ياسين الطالبي لم يكن العالم منذ مطلع التسعينيات يسير كما يظن أبناؤه، على خطوط التاريخ المألوفة أو فوق خرائط القوى التقليدية، بل كان يُدار من منصة صغيرة الحجم، عابرة للحدود، لا تشبه الدول وإن لبست لباسها. منصة وُلدت في الظل، وكبرت في الظل، ثم صارت اليوم ظلًّا يبتلع ما عداه: قطر. لم تكن دولة بالمعنى الكلاسيكي، بل مختبرًا لاهوتيًا ينتج الفتاوى كما تنتج المصانع البضائع، ومشاتل فكرية تُربّي خطابًا دينيًا مُبرمجًا للاستهلاك السياسي، واستوديوهات إعلامية تحوّل الدم إلى مشهد، والرعب إلى تسلية، والقتل إلى مادة يومية تُستهلك كما تُستهلك نشرات الطقس. ثم لم تكتفِ بذلك، بل تحوّلت إلى قاعدة عسكرية يتجاوز صداها صحراء الخليج، ليمتد حتى موازين الردع النووي بين الشرق والغرب. في لحظة من لحظات الصراع الأوكراني، كاد العالم أن يستيقظ على حرب نووية. أربع رادارات استراتيجية في عمق روسيا ضُربت بدقة، صارت موسكو عمياء للحظات أمام أي إطلاق صاروخي محتمل. في تلك الثواني، كان يمكن أن يُضغط الزر، أن ينفلت العالم إلى هاوية لم يعرف مثلها منذ الحرب العالمية الثانية. لم يكن ما حدث مجرد نجاح استخباراتي لكييف، بل كان أثرًا مباشرًا لمعلومة مُسرّبة من تلك المنصة الخفية التي تجلس في الدوحة، تمرّر إحداثيات إلى الجيش الأوكراني كمن يمرّر عود ثقاب إلى صبي يلهو في حقل قش. وهنا تجلّى الوجه الآخر لخطورة هذه المنصة: لم تعد تتحكم في وعي العرب وحدهم، بل باتت تضع أصابعها في لوحة المفاتيح النووية نفسها. لكن العالم لم ينزلق. لماذا؟ لأن في الكرملين كان يجلس رجل يعرف أن الاستفزاز أخطر من الحرب نفسها، رجل امتلك من الحكمة ما جعله يرى الفخ، فلا ينجرّ إليه. فلاديمير بوتين، الذي طالما صُوّر في الإعلام الغربي كقيصر جامح، أثبت في تلك اللحظة أن أعظم قوة هي القدرة على كبح الغضب. لم يضغط الزر، لم يرد بالنووي على الاستفزاز النووي، لم يضع العالم في مواجهة النهاية. بحكمة لا حدود لها، كتم غضبه وأدار الموقف، ليُظهر أن السياسة ليست دائمًا لعبة عضلات، بل أحيانًا فنّ البقاء على الحافة دون أن تسقط. هنا تتضح الصورة الكاملة: إسرائيل ليست سوى الذراع المرئية التي تُلوّح بالسلاح وتُثير الخوف، لكن العقل الخفي الذي أعاد تشكيل المسرح كله كان في مكان آخر، في الدوحة. إسرائيل يمكن أن تُرى وتُدان، أما قطر فقد صُممت لتُخفى وتُبرّأ، لتبدو دائمًا ضحية صغيرة محاصرة، بينما هي في الحقيقة اللوحة الأم التي تعيد تشغيل اللعبة في كل مرة. هي التي صنعت إعلام الذبح والحرق على الهواء، وقدّمت للعالم فيلم الإرهاب كمنتج متكامل؛ وهي التي رعت التنظيمات لتُستنزف ثم تُبعث مجددًا؛ وهي التي تدير المفاوضات وتفجّرها في الوقت نفسه، بحيث يبقى الصراع مفتوحًا إلى ما لا نهاية. ولو لم يكن في الكرملين رجل بحكمة بوتين، لرأى العالم الوجه الكامل لهذه المنصة لا كوسيط، بل كعقدة أعصاب قادرة على دفع البشرية كلها إلى الانتحار النووي. لكن لأن بوتين لم ينزلق، ظلّت اللعبة مستمرة: الدم يُسفك ليغطي، والإعلام يُبَث ليُضلل، واللاهوت يُفبرك ليُفجّر الداخل، والمال يُوزّع ليشتري الولاءات. هذه إذن ليست مقدمة لحكاية دولة صغيرة، بل مدخل إلى فهم بُنية خفية أعادت تشكيل الدين والسياسة والإعلام والجيش، وأمسكت بمفاصل عالم كامل دون أن يجرؤ أحد على تسميتها باسمها. والخطر ليس في أنها تُرى، بل في أنها لا تُرى؛ ليس في أنها تُهاجم، بل في أنها تُخفي نفسها كضحية، بينما هي المشغّل الذي يبقي المسرح كله حيًا، من غزة إلى موسكو، ومن واشنطن إلى طهران. الضربة في قلب الدوحة – حين يُستهدف الوسيط ليُعاد إنتاج المسرحية لم يكن القصف الذي استهدف وفد حماس في الدوحة حادثًا عابرًا أو خطأً عسكريًا، بل كان مشهدًا محوريًا في نصٍّ مكتوب سلفًا. لحظة كُتبت بالدم لا لتُنهي حياة رجال بعينهم، بل لتعيد إنتاج المسرحية برمّتها. فمنذ اللحظة الأولى بدا واضحًا أن الهدف لم يكن إيقاف التفاوض بقدر ما كان إعادة تشكيل صورة الوسيط والرسالة معًا: أن لا أحد يملك الشرعية الكاملة، لا غزة ولا حماس ولا حتى قطر، وأن القرار الحقيقي محفوظ في مكان آخر. الزمن لم يكن مصادفة. الضربة جاءت بعد أيام من انكشاف صور وفضائح أظهرت الوجه الخفي للتعاون القطري–الإسرائيلي، وبعد تراكم الانتقادات التي طالت قناة الجزيرة وجعلتها هدفًا للاتهام بأنها لم تعد منبر الضحايا بل استوديو إنتاج يعرض المأساة كسلعة يومية. هنا جاءت الضربة كعملية غسل رمزي: دمٌ جديد يُسكب ليعيد تلميع صورة الدوحة، فيتحوّل الوسيط المتّهم إلى ضحية بريئة، والمنصة المريبة إلى ساحة تستحق التعاطف. النص يقول بوضوح: "لا تفتّشوا في خيوط اللعبة، انظروا إلى الدم على الأرض". لكن من استُهدف فعليًا؟ إسرائيل أعلنت أنها ضربت قادة "الإرهاب"، لكن القراءة الأعمق تكشف أن المستهدف لم يكن الأشخاص وحدهم، بل وظيفة التفاوض نفسها. أن يُضرَب وفد يجلس لمناقشة مبادرة سلام، معناه أن السلام ذاته صار هدفًا للتصفية. أن يُقتل ابن القيادي خليل الحية بدلًا من الحية نفسه، معناه أن الدم استُخدم كرمز، لا كقطع للرأس. فالضربة لم تُنهِ المفاوضات، بل أبقتها جرحًا مفتوحًا، ينزف كلما اقترب من الالتئام. وظيفة الضربة لم تكن محصورة في غزة أو الدوحة، بل كانت جزءًا من وظيفة المنصة القطرية نفسها. فالدوحة لم تُضعف، بل خرجت أقوى: من متهمة إلى مُستهدفة، من مشبوهة إلى ضرورية. إسرائيل بدت وكأنها تملك القدرة على اختراق أي حصن، حتى قلب الحضن الأمريكي–القطري، فأثبتت لنفسها صورة الوحش الذي لا يُردع. الولايات المتحدة بدورها استعادت عبر "الإنكار" دور الحكم المتوازن، بينما هي المخرج الحقيقي الذي يعيد توزيع الأدوار. أما غزة، فهي لم تتحرر ولم تُمحَ، بل بقيت في موقعها الوظيفي الأبدي: جرح حيّ في الجسد العربي، يُستثمر كلما احتاجت المنصة إلى إعادة تدوير الشرعية أو تلميع صورة أو خلق مشهد. وحماس، حتى في موت أبنائها، لم تتحرر من كونها أداة داخل نص مكتوب مسبقًا: مقاومة لا يُسمح لها بالانتصار، ومفاوضات لا يُسمح لها بالاكتمال، ودماء لا تُسفك إلا بقدر ما تُبقي اللعبة في منتصف الطريق. الضربة في قلب الدوحة إذن لم تكن نهاية لشيء، بل بداية دورة جديدة من المسرحية نفسها: دورة يعاد فيها إنتاج الوسيط، وتُغسل فيها صورته بالدم، ويُعاد تثبيت أدواره في نص أكبر، نص يكتبه العقل الخفي للمنصة، بينما يبقى اللاعبون الآخرون مجرد ممثلين يؤدون أدوارهم بوعي أو بغير وعي، داخل مسرح لا يُسمح له أن يُغلق ستارته أبدًا. اللوحة الأم – حين تتحول الدولة إلى منصة تشغيل لفهم ما جرى في الدوحة، وما يجري في المنطقة منذ ثلاثة عقود، لا بد أن نزيح الستار عن المفهوم نفسه: قطر ليست دولة بالمعنى المتعارف عليه، بل لوحة أم. كما في جهاز الحاسوب، حيث لا يُرى المعالج المركزي لكن كل شيء يمر عبره، كذلك صُممت قطر: صغيرة في الجغرافيا، لكنها في بنية النظام الدولي أشبه بالمعالج الذي يربط بين الذاكرة والأوامر والبرامج. الدول تُقاس عادةً بمساحتها، تعداد سكانها، مواردها الطبيعية، جيشها، أما قطر فلا يمكن فهمها بهذه المقاييس. ثروتها من الغاز لم تُترك لها لتبني اقتصادًا وطنيًا مستقلًا، بل لتُستخدم كعملة تُشتري بها الولاءات، وتُموَّل بها المشاريع التي تضمن بقاء المسرح مفتوحًا. جيشها لم يُبنَ ليحمي حدودًا، بل ليؤوي قواعد أجنبية تُشرف على إدارة صراعات عالمية من قلب الصحراء. إعلامها لم يُنشأ ليعكس واقعها الداخلي، بل ليكون غرفة عمليات لإدارة وعي ملايين العرب والمسلمين، من المحيط إلى الخليج. هذه اللوحة الأم لم تعمل منفردة، بل ارتبطت بشبكة كاملة من "المكوّنات": المال: لتغذية التنظيمات، شراء النخب، تمويل المشاريع، وإبقاء خطوط الصراع دائمة الاشتعال. الإعلام: حيث تحولت الجزيرة إلى مصنع صور وروايات، يعيد إنتاج الدم كسلعة، ويصنع من الإرهاب مشهدًا، ومن الضحية خطابًا قابلاً للتدوير. اللاهوت: مشاتل فكرية، من اتحاد علماء المسلمين إلى مؤسسات موازية، تولّد خطابًا تكفيريًا عند الطلب، وتُعيد صياغة الدين كوقود صراع لا كأفق خلاص. العسكر: ليس كجيش وطني، بل كبنية تستضيف القواعد الأمريكية وتوفّر لها الشرعية، وتجعل من قطر "الأرض التي لا تُمس"، حيث تُدار الحروب عن بُعد. بهذه البنية، تحولت قطر من دولة صغيرة إلى عقدة عصبية في جسد النظام العالمي. لم يعد ممكنًا تجاوزها، لا لأنها قوية بذاتها، بل لأنها صارت النقطة التي تمر عبرها الأوامر والمعلومات والتمويلات. ومن هنا كان سر خطورتها: إسرائيل يمكن أن تُقاس قوتها بدباباتها وطائراتها، أما قطر فقوتها في غموضها، في كونها غير قابلة للقياس، لأنها ليست دولة تُرى، بل منصة تُخفي نفسها خلف أقنعة. في هذه المعادلة، صارت قطر لا تُهزم ولا تنتصر، لأنها ببساطة ليست طرفًا في الصراع، بل المشغّل الذي يضمن استمرار الصراع. هي التي تُعيد تشغيل اللعبة كلما أوشكت على التوقف، فتسكب دمًا هنا، وتفتح منبرًا هناك، وتبث خطابًا ثالثًا، حتى يبقى المسرح دائمًا حيًا. وهكذا، فإن فهم "اللوحة الأم" هو الخطوة الأولى لفك لغز المسرحية كلها: كيف صارت دولة بحجم مدينة، منصة تتحكم في وعي مليار مسلم، وتمتد أصابعها حتى تلامس أزرار الردع النووي في مواجهة بين موسكو وواشنطن؟ إسرائيل الجناح، قطر العقل منذ ولادة المشروع، صُممت إسرائيل لتكون الذراع العسكرية المرئية: دبابات لا تهدأ، طائرات تخترق السماء، حصار يخنق المدن، وجهاز استخبارات يزرع الخوف في كل ركن من المنطقة. صورتها كانت دائمًا صورة "الوحش الذي لا يُقهر"، حتى صارت في المخيال العربي مرادفًا للرعب والهزيمة. لكن خلف هذا المشهد المرئي، كان هناك عقل آخر، يعمل في صمت، يكتب النص ويبرمج السرديات: قطر. إسرائيل وظيفتها أن تُبقي الجسد العربي في حالة نزف دائم، أن تجعل الخوف لغة يومية، وأن تستنزف الطاقات في حروب عبثية متكررة. أما قطر، فوظيفتها أن تُعيد هندسة الروح نفسها: أن تحوّل الدين إلى قنبلة موقوتة، أن تُدخل المجتمعات في صراعات داخلية لا تنتهي، وأن تجعل العدو ليس فقط على الحدود، بل في البيت والمسجد والوعي. هنا يظهر الفارق الجوهري بين "الجناح" و"العقل": الجناح يضرب، يُحدث الألم، لكنه واضح ومحدد. أما العقل فيعيد برمجة النظام كله بحيث يصبح الضرب مستمرًا، حتى من دون يدٍ مرئية. إسرائيل تصنع عدوًا خارجيًا يوحّد الناس ضده، بينما قطر تصنع أعداء داخليين يفتك بعضهم ببعض باسم الدين أو الهوية أو الطائفة. إسرائيل تُنتج صور القوة العارية، أما قطر فتُنتج الوهم الرمزي الذي يجعل هذه القوة تستمر حتى بعد أن تتوقف دباباتها. إسرائيل يمكن تصوير وحشيتها بكاميرا، أما قطر فلا يمكن رصد عملها لأنه يجري في أعماق الوعي. وهنا تتضح المعادلة: لو لم يكن هناك جناح عسكري مرئي (إسرائيل) لما كان للعقل البرمجي (قطر) أن يجد مادة يبرمجها؛ ولو لم يكن هناك عقل خفي (قطر) لكان الجناح العسكري قد انهك نفسه منذ زمن. الاثنان متكاملان: الأول يضرب الجسد، والثاني يعيد تشكيل الروح، بحيث تبقى المنطقة أسيرة مسرح لا نهاية له. إن إسرائيل، مهما بلغت قوتها، يمكن هزيمتها في معركة محددة أو إضعافها عبر الزمن. أما قطر فلا تُهزم لأنها ليست طرفًا مباشرًا، بل مشغّل المسرح ذاته. إسرائيل قد تنهار يومًا أمام مقاومة عسكرية أو تغير سياسي، لكن قطر ستظل ما لم يُفكك "العقل البرمجي" الذي يدير النص كله. ولهذا يمكن القول إن إسرائيل ليست سوى جناح، بينما قطر هي العقل الذي يحرّكه ويضمن أن يبقى في الهواء. العصب السري الذي أعمى روسيا في ربيع الحرب الأوكرانية، حين كانت السماء مشبعة بالصواريخ والتهديدات النووية تملأ الفضاء السياسي، حدث ما لم يكن في الحسبان: أربعة رادارات روسية استراتيجية، تشكّل جزءًا من شبكة الردع النووي، ضُربت في عملية نوعية جعلت موسكو عمياء للحظات. لم يكن ذلك حدثًا عسكريًا عاديًا، بل لحظة كشفت أن اللعبة خرجت من ساحات القتال في كييف وخاركيف، لتدخل مجالًا أخطر بكثير: مجال السيطرة على العصب النووي ذاته. الجيش الأوكراني لم يكن قادرًا وحده على تحديد مواقع بهذه الدقة، ولم يكن ليخترق هذا الحاجز المعلوماتي دون شبكة أعمق. هنا يظهر دور المنصة القطرية: منصة لا تملك جيشًا بالمعنى التقليدي، لكنها تمتلك ما هو أخطر – مفاتيح المعلومة. تمرير بيانات حساسة جعلت الرادارات الروسية هدفًا مكشوفًا، لحظات معدودة كان يمكن أن تغيّر وجه العالم كله. فحين يُعمى دب قطبي مسلح برؤوس نووية، فإن العالم كله يصبح في مرمى الانتحار الجماعي. في تلك اللحظة، لم يكن التحدي مجرد عسكري، بل وجودي: هل سيرد بوتين بالنووي؟ هل سيضغط الزرّ لتستيقظ البشرية على حرب لا نهاية لها؟ هنا تجلّت حكمة بوتين بلا حدود. رجل اعتاد الغرب أن يصوره كقيصر جموح، أثبت أنه يملك من الهدوء والسيطرة ما هو أقوى من ترسانة نووية كاملة. لقد فهم أن الاستفزاز جزء من النص، وأن الردّ النووي سيكون هو السطر الذي ينتظره المخرج لإطلاق الفوضى الكبرى. لكنه رفض أن يكون ممثلًا في نص مكتوب لغيره، قرأ ما وراء الضربة، ورأى أنها لم تُستهدف بها روسيا وحدها، بل استُهدف بها توازن العالم كله. أن يجلس رجل على رأس دولة بحجم روسيا، يرى راداراته الاستراتيجية تتساقط، ثم يُمسك نفسه عن الضغط على الزر، فهذا ليس ضعفًا، بل ذروة القوة. القوة الحقيقية ليست في أن تملك السلاح، بل في أن تتحكم فيه حين يُستفزّ وجودك نفسه. هنا بدت حكمة بوتين أكثر رعبًا من النووي نفسه: لأنه أثبت أن النووي ليس أداة استعراض، بل أداة وعي، وأن امتلاك القرار أهم من امتلاك القنبلة. بهذا الموقف، حمى بوتين روسيا والعالم معًا من الانزلاق إلى الهاوية. لكن هذه الحكمة لم تُنهِ الخطر، بل كشفت حجمه: أن منصة صغيرة في الخليج، تعمل كلوحة أم، قادرة أن تعمي دبًا نوويًا للحظات. وأن التهديد لم يعد يأتي فقط من صاروخ أو دبابة، بل من معلومة تمرّر في لحظة، فتغيّر ميزان الرعب كله. وهكذا يظهر "العصب السري" لا كحادثة عسكرية، بل كدليل على أن المنصة القطرية لا تتحكم في عقول الشعوب وحدها، بل صارت قادرة أن تضع أصابعها في لوحة المفاتيح النووية ذاتها. ومن دون حكمة رجل مثل بوتين، كان يمكن أن يتحول هذا اللعب الخفي إلى جحيم مفتوح، لا ينجو منه أحد. لكن ما لم يُقال علنًا أن هذه الضربة لم تُعرِّ روسيا للحظة من العمى فحسب، بل كادت أن تمحو قطر نفسها من الوجود. فالمنصة التي مرّرت المعلومة إلى الجيش الأوكراني لم تُجرّب هذه المرة هندسة وعي أو صناعة سردية فقط، بل تجرأت على لمس أخطر ملف في العالم: التوازن النووي. وفي لغة القوى العظمى، هذا ليس لعبًا، بل انتحار محتمل. لقد بدا واضحًا أن موسكو رصدت الخيط، وأن قطر وُضعت على الطاولة كمتورطة في تمرير المعلومة. ولولا أن بوتين امتلك من الحكمة ما يجعله يتجنب استفزازًا بهذا الحجم، لكانت ردة الفعل قادرة أن تمحو الدوحة من الخريطة في ساعات. لم يكن إنقاذ قطر إذن بفضل تحصيناتها ولا تحالفاتها، بل بفضل قرار رجل في الكرملين اختار أن يكبح غضبه. وهنا يتجلّى المعنى العميق: أن دولة صغيرة تُغامر بمكانها ومصيرها لتلعب دورًا يتجاوزها، حتى تكاد تلامس خطًا أحمر نوويًا، ثم تُنقذها حكمة خصمها لا قوة حليفها. إنها المفارقة التي تكشف حجم الوهم: قطر لا تحتمي بقدرتها، بل بقدرة الآخرين على ضبط أعصابهم. ولو فقدت روسيا أعصابها للحظة، لما بقي في الدوحة حجر على حجر. الثكنة التي تدير الوهم في الدوحة، حيث تُرسم الابتسامات الدبلوماسية وتُعقد القمم وتُبث نشرات الجزيرة، يقف في الخلفية مبنى لا يظهر في الصور الرسمية، لكنه الحقيقة الكاملة: قاعدة العديد. ليست ثكنة عسكرية بالمعنى التقليدي، بل غرفة أعصاب تربط واشنطن وتل أبيب ببقية المسرح. منها تُدار الطائرات المسيّرة فوق أوكرانيا، ومنها تمرّ البيانات التي جعلت موسكو عمياء للحظات حين ضُربت راداراتها النووية. هذه القاعدة هي الضمانة والفضيحة معًا: الضمانة لأنها تمنح قطر حصانة من أي رد مباشر، والفضيحة لأنها تكشف أن الدولة الصغيرة ليست إلا منصة لإدارة صراعات أكبر منها. حين يُقال إن الدوحة تلعب دور الوسيط، فإن الوساطة الحقيقية تجري هنا، في حجرات محصّنة تحت الأرض، حيث يلتقي العسكري بالمخابراتي، وحيث تختفي الحدود بين الحرب والمسرح الإعلامي. وعندما ظهر تميم في موسكو بعد تلك الضربة، لم يكن يحمل فقط ملفات الغاز والاستثمار، بل كان يحمل فوق كتفيه ثِقل الثكنة. الزيارة كانت تمويهًا بقدر ما كانت دبلوماسية: ظهور أمام بوتين ليُغطي على أثر القاعدة، ليقول: "نحن شركاء لا متورطون". لكن بوتين، بحكمته التي تفوق النووي نفسه، قرأ الصمت أكثر من الكلمات، وترك التمويه مكشوفًا كحركة صغيرة على رقعة شطرنج أكبر. المناورات التي تُجرى في العديد ليست كلها عسكرية. هناك مناورات رمزية: كيف يُدار الخطاب؟ كيف يُعاد تسويق الدم كقضية؟ كيف تُستخدم غزة كجبهة دائمة لا تُحسم؟ فالثكنة ليست مجرد قاعدة، بل مسرح تشغيل شامل، تتحرك فيه الطائرات كما تتحرك الكلمات، ويُدار فيه الجندي كما يُدار الإعلامي واللاهوتي. ولهذا، فإن فهم العديد أهم من فهم الجزيرة أو أي منصة أخرى: الجزيرة تصوّر وتبث، أما العديد فتقرر وتنفّذ. الجزيرة تعطي الوهم، أما العديد فتعطي الأمر. وبين الوهم والأمر تُعاد صياغة المنطقة كلها، من غزة إلى موسكو. المختبر اللاهوتي خلف الثكنة لكن الثكنة وحدها لا تكفي. فالسلاح يحتاج إلى خطاب يغطيه، والرصاصة تحتاج إلى فتوى تمنحها الشرعية. هنا يدخل دور جامعة جورجتاون – فرع الدوحة. ليست مجرد مؤسسة أكاديمية، بل مختبر لاهوتي–سياسي يُعيد إنتاج الأفكار على التراب العربي. فيها تُزرع المشاتل الفكرية التي تستخرج منها لاحقًا الفتاوى الجاهزة والتأويلات المناسبة، لتتحول إلى وقود للمعارك التي تُدار عسكريًا من العديد. جورجتاون القطرية ليست مدرسة لطلاب الخليج فقط، بل معمل لصناعة نخب جديدة: تُدرّب على لغة "الديمقراطية" في العلن، وتُغذّى بخطاب "الاستثناء الإسلامي" في العمق، بحيث تُنتج طبقة مثقفة–لاهوتية قادرة أن تُبرر، أن تُفسر، وأن تُعيد هندسة الدين بما يخدم النص المسرحي الأكبر. الطقس التطهيري التطهير الإعلامي لقطر عبر مؤتمر عربي–إسلامي لم يكن خيارًا عابرًا، بل ضرورة قصوى، لأن المنصة التي وُضعت في قلب هندسة الصراع لم يكن مسموحًا لها أن تنكشف أمام وعي الشعوب أو تُحاصر بالفضائح التي تلاحقها من كل اتجاه، من تورطها في صناعة خطاب العنف، إلى تمريرها معلومات حساسة جعلت موسكو عمياء للحظات أمام احتمال الضربة النووية، إلى تحول الجزيرة من منبر إعلامي إلى غرفة عمليات تبث صور الذبح والحرق على الهواء مباشرة، وتصوغ البطولة الوهمية في وجه يحيى السنوار لتصرف الأنظار عن الدمار الشامل الذي ابتلع غزة بيتًا بيتًا، وشارعًا شارعًا، وأرضًا أرضًا. ولأن هذا الانكشاف كان يهدد بتعطيل وظيفة اللوحة الأم، لم يعد من الممكن الانتظار أو المراهنة على عامل الزمن، بل كان لا بد من الإسراع في إنتاج مشهد جماعي يلمّع صورة الدوحة، مشهد لا يُقرأ بصفته اجتماعًا سياسيًا، بل طقسًا تطهيريًا يُعيد دمجها في وعي العرب والمسلمين باعتبارها وسيطًا لا يمكن الاستغناء عنه. لقد جرى عقد المؤتمر وكأنه غرفة عمليات رمزية، حيث تُستبدل القرارات الفعلية بالشعارات الخطابية، وحيث يُعاد ترتيب الصورة لا الواقع، وحيث يصبح الدم الفلسطيني ماءً للتطهير أكثر مما هو دليلًا على جريمة. فالدوحة التي تحاصرها الاتهامات، والتي يراها كثيرون متورطة في الذبح باسم الحماية، لم يكن أمامها سوى استدعاء زعماء المنطقة جميعًا إلى حضنها، لتقول للعالم: "إن لم نكن محميين لما اجتمع فينا هذا الحشد، وإن لم نكن وسطاء لما اختارونا جميعًا كمنصة"، وهنا يكمن التناقض الصارخ، إذ كيف لدولة تدّعي أنها بلا حماية أن تستضيف عشرات الرؤساء والملوك في لحظة حرب؟ كيف لمكان يزعم أنه محاصر أن يتحول فجأة إلى العاصمة الوحيدة القادرة على جمع العرب والمسلمين تحت سقف واحد؟ إن الإجابة لم تكن في الدوحة نفسها، بل في الحماية التي تظلّلها، في الثكنة التي تضمن أمنها، في القرار الدولي الذي يحصّنها من أي خطر، وهي حماية ليست ذاتية بل وظيفية، لأن سقوط المنصة ليس خسارة لقطر وحدها، بل انهيار لبنية كاملة يعتمد عليها المسرح الدولي لإبقاء الصراع مشتعلاً. لكن الطقس الذي أُريد له أن يكون عملية تطهير سريع لم يكن بلا ثمن، لأن القادة الذين حضروا خرجوا من المؤتمر أكثر تلوثًا مما دخلوا، إذ ظهروا في أعين شعوبهم شركاء في لعبة التلميع، لا مدافعين عن قضية حقيقية، ظهروا كمن جلسوا في حضن منصة متهمة بالمشاركة في تسويق الدم، ليمنحوها شهادة براءة مجانية بدلًا من أن يواجهوا الحقيقة. ولأن الشعوب صارت تقرأ الصور أكثر مما تسمع الكلمات، فقد فهمت أن القاعة التي امتلأت بالخطابات لم تكن قاعة تحرير، بل قاعة غسل، وأن فلسطين لم تكن محور المؤتمر بقدر ما كانت أداة لإعادة تدوير صورة الدوحة قبل فوات الأوان. إن أعظم ما في هذا الطقس أن الجميع خرج منه متورطًا: الدوحة كسبت وقتًا ثمينًا، لكنها كشفت أن وظيفتها لا تُفهم إلا حين تُعطى شرعية جماعية، والقادة الذين حضروا بدوا كمن أقروا أن المنصة أكبر منهم جميعًا، وأن بقاءهم السياسي يحتاج إلى المرور عبرها، والشعوب نفسها رأت أن دم غزة لم يُستثمر لتحريرها، بل استُعمل كأداة رمزية لتبييض وجه منصة متهمة. وهكذا، صار التطهير الإعلامي ضرورة وجودية، ليس لقطر وحدها بل للنظام بأسره، لأن انكشاف اللوحة الأم كان يعني اهتزاز المسرح كله، من واشنطن إلى تل أبيب، ومن أنقرة إلى موسكو، ومن الخليج إلى شمال أفريقيا، لأن العقدة العصبية التي تتحكم في إيقاع الصراع لا يجوز أن تُعرّى، ولو للحظة واحدة. وبهذا المعنى، لم يكن المؤتمر فعلًا سياسيًا، بل كان مسرحًا مقدسًا، طقسًا جماعيًا بُني على جثث الفلسطينيين ليُعيد الاعتراف بالدوحة كوسيط ضروري، لا كطرف متورط، وكان دم غزة في هذه اللحظة ماء الغسل الذي طهّر المنصة أمام العالم، حتى ولو كان الثمن أن تتحول كل الزعامات الحاضرة إلى شركاء في الجريمة، وحتى ولو كان التطهير نفسه تلوثًا لا يُمحى. لم يكن المؤتمر العربي–الإسلامي انعكاسًا لقوة العرب ولا لوحدة المسلمين، بل كان انعكاسًا لحقيقة أبشع: أن الدم الفلسطيني صار أداة تطهير رمزي لا أداة تحرير، وأن غزة لم تعد تُستحضر كقضية بل كغسّالة للصور، وأن المنصة التي تذبح باسم الحماية وجدت في قاعة القمة غرفة اعتراف جماعي تُبرّئها من جرائمها بدل أن تُدينها. هنا يكمن جوهر المأساة: أن الصراع لم يعد بين عرب وإسرائيل فقط، ولا بين مقاومة ومحتل، بل بين وعي يُدار ليبقى سجينًا، ومنصة صغيرة تصوغ هذا الوعي وتعيد تشغيله كلما اقترب من الانفلات. وما دام الدم قادرًا أن يتحول إلى ماء غسل، وما دام القادة مستعدين أن يقفوا في صفّ الضحية المزيّفة ليحموا المنصة الحقيقية، فإن المسرح سيبقى مفتوحًا، والجمهور سيبقى أسير الوهم، بينما اليد التي تكتب النص لا تُرى ولا تُسمّى. تلك هي الكارثة الكبرى: أن فلسطين تُذبح مرتين، مرة بالحصار والقصف، ومرة حين تُستخدم جراحها كطقس تطهيري لدولة لم تكن يومًا لها، بل كانت دائمًا منصة ضدها.