عبد الله الدامون damounus@yahoo.com عندما تهدأ النفوس ويخف وقع الصدمة، يجب أن نعود إلى ما جرى للطفل ريان ونبحث عن أسبابه العميقة، لكي نكتشف أن المجرم الأول الذي اقترف تلك الجريمة البشعة هو الحشيش، ومن لا يصدق، في النهاية سيصدق. لنعد قليلا إلى التاريخ، ليس للمتعة، بل لبعض العبرة. فحين حلت النكبة بالأندلسيين واختار كثير منهم المغرب للاستقرار، كانت شفشاون وبواديها على رأس قائمة الاختيارات، لسبب رئيسي، وهو وجود الماء بوفرة وانتشار المروج والحقول في كل مكان، فقد كان الأندلسيون يبحثون عن أي مكان يشبه وطنهم المفقود، وكانت شفشاون إحدى الأوطان البديلة. مرت القرون والسنون وظل سكان شفشاون يجدون الماء في أي مكان، قد يجدونه على عمق ثلاثة أو أربعة أمتار، وربما أقل، وهناك في "راس الما" أكبر دليل على أن شفشاون هبة الماء، ماء قد يجف في مقبل السنوات. لكن الكارثة حلت، ليس مع سنوات الجفاف، بل عندما بدأت زراعة الحشيش تكتسح المنطقة، في كتامة وباب برد ومناطق كثيرة غيرها، وهذه الزراعة المنحوسة لا تقضي على البنية الاجتماعية والبشرية والأخلاقية فقط، بل تقضي أولا على المياه. زراعة الحشيش في المنطقة لم تأت اعتباطا، بل كانت نتيجة لتخلي الدولة عن الشمال لعقود طويلة، فارتمى كثيرون في أحضان الحشيش عوض أن يرتموا في أحضان المجاعات، كما حدث مرارا. تشرب حقول الحشيش في المنطقة ما لا يشربه البشر، وكثير من الآبار جفت نتيجة ذلك، ثم تلتها الوديان، وبما أن الحشيش لا يشبع من امتصاص المياه، فقد بدأ مزارعو الحشيش يبحثون عن المياه في الأعماق السحيقة للأرض، عن طريق "الصّوندا"، وبعد أن كان طول الآبار التقليدية لا يزيد عن خمسة أمتار، أو عشرة في أقصى الحالات، فقد صار العثور على الماء، مع مرور السنوات، يحتاج إلى عشرات الأمتار تحت الأرض، وأحيانا فوق المائة متر. المياه الجوفية التي استنزفها مزارعو الحشيش، أصابت في الصميم الفلاحين البسطاء في المنطقة، الذين لم يعودوا يجدون حتى ما يروون به مزروعاتهم البسيطة في حقولهم الصغيرة، وهذا ما حدث بالضبط لوالد ريان، الذي كان يضطر لطلب الماء من جيرانه من أجل ري حقله الصغير، لأنه لم يجد ماء بعد أن حفر أزيد من ثلاثين مترا. غير أن المشكلة الأكبر استفحلت في السنوات الأخيرة، حين حل نوع هجين من الحشيش بالمغرب، اسمه الشعبي "خردالة"، والبعض يسميه "الكْريكيتا"، وهذا الحشيش يشرب أضعاف ما يشربه الحشيش المغربي "التقليدي"، فقضى "خردالة" على البقية الباقية من المياه الجوفية في المنطقة، وصار المزارعون الصغار أمام خيارين، إما أن يشتغلوا مباشرة مع كبار مهربي المخدرات في المنطقة، أو أن يهجروا حقولهم ويبيعوها بأبخس الأثمان لهذا اللوبي المتوحش. والمشكلة الأكبر أن الحشيش "القديم" لم يعد له وجود تقريبا، وصار الحشيش الهجين هو المسيطر على عشرات الآلاف من الهكتارات المزروعة بالكيف في المنطقة، لذلك عندما يقال إنه تم تخفيض المساحات المزروعة بالحشيش، فينبغي أن ندرك أن بذور "خردالة" تنتج أضعاف الحشيش التقليدي في مساحات صغيرة، لذلك تقلصت المساحات المزروعة وازداد الإنتاج، ومقابل زيادة الإنتاج صارت منطقة شفشاون وباب برد وكتامة على حافة الكارثة، بل هي في قلب الكارثة. لهذه الأسباب ندرك لماذا سقط الطفل ريان في بئر بلا قرار، ولهذا ندرك أنه في قاع الحفرة السحيقة لم توجد قطرة ماء، في منطقة كانت معروفة، على مر التاريخ، بأن الماء يفيض على وجه الأرض، فصار الناس يبحثون عن قطرة في عمق الأرض، فلا يجدونها. بعد وفاة الطفل ريان بساعات، راجت أخبار تقول إن الحكومة المغربية قررت إغلاق كل الآبار المهجورة، أو تسييج الآبار المستعملة، مخافة تكرر حادثة ريان، وهي حادثة تكررت كثيرا جدا من قبل. لكن المشكلة ليست في إغلاق وتسييج الآبار، بل المشكلة هي أن المنطقة ستموت قريبا من العطش، فالحشيش يشرب كل شيء، وفي الماضي كان الحشيش "التقليدي" ينهك السكان، والآن صار حشيش "خردالة" يشرب 90 في المائة من المياه ويهدد بقتل السكان من العطش، لذلك لا ينبغي أن ندور حول المشكلة ألف مرة، بل ينبغي أن نشير مباشرة إلى مكمن الداء، ونقول إن لوبي الحشيش هو الذي قتل ريان. لا ينبغي أن نفهم من كل هذا أن لوبي الحشيش هم أولئك المزارعين الصغار الذين يبحثون عن لقمة عيشهم بمرارة ويعيشون حياتهم هاربين من المتابعة، بل لوبي الحشيش الحقيقي هم أولئك الحيتان الكبيرة، ممن يجنون مئات الملايير من الدولارات كل عام ويستمتعون بثرواتهم وجاههم ونفوذهم ومناصبهم، ويعبثون بمستقبل ومصير العباد والبلاد، وفي النهاية نتساءل لماذا حفر والد ريان بئرا بعمق ثلاثين مترا لري مزروعاته البسيطة، بينما الماء يذهب إلى المعدة العملاقة لحشيش "خردالة". هل عرفتم، إذن، من أسقط ريان في الجُبّ...؟