر قرون من اجتزاء المعنى. وهنا أيضاً، تُصبح هذه الخاتمة بداية مشروع موسوعي، لا يكتفي برفض النسخ كما رُسّم في التراث، بل يقترح فلسفة بديلة قادرة على جعل النص مرجعاً متجدداً، لا متآكلاً، حتى يتحقق الهدف الأعلى: إنسان راشد، ومجتمع راشد، حيث يكون القرآن كتاب حياة لا كتاب مقابر، ومصدر بناء لا ذريعة هدم.