عبد الله الدامون damounus@yahoo.com ما جرى مؤخرا في سوق أسبوعي بضواحي القنيطرة قد لا يكون سابقة، ففي عيد الأضحى الماضي شاهدنا حشودا وهي تطارد شاحنات أكباش وتم نهب بعضها، والتهمة جاهزة، المضاربة وارتفاع الأسعار. نفس الذريعة تم استخدامها هذه المرة في سوق بنمنصور لكي يتهافت العشرات من أجل البطاطس والطماطم والجزر وقطع من اللحم مجانا، وسط صراخ وضحكات هستيرية في مشهد مسيء جدا، ليس لمن اقترفوه، بل للبلاد كلها. ومن قبل، شاهدنا شاحنة تنقلب في طريق سيار وتتشتت حمولتها من المشروبات الغازية فنزل عدد من ركاب السيارات وحملوا ما استطاعوا من "المونادا" ووضعوها في صناديق سياراتهم وهم يرسمون على وجوههم ابتسامات عريضة فرحا بهذه الغنيمة المفاجئة. وفي أيام كثيرة نشاهد الناس يتسابقون في الطوابير من أجل لا شيء تقريبا. وعندما كان "الكوفيد" على أعتاب منازل المغاربة شاهدنا مظاهر محزنة لأناس يملؤون صناديق سياراتهم بكميات هائلة من الأطعمة من كل الأصناف، ولم يكن يهمهم أبدا أن تبقى الرفوف فارغة لمن يأتي بعدهم. إنها تطبيق حرفي لنظرية "أنا وبعدي الطوفان". هناك حالات كثيرة جدا من هذه "اللهطة" التي تشي بأننا نعاني من مرض جماعي خطير، قد نسميه الأنانية المفرطة، لكنه يفترض أن يحمل اسما أكثر خطورة. وربما نكون مجتمعا وهميا يتظاهر بالعيش بسلام في الأيام العادية، وعندما تسوء الأوضاع، ولو قليلا جدا، نُخرج أسوأ ما فينا. إنه وضع يشي بشر مستطير. عموما، لن نسقط في فخ التعميم، فهناك مشاهد فخر كثيرة أيضا، وأبرزها حالات التضامن الكثيرة بين المغاربة خلال جائحة كوفيد، لكن الفخ الأكبر الذي يمكن أن نسقط فيه هو النوم في العسل، أي التصفيق لما هو إيجابي وإغفال كوارثنا التي تصبح مخيفة لمجرد أننا نجتاز لحظات صعبة. الحمد لله أننا لم نجتز حربا أهلية ولا وباء مخيفا ولا غزوا خارجيا ولا كوارث طبيعية خطيرة، ومع ذلك أثبت الواقع أن الحرب الحقيقية التي يمكن أن نعيشها هي ضد بعضنا البعض حين تسوء الأوضاع ولو قليلا. في الأيام الماضية أبهرتنا أوكرانيا، ليس بفضل استعدادها لمواجهة قوة عظمى مثل روسيا، بل لأن الأوكرانيين واجهوا أنفسهم أولا، ولم يسقطوا في فخ الهلع و"اللهطة". لم يتزاحموا في الأسواق لكنز المواد الغذائية ولم يتسابقوا نحو محطات البنزين لملء سياراتهم والهرب بعيدا ولم يقفوا في الطوابير أمام الأبناك لسحب ودائعهم. عموما، أظهر الأوكرانيون، هؤلاء الشيوعيون السابقون، رصانة كبيرة أمام تهديد حقيقي. ففي الوقت الذي تتحدث الأنباء عن الغزو الروسي وكأنه واقع غدا، يمارس الأوكرانيون حياتهم بكثير من الهدوء، ولم تشهد البلاد حالات نزوح ولا اضطرابات ولا نقص في التموين أو ندرة في المواد الغذائية، ولا حتى ارتفاعا في الأسعار. وحتى عندما غادر الكثير من الأجانب البلاد، ظل الأوكرانيون يكرسون تضامنهم ويعززون وحدتهم ويتصرفون وكأن البلاد تنتظر عاصفة رعدية عابرة. نسبة كبيرة من الفضل في الإحساس بالهدوء يعود للحكومة الأوكرانية، التي جعلت الناس مطمئنين في حياتهم اليومية، ويمارسون أعمالهم كالعادة من دون هلع، ويعودون إلى منازلهم مساء لكي يتابعوا نشرات الأخبار ثم يستعدون ليوم جديد. لكن مقابل هذا الهدوء الذي عبر عنه الأوكرانيون العاديون، كانت الطائرات الخصوصية لا تتوقف في سماء أوكرانيا متوجهة نحو مطارات بلدان غرب أوربا. ركاب هذه الطائرات من أكبر أغنياء البلاد، الذين، وعند أول تهديد خارجي، نبذوا وطنهم وفروا على متن طائراتهم الخاصة. هؤلاء هم الأغنياء.. أوطانهم في جيوبهم. في كل التجارب المشابهة يكون الأغنياء أول من يفرون، بينما يكون على باقي الناس، من الطبقة المتوسطة أو الفقيرة، أن يختاروا بين حلّين، إما تجاوز المحنة بهدوء، أو افتراس بعضهم البعض، وفي كثير من الأحيان يفترس الناس بعضهم بمختلف الطرق لأسباب يكون الأغنياء الهاربون سببها المباشر. دائما نقول إنه يجب أن نصنع شعبا حقيقيا وليس ظاهرة صوتية، ويجب أن نزرع مواطنة حقيقية وليس نفاقا، وأن نبني البشر أولا عوض العمارات والمجمعات التجارية الكبرى، وأن نبني السدود لري حقولنا وليس لملء مسابح أغنياء الحروب، ونسن القوانين لكي يلتزم بها الجميع وليس لتكبيل أعناق الضعفاء فقط. تعلمنا التجربة الأوكرانية، وكثير غيرها، أن غلاء الأسعار لا يجب أن يجعل الفقير يفترس الفقير، وأن غلاء الأكباش لا يدفع إلى مطاردة التاجر وسلبه ماشيته، وأن حلول وباء ما لا ينبغي أن يدفعنا إلى إفراغ الأسواق، وأشياء كثيرة أخرى. بالتأكيد هناك أشياء إيجابية كثيرة في مجتمعنا المغربي، لكن هناك مظاهر مخيفة جدا، إن سكتنا عليها ستقودنا حتما إلى مغامرات مجهولة.. وخطيرة.