عبد الله الدامون مرت قرابة عشر سنوات على تولي الملك فليبي السادس مقاليد الحكم في إسبانيا، وهو انتقال كان مفاجئا للكثيرين لأنه لم يحدث وفق نظرية "مات الملك.. عاش الملك".. بل إن الملك السابق ووالد الملك الحالي لا يزال حيا يرزق، بل إنه اختار المنفى تجنبا لإمكانية محاكمته ببعض التهم الثقيلة. اليوم، وبعد عقد من الزمن على أزمة كادت تعصف مجددا بانسجام ووحدة إسبانيا، تعيش جارتنا الشمالية ظروفا تشبه إلى حد كبير الظروف التي سبقت نشوب الحرب الأهلية سنة 1936 بين اليساريين واليمينيين. من الأكيد أن الحرب الأهلية لن تنشب مجددا في إسبانيا، لكن النفوس لا تزال ممتلئة بتركة الماضي، وهي تركة يتم تصريفها عبر السياسة، وخصوصا عبر النقاشات البرلمانية مثلما يحدث حاليا من أجل تنصيب حكومة جديدة بعد انتخابات 23 يوليوز الماضي. لم يكن اليمين الإسباني، ممثلا في الحزب الشعبي وحزب "فوكس" المتطرف يتصور أنه بعد الانتصار الكاسح في الانتخابات البلدية والجهوية لانتخابات ماي 2023، ستتحول الانتخابات البرلمانية الأخيرة إلى كابوس حقيقي لليمين، الذي كان على بعد مقاعد قليلة جدا من الأغلبية المطلقة، وهو ما جعل "الزعيم المنتصر" في الانتخابات، خوسي نونييث فييخو، يخرج مطاطأ الرأس من البرلمان تاركا غريمه الاشتراكي، بيدرو سانشيز، يعجن حكومته المقبلة مع القوميين الكاتلان والباسك، فيما يشبه تحالفا مع ملوك الطوائف. ما يهم في كل هذا ليس النتائج التي خلفتها الانتخابات وطبيعة الحكومة المقبلة، بل طبيعة النقاش الذي دار بين الفرقاء السياسيين في البرلمان الإسباني، وهم فرقاء لفظا ومعنى، لأن ما يفرقهم أوسع بكثير مما يجمعهم، إلى درجة أن كمية الشتائم والإهانات التي راجت في البرلمان الإسباني خلال الأسبوع الماضي لم يحدث مثلها في البلاد طوال نصف قرن من الديمقراطية الإسبانية. لم يحدث في برلمان الجارة الشمالية أن تم رفع صور للمرشح لرئاسة الحكومة، نونييث فييخو، وهو في يخت مهرب مخدرات، ولم يحدث أن هتف العشرات بصوت واحد بشتيمة جماعية في حق رئيس الحكومة الحالي بيدرو سانشيز، ولم يحدث أن أهان زعيم حزب رفيقا له في المعارضة وكلف برلمانيا مغمورا بالرد عليه، ولم يحدث أن تحدث القوميون بكل هذه الثقة في النفس مطالبين بالعفو عن مسجونيهم ومنفييهم والسماح لهم بإجراء استفتاء حول تقرير المصير. إسبانيا اليوم تعيش مخاضا يكرس الانقسام السياسي والقومي في البلاد، وما سيجري في الأسابيع أو الأشهر اللاحقة سيطبع تاريخ إسبانيا لزمن طويل، ليس فقط في المجال السياسي، بل أيضا على المستوى النفسي والاجتماعي، حيث تركة الحرب الأهلية تتوارثها الأجيال، ولا تزال المقابر الجماعية تظهر بين الفينة والأخرى، ولا يزال أحفاد الضحايا يطالبون بالعدالة، رغم كل ما تم تحقيقه من أجل دفن الماضي ولملمة الجراح. في النقاش الذي يدور في البرلمان الإسباني، لا يبدو الأمر مثل مسرحيات سياسية تجري بين الأحزاب في البرلمانات الأوربية، بل تبدو النقاشات قوية وعميقة وحادة وتحمل الكثير من ندوب الماضي، وتبدو الهوة بين اليمين واليسار شاسعة ومؤلمة وكأن الحرب الأهلية الطاحنة انتهت الأسبوع الماضي. نحن المغاربة، الذين كنا فاعلين رئيسيين في تاريخ جارتنا الشمالية طوال مئات السنين، لا نبدو مهتمين كثيرا بما يجري حاليا في إسبانيا، وأحيانا نحلل الأمور بسذاجة ونتحدث عن "الحظوظ الوافرة لصديق المغرب بيدرو سانشيز لرئاسة الحكومة"، ونفرح لنكسة نونييث فييخو كما لو أنه فعلا عدونا، بينما كان يفترض أن نكون أكثر انتباها ويقظة. damounus@yahoo.com