محبّة النبي خارج القرآن: أوفياء للأسطورة… خونة للوصيّة

ياسين الطالبي

في هذا الأسبوع الذي يحتفل فيه الناس بذكرى مولد النبيّ محمّد ﷺ، ترتفع الأصوات بالمدائح، وتزدان الساحات بالأضواء، وتُسكب الدموع في مجالس الذكر، وكأنّ المحبّة تُقاس بالطقوس والمظاهر. غير أنّ السؤال الأعمق والأخطر يظلّ غائبًا: ما معنى أن نُحبّ محمّدًا حقًّا؟ هل هو أن نُكرّر اسمه في القصائد، أم أن نُكرّر وصيّته في حياتنا؟

لقد تعوّد الناس أن يفصلوا بين النبي ورسالتِه، وأن يُحوّلوه إلى صورةٍ أسطورية منفصلة عن الكتاب الذي جاء به، حتى غدا القرآن في وجدانهم كتابًا ثانويًّا، يُستأنس به للبركة أو يُقرأ في المآتم، بينما صارت الروايات هي الحاكمة في التشريع والعقيدة والسلوك. وهنا تنكشف المفارقة الصارخة: فالمحبّة الحقيقية ليست في رفع صورته التاريخية، بل في رفع صوته الحاضر في الكتاب، ولا في الدفاع عن الأسطورة، بل في الوفاء للعهد الأخير الذي تركه لنا.

ذلك العهد الذي أوصى فيه بكتاب الله، وجعل التمسّك به ضمانة الهداية، كان يجب أن يكون محور الدين، غير أنّ الأهواء صنعت بناءً آخر، أقيمت له جدران القداسة، حتى غطّى على الوحي نفسه. وهكذا تحوّل ما كان اجتهادًا بشريًّا إلى وحيٍ ثانٍ لا يُناقش، وصار نور القرآن محجوبًا بستائر كثيفة من الأصول والمصطلحات التي أُقيمت لتُلبس البشري لباس الإلهي، ولتُقدَّم للناس على أنها من الله، وهي في جوهرها صناعة رجالٍ استبدلوا سيادة الكتاب بسيادة أنفسهم.

ومن هنا صار الامتحان قاسيًا: هل يملك العقل المؤمن شجاعة مواجهة هذا الغياب الذي فُرض عليه باسم الدين؟ هل يقوى على أن يميّز بين النصّ الحاضر والنصوص التي وُلدت من رحم السلطة والخوف؟ هل يجرؤ على أن يعترف أنّ من زعموا محبّة النبي رفعوا شعار السُّنّة ليُخْفوا انقلابهم على سُنّته الحقيقية، وأنّهم اتّخذوا اسمه درعًا يغطّون به تشريعًا لم يُشرّعه، ورسالةً لم يُبلّغها؟

إنّ محمّدًا لا يُحَبّ بمدائح تُتلى في موسم، ولا بدموعٍ تنزل في ساعة وجد، بل يُحَبّ حين يُعاد كتابه إلى مكانته الأولى، وحين تُترجم محبّته إلى عدلٍ يُقام، ورحمةٍ تُعاش، وحريةٍ تُصان، وكرامةٍ تُردّ لكلّ إنسان. أما المظاهر التي تُشغل الجماهير في ذكرى مولده، فهي إن لم تُفضِ إلى هذا المعنى العميق، لم تكن سوى طقوسٍ تُخدّر العاطفة وتُغشّي العقل.

والحقيقة التي لا يريد كثيرون سماعها أنّ الذين يهاجمون كلّ دعوة للعودة إلى القرآن هم أكثر الناس خوفًا من انكشاف زيفهم؛ لأنّهم يدركون أنّ رفع الكتاب فوق الروايات يعني سقوط سلطانهم المبني على القداسة الموازية. ولذلك فإنّ الدفاع عن النبي اليوم لا يكون بالصراخ باسمه، بل بإحياء صوته في كتاب الله، ولا يكون بالمزايدات على حبّه، بل بالوفاء لوصيته الأخيرة.

إنّ هذا الطريق الذي نسلكه في هذه الصفحات ليس طريقًا مريحًا، بل طريق الحقيقة المُربكة التي تُجبر المؤمن على أن يختار بين الطمأنينة الزائفة والحقيقة القاسية. لكن لا مفرّ من هذا الامتحان: إمّا أن نقيم محبّتنا على كتابٍ محفوظ نزل من السماء، أو أن نواصل عبادة أسطورةٍ صنعها البشر لتُسكّن الخوف وتُبرّر السلطة.

فلْيكن هذا النص مرآةً بلا مجاملة، صادمًا بقدر ما هو صادق، جارحًا بقدر ما هو وفيّ، ولْيكن الهدف منه أن نُنقّي المحبّة من الأوهام، وأن نعيد للنبي مكانه الذي غُيِّب طويلًا: حامل كتابٍ لا كتاب بعده، ووارث وصيّةٍ لا وصية غيرها. ومن هنا نقولها بوضوح:

من أحبّ محمّدًا فعليه بالقرآن أوّلًا، ومن أحبّ القرآن فقد أحبّ محمّدًا حقًّا.

المحبّة ليست شعارًا يُرفع، ولا دمعةً تنزل عند ذكر الاسم، ولا احتفالًا جماهيريًا يختلط فيه الوجد بالعادة. المحبّة امتحانٌ وجوديّ، تُقاس بميزان الوفاء للرسالة لا بالانفعال العاطفي. فمن أحبّ محمّدًا فليُحبَّه حيث أراد أن يُحبّ: في القرآن.

لقد خُدع الناس طويلًا حين فُصل النبي عن كتابه، وصار الحبّ موجّهًا إلى شخصٍ مُجرّد، منفصل عن رسالته. هكذا تحوّل محمّد إلى صورةٍ أسطورية مُقدّسة، بينما غاب صوته الحيّ المدوَّن في القرآن. فصار بعضهم يُقدّس الروايات أكثر ممّا يقدّس كلام الله، ويخشى مخالفة الفقهاء أشدّ ممّا يخشى التفريط في كتاب الله.

الحبّ الحقيقي ليس هروبًا إلى الماضي، بل وفاءً للوصيّة الأخيرة: “كتاب الله بين أيديكم.” كلّ حبّ يلتفّ حول هذه الحقيقة هو حبّ صادق، وكلّ حبّ يتجاوزها إلى الغياب والأساطير إنما هو محبّة زائفة، تُريح الضمير ولا تُرضي الرسول.

من أحبّ محمّدًا فليُحبّ رسالته قبل صورته، وليضع القرآن في المقدّمة لا في المؤخرة. فالقرآن هو المرآة التي تعكس حقيقة النبي بلا تشويه ولا وسيط. وما عداه إمّا ظلال بشرية قابلة للنقد، أو قشرة أُلصقت على الوحي لتغطيه.

إنّ معنى المحبّة أن تبدأ بالقرآن، ثم ترى محمّدًا من خلاله. لا العكس. فمن قدّم الروايات على الكتاب فقد أحبّ ظلًّا لا نبيًّا، ومن جعل القرآن مرجعه فقد دخل دائرة المحبّة الصادقة التي أرادها النبي لنفسه ولأمّته.

العهد الأخير

لم يترك النبي محمّد وصيّة أعظم من وصيّته الأخيرة: “كتاب الله بين أيديكم، فإن تمسّكتم به لن تضلّوا.” هذه هي عبارته المدوية، عهدُه الذي ختم به رسالته، وميزانه الذي لا يعلوه شيء. لم يطلب من الناس أن يحفظوا المرويات، ولم يوصهم بأن يجمعوا أقواله في صحائف بعد قرنين أو ثلاثة، بل ترك لهم كتابًا واحدًا، مكتملًا، حاضرًا، محفوظًا.

لكنّ المفارقة أنّ الأمّة انقلبت على هذا العهد، فاستبدلت الوصية الحيّة بوصايا صُنعت لاحقًا. تحوّل الكتاب الذي جعله النبيّ معيار الهداية إلى نصٍّ ثانوي، بينما ارتفعت كتب الرجال إلى مقام النصّ الأعلى. صار القرآن يُستَشهَد به كزينة، لا كمرجع؛ وأصبحت المدونات البشرية هي الحاكمة في التشريع والعقيدة والعبادة.

هنا انكشف وجه الحقيقة المرير: إنّ الذين يزعمون حبّ النبي قد قدّموا على وصيّته الأخيرة وصايا أخرى لا أصل لها، وفضّلوا أن يتبعوا غيابًا على أن يواجهوا حضور الكتاب. العهد الذي كان يجب أن يكون الأساس تحوّل إلى شعار هامشيّ يُتلى بلا سلطان، بينما صارت “المتون” و”الأسانيد” دينًا قائمًا بذاته.

العهد الأخير إذن ليس مجرّد جملةٍ قيلت في خطبة الوداع، بل هو اختبار دائم: هل نُقيم محبّة النبي على ما تركه لنا حقًّا، أم على ما ألصقه الناس به بعد رحيله؟ هل نأخذ الكتاب حيًّا بين أيدينا، أم نهرب إلى الغياب المريح حيث الأسطورة أبهى من الحقيقة؟

إنّ الذي يزعم حبّ النبي ثم يترك عهده الأخير خلف ظهره، كمن يعلن الوفاء لرجل ثم يمزّق وصيّته بعد موته. الوفاء لا يُقاس بالدموع ولا بالطقوس، بل بالالتزام بما أوصى به. ومحمد أوصى بكتاب الله، لا بشيء آخر.

القرآن معيار السُّنّة

كيف يكذب هؤلاء الذين يملؤون الدنيا صخبًا بأنهم “أهل السُّنّة”، وأنهم الأوفياء لمحمّد باتباع حديثه؟ كيف يُقنعون الناس أنّ محبّته لا تتحقّق إلا عبر التمسّك بمرويات جُمِعت بعده بقرون، بينما هم في الحقيقة يطعنون في سُنّته الحقيقية التي سنّها بيده: القرآن؟

النبيّ سنّ للناس أن يكون كتاب الله مرجعهم الأعلى. هذه سُنّته الكبرى. سنّ أن لا يُقدَّم عليه شيء، وأن يُحتكم إليه في كل خلاف، وأن يكون المعيار الأوّل والأخير. فكيف صار الذين يزعمون محبّته أوفى لمدونات الرجال من وفائهم لعهد النبي؟ وكيف تجرّأوا على أن يجعلوا الوحي تابعًا للرواية، والقرآن شاهدًا لا مشهودًا به؟

الحقيقة الموجعة أنّ هؤلاء لا يدافعون عن النبي بل عن سلطانهم. يخشون أن يُفتضح أمرهم لو وُضعت الروايات في ميزان القرآن. لذلك يهاجمون كلّ من يجرؤ على رفع الكتاب فوق أقوال البشر. يتّهمون المتمسّك بالقرآن بكراهية السُّنّة، مع أنّه في جوهره أكثر الناس وفاءً لسُنّة النبي الأصيلة: الاحتكام إلى كتاب الله.

إنّهم يكذبون باسم المحبّة، بينما يهاجمون كلّ من يذكّرهم بأنّ المحبّة امتحانٌ لا شعار. يرفعون شعار “السُّنّة” ليغطّوا به صناعةً بشرية محضة، ثم يضعونها في مواجهة سُنّة محمّد القرآنية. هذه ليست محبّة بل خيانة متقنة، يُجمّلونها بالغيرة على الدين بينما هي غيرة على سلطانٍ قد ينهار إذا سقطت الأسطورة.

من أحبّ النبي حقًّا لا يخشاه القرآن، بل يجعله مرجعًا. ومن قدّم الرواية على الوحي إنما أعلن، دون أن يدري، أنّه لا يثق بالنبي ولا بعهده الأخير. هؤلاء الذين يدّعون محبّة النبي هم أوّل من طعنوا في محبّته، لأنهم جعلوا ما بعده أهمّ ممّا تركه لهم حيًّا.

وهم القداسة الموازية

إن أخطر ما حدث بعد رحيل النبي ليس ضياع الكتاب ولا غياب الوصيّة، بل بناءُ منظومةٍ كاملةٍ صنعت لنفسها قداسةً موازية للوحي، قداسة لم يفرضها القرآن ولا أوصى بها محمّد، بل وُلدت من رحم السياسة واحتياجات السلطة، ونمت في ظلّ خوف الجماعة من مواجهة الغياب، ثمّ رُسِّخت عبر الأجيال حتى صارت أشدّ حضورًا في الوعي من حضور الكتاب نفسه، وكأنّ الناس لم يكتفوا بكتاب الله، بل أصرّوا على أن يُقيموا كتابًا آخر بيدهم، ثم يغطّوه بطبقاتٍ من الأسطورة حتى يُخيَّل للغافل أنّه وحي ثانٍ.

لقد صيغت هذه القداسة بدهاءٍ بالغ، فحُوِّلت الروايات إلى نصوص معصومة، وحُمِّلت الأسانيد ما لا تحتمل، وجُعلت الأحاديث نظامًا حاكمًا بذاته، حتى غدا القرآن تابعًا يُستأنس به، لا حاكمًا يُحتكم إليه، وغاب عن الناس أنّ النبي نفسه ما سنّ للناس إلا أن يحتكموا للكتاب، فإذا بالورثة الجدد يسنّون لهم دينًا آخر يتأسّس على ما جُمع في ظروفٍ غامضة، ويُقدَّم على أنّه توأم للوحي، بينما هو في الحقيقة جهازٌ بشريٌّ متكامل، أُلبس عباءة السماء ليحكم الأرض.

وهنا تنكشف المفارقة الصارخة: فبينما ادّعى هؤلاء أنّهم يحفظون محمّدًا من النسيان، كانوا في الحقيقة يطمسون أثره الحقيقي، إذ لم يكن النبي بحاجة إلى قداسةٍ موازية، ولا إلى كتبٍ تُجمع بعد موته بقرنين، ولا إلى خطابٍ يعلو على خطابه، بل كان كلّ ما أراده أن يظلّ القرآن كتابًا حاضرًا، عهده الأخير وأمانته الخالدة، لكنّهم لم يرضوا بهذا الحضور الصارخ، فابتكروا غيابًا أكثر طمأنينة، وصنعوا نصًّا أشدّ مرونة مع أهواء السلطة والجماعة، ثم رفعوه فوق الوحي باسم السُّنّة، حتى صارت القداسة الموازية أقوى من القداسة الأصلية، والظلّ أثقل من الأصل، والأسطورة أوسع من الحقيقة.

وما كان لهذا البناء أن يصمد لولا تحالف المصالح: مصالح السلطة التي وجدت فيه شرعيةً تُخضع بها الشعوب باسم الدين، ومصالح الفقهاء الذين وجدوا فيه مرجعًا يمنحهم سلطتهم الرمزية، ومصالح الجماعة التي وجدت فيه ملجأً نفسيًا يقيها من مواجهة الفراغ الذي خلّفه رحيل النبي، فصار الكلُّ شريكًا في الجريمة: السلطة تحكم، والفقهاء يشرعنون، والجماعة تصفق، والكتاب يتوارى في الظلال، يقرأونه للبركة في الجنائز أكثر مما يقرؤونه للحكم والفصل.

وهكذا تحوّلت السُّنّة من هَدْيٍ عمليٍّ منسجم مع القرآن، إلى منظومةٍ نصيّةٍ متضخّمة، تُمارس وظيفتها كحاجزٍ يمنع الناس من مواجهة الوحي مباشرة، ثم يُهاجَم كلّ من يجرؤ على كشف هذا الوهم بالاتهام والكفر والزندقة، لأنّهم يدركون أنّ سقوط القداسة الموازية يعني انهيار البناء كلّه، وانفضاح حقيقة أنّهم لم يكونوا أوفياء لمحمّد بل أوفياء لأسطورةٍ صنعتهم، وأنّهم لم يكونوا حماةً للوحي بل حماةً لمؤسسةٍ بُنيت على الغياب.

امتحان العقل المؤمن

كيف تجرّأوا على أن يجعلوا القرآن كتابًا يُساوي عندهم أصولًا بشرية وُضِعت في مجالس الفقه، وكأنّ الوحي الذي نزل ليكون سيّد التشريع ومصدره الأوحد يحتاج إلى شركاء من البشر ليكتمل بهيئته؟ وكيف انقلبوا على نورٍ جاء ليضيء العقول والضمائر، فأطفأوه بغبار “الأصول”، حتى صار الوحي مجرّد شاهدٍ يُستأنس به في الهوامش، بينما صار الحكم الحقيقي في أيدي نظرياتٍ وُلدت من عقولٍ بشرية ثم رُفِعت بوقاحة إلى مرتبة القداسة، وأُلصِق بها ختم السماء، لتُقدَّم على أنها شرع الله، وهي في حقيقتها شرعُ رجالٍ ادّعوا أنّهم يحرسون الدين وهم في العمق يطمسون نور القرآن.

لقد كان للقرآن سيادةٌ مطلقة في فلسفة التشريع؛ فهو وحده الذي يملك شرعية “القول الفصل”، وهو وحده الذي عرّف الناس بمعايير الحلال والحرام، وهو وحده الذي فتح أبواب الاجتهاد الرحبة للإنسان كي يُعمل عقله في ما لم يُنَص عليه، دون أن يتجاوز الثوابت الواضحة. غير أنّ الذين زعموا محبّة محمّد، والذين ملأوا الدنيا بدعوى الدفاع عن سُنّته، هم أنفسهم الذين انقلبوا على شرعه باسم السُّنّة، فغطّوا نور الكتاب بستائر مصنوعة، وأقاموا جدارًا من “الأصول” يحجب ضوء الوحي، ليقدّموا للناس منظومة تشريعية تُخضِعهم لسلطان الفقيه أكثر مما تُخضعهم لله.

لقد صنعوا ذلك بدهاءٍ بالغ: جعلوا القرآن نصًّا يُستشهد به إذا وافقهم، ويُؤوَّل إذا خالفهم، ثم أقاموا إلى جواره أصولًا بشرية صارت مرجعًا أعلى، حتى تاهت الحدود بين التشريع الإلهي والتشريع البشري، وغابت حقيقة أنّ القرآن لا يقبل شريكًا في السيادة، وأنّ التشريع البشري إنما هو اجتهاد لا أكثر. هكذا طُمِس نور الله باسم الله، وسُرق شرع الله تحت شعار الدفاع عن شرع الله، ولم يكن هذا الانقلاب إلا استمرارًا لوهم القداسة الموازية، حيث يختبئ البشري خلف ستار الإلهي كي يُحصّن نفسه من المساءلة.

ولذلك فإنّ ادّعاءهم محبّة النبي لم يكن إلا ذريعة للانقلاب على رسالته؛ أحبّوه باللسان لينقلبوا على شرعه بالفعل، رفعوا اسمه ليغطّوا به نصًّا لم يكتبه، ونسبوا إليه نظامًا لم يُقرّه، فأصبحوا أوفى للفقهاء من وفائهم للقرآن، وأشدّ غيرةً على تراث البشر من غيرتهم على كتاب الله، حتى غدا الدين في وجدانهم سلسلة من القواعد التي صنعها الفقيه، لا من الآيات التي أنزلها الوحي.

إنّ امتحان العقل المؤمن يبدأ من هنا: أن يواجه هذا الوهم بجرأة، وأن يسأل بلا خوف: أحقًّا أراد النبي أن يكون القرآن نصًّا مساويًا لأصولٍ بشرية؟ أحقًّا أوصى محمّد أمّته أن يتركوا الكتاب ليغرقوا في جداول الفقهاء؟ أحقًّا يُرضي الرسول أن يُمحى شرع الله ليُلبَس شرعُ الناس لباس السماء؟ الجواب بديهيّ لمن أخلص قلبه: لا، وألف لا.

محبّة النبي اليوم

إنّ السؤال الذي يُطرح على ضمير هذا العصر ليس كيف نحتفل بمولد النبي، ولا كيف نُردّد المدائح باسمه، ولا كيف نرفع الشعارات في الدفاع عن شخصه، بل كيف نُترجم محبّته إلى فعلٍ تاريخيٍّ حيّ، وكيف نُثبت أنّنا أوفى الناس لعهدٍ تركه لنا لا يزال حاضرًا، وكيف نحفظ روحه في زمنٍ امتلأ بالزيف والاستعراض، حتى لا تتحوّل المحبّة إلى قناعٍ يخفي وراءه الفراغ.

لقد صار العالم اليوم في حاجة إلى محبّةٍ مختلفة، محبّة لا تُقاس بالطقوس الجماعية ولا بالأناشيد العاطفية، بل تُقاس بالعدل الذي يُقام في المحاكم، وبالحرية التي تُصان في الضمائر، وبالرحمة التي تُترجم إلى قوانين تُنقذ الضعفاء من سحق القوي، وبالصدق الذي يُعيد للإنسان ثقته بالكلمة بعد أن صار الكذب هو اللغة اليومية في السياسة والإعلام والدين معًا. فإذا كانت رسالة النبي قد خُتمت بكتابٍ وصف نفسه بأنّه هدى ورحمة وشفاء، فإنّ المحبّة اليوم لا تكون إلا بإحياء هذه المعاني في قلب الحضارة، لا بإغراقها في الغياب.

فمحبّة النبي اليوم ليست أن نحفظ آلاف الروايات، بل أن نحفظ للإنسان كرامته التي داسها الاستبداد باسم الدين، ونحفظ للعقل حريته التي كبّلها الفقهاء بالخوف من السؤال، ونحفظ للمجتمع روحه التي مزّقها التقديس الأعمى للروايات على حساب الكتاب. إنّ الوفاء لمحمد في القرن الحادي والعشرين يعني أن نُثبت للعالم أنّ رسالته قادرة على العيش في قلب الحداثة بلا خوف، وقادرة على مخاطبة الإنسان بما هو إنسان، لا بما هو تابع لجماعةٍ تُخيفه بالهلاك إن هو خرج عن طاعة الفقيه.

لقد حوّلوا المحبّة إلى دمعةٍ تُسكب في لحظة وجد، أو إلى قصيدةٍ تُنشد في احتفال موسمي، بينما المحبّة الحقّة امتحانٌ يوميٌّ قاسٍ: أن تقول كلمة الحقّ حين يسكت الجميع، وأن تنصر المظلوم حين يخذله الناس، وأن تضع القرآن في مقام السيادة حين يحاولون أن يجعلوه كتابًا ثانويًّا للزينة والبركة. فالمحبّة اليوم ليست أن تُدافع عن صورة النبي في كتب التاريخ، بل أن تدافع عن صوته في كتابٍ لا يزال بين أيدينا حيًّا، ينتظر من يرفعه إلى مقامه الذي أُقصي عنه.

وهنا يتّضح البعد الأخطر: أنّ الذين يدّعون محبّة النبي هم أنفسهم الذين يهاجمون كلّ من يطالب بإعادة القرآن إلى موقع السيادة، لأنّهم يعلمون أنّ عودة الكتاب إلى الواجهة ستُسقط سلطانهم القائم على الوهم، وتفضح تديّنهم المبني على الغياب، وتُعيد الدين إلى أصله الذي لا مكان فيه إلا للوحي. لذلك فإنّ محبّة النبي اليوم ليست مجرد موقفٍ عاطفي، بل ثورة معرفية وأخلاقية تُعيد الأمور إلى نصابها: وحيٌ فوق البشر، كتابٌ فوق الروايات، قرآنٌ فوق كلّ ما سواه.

إنّ هذا العصر الذي تلاعبت به القوى الكبرى في السياسة والاقتصاد والإعلام يحتاج إلى صوت النبي كما هو في القرآن، لا كما اختزلته المدونات؛ يحتاج إلى أن يرى أنّ الإسلام ليس خوفًا ولا وصاية، بل رسالة حرية ورحمة وكرامة. ومن هنا، فإنّ محبّة النبي اليوم ليست ترفًا روحيًا، بل مسؤولية حضارية؛ لأنّها وحدها القادرة على أن تفتح أفقًا جديدًا للإنسان، بعيدًا عن الاستعباد الذي يُمارَس باسم الدين أو باسم الدولة أو باسم السوق.

 

بين المولد والرسالة

إنّ الناس يجتمعون كلّ عام على الاحتفال بمولد النبي، فينشدون المدائح، ويزيّنون الشوارع، ويُشعلون الأضواء، ويظنّون أنّ هذه المظاهر هي قمّة المحبّة، غير أنّ المحبّة في جوهرها لا تُقاس بالأضواء ولا بالمواسم، بل تُقاس بمدى الوفاء لما تركه لنا محمّد يوم رحيله: كتاب الله.

فأيّ معنى للاحتفال بميلاد النبي إذا كان كتابه غائبًا عن حياتنا؟ وأيّ قيمة للقصائد إذا كان العهد الأخير مهجورًا في البيوت والمدارس والمحاكم؟ إنّ الاحتفال الحقّ ليس أن نُحيي ذكراه بالصوت والصورة، بل أن نُحيي رسالته بالفعل، بأن نعيد القرآن إلى مقامه الأول، وأن نُثبت أنّنا ورثة نبي لا أساطير جماعة.

المولد إذن فرصة لامتحان المحبّة: هل نكتفي بالفرح الظاهري الذي يريح العاطفة، أم نجرؤ على حمل الرسالة التي تُربك العقل وتُلزم الضمير؟ من أحبّ محمّدًا في مولده فليُثبت حبّه بالعودة إلى كتابه، وليجعل العيد بداية وفاء، لا مناسبة عابرة تنطفئ بانطفاء الأضواء.

 

العودة إلى الأصل

إنّ النهاية التي نصل إليها ليست نهاية بمعنى الإغلاق، بل بداية من نوع آخر، بدايةٌ تُعيدنا إلى أصلٍ حاول التاريخ أن يُطمسه، وتُرجعنا إلى وصيّةٍ حاولت القداسة الموازية أن تُخفيها، وتضعنا أمام خيارٍ لا يحتمل المراوغة: إمّا أن نكون أوفياء لمحمّد بوفائنا لكتابه، أو أن نظلّ أسرى لأساطيرٍ صنعتها أهواء البشر ثم ارتدت ثوب السماء.

فالعودة إلى الأصل ليست مجرّد شعار إصلاحي، بل ثورة معرفية ووجدانية، تُعيد ترتيب الهرم الذي انقلب منذ قرون، وتضع القرآن في مقام السيادة حيث لا شريك له، وتجعل من محبّة النبي امتحانًا يوميًّا لا يمكن تزويره بالطقوس ولا بالمدائح، بل يُقاس فقط بمدى التزامنا بالكتاب الذي تركه لنا حاضرًا، واضحًا، محفوظًا، لا بمدوّناتٍ صنعها التاريخ لتُرضي السلطة وتُسكّن الجماعة.

ومن هنا فإنّ العودة إلى الأصل ليست مجرد رجوعٍ إلى نص، بل رجوعٌ إلى فلسفة التشريع التي أقامها الله على الحرية والرحمة والعدل، لا على الوصاية والخوف والطاعة العمياء، ورجوعٌ إلى محبّة نبي أراد أن يكون القرآن صوته الأخير، لا أن يُحجب صوته وراء جدران الروايات، ورجوعٌ إلى دينٍ يُنقّي الضمير من الأسطورة ليُعيده إلى الحقيقة، ويُخلّص العقل من الخضوع ليُحرّره بالمسؤولية.

ولذلك فإنّ كلّ من يزعم محبّة محمّد، ثم يقدّم على كتابه كلام البشر، هو في الحقيقة يُنكر النبي باسم النبي، ويُقصيه باسم الغيرة عليه، ويُحوّل المحبّة إلى قناعٍ يغطّي الخيانة. أمّا من يبدأ بالقرآن، فإنّه لا يُخلص لله وحده فحسب، بل يُخلص أيضًا لمحمّد الذي عاش ومات ليكون القرآن حاكمًا على القلوب والعقول.

هذه هي العودة التي نُعلنها: عودة لا تعرف التردّد، ولا تُهادن الأسطورة، ولا تسترضي الجماعة، بل تُعلن بوضوح أنّ المحبّة ليست دمعةً في احتفال ولا شعارًا في مناظرة، بل موقفًا وجوديًا يُعيدنا إلى الأصل الذي لا أصل سواه: كتاب الله.

فالاحتفال بمولد محمّد ﷺ لا يكون في الأضواء ولا في الأناشيد، ولا في ازدحام المواكب التي تُريح العاطفة وتُغشّي العقل، بل يكون في إحياء وصيّته الأخيرة، والوفاء لعهده الذي لم يترك غيره: كتاب الله بين أيدينا. فمن أراد أن يحتفل حقًّا فليُحيِ الكتاب في نفسه وبيته ومجتمعه، وليجعل القرآن هو المولد الدائم الذي لا ينطفئ، وليُثبت أنّ المحبّة ليست شعارًا ولا دمعةً، بل وفاءٌ للرسالة، وصدقٌ في الامتحان.

أضف تعليقك

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)

تعليقات ( 0 )