ياسين الطالبي مشروع ترامب لتطوير الذكاء الاصطناعي، الذي قُدرت تكلفته بـ500 مليار دولار، لم يكن مجرد مبادرة تكنولوجية عابرة، بل كان بمثابة إعلان صريح عن نية أمريكا لاستعادة هيمنتها الكاملة على مسرح العالم، ليس فقط عبر القوة العسكرية أو الاقتصادية، بل من خلال السيطرة على العقول والخوارزميات، حيث تُدار الحروب المستقبلية بلا رصاصة واحدة. هنا يظهر الخطر الحقيقي بالنسبة لبريطانيا، فالأمر ليس مجرد سباق تقني، بل تهديد مباشر لفلسفة السيطرة التي أتقنتها لقرون: فلسفة الإدارة من الخلف، عبر النفوذ الخفي، وصناعة الأزمات لا مواجهتها. بريطانيا تعلم أن الذكاء الاصطناعي هو السلاح الذي يمكنه إعادة تشكيل العالم كما فعلت الثورة الصناعية من قبل، لكنها تدرك أيضاً أن ترامب، بشخصيته الخارجة عن النص التقليدي، لا يلعب وفق قواعد اللعبة القديمة. مشروعه لم يكن مجرد تطوير تقني بل محاولة لفك القيود غير المرئية التي تربط أمريكا بالعقل البريطاني، محاولة لتحرير الوحش من سلاسله الفكرية، وهذا هو التهديد الأعظم. ترامب لم يكن يرى في الحلفاء التقليديين مجرد شركاء، بل عبئاً على مشروعه الإمبراطوري الجديد، مشروع يهدف إلى خلق "عصر أمريكي نقي" بلا وصاية أو تأثير خارجي. رد الفعل جاء سريعاً عبر "DeepSeek"، ليس لأن الصين فجأة أصبحت قوة لا يُستهان بها في هذا المجال، بل لأنها كانت الأداة المثالية لإحداث شرخ في صورة أمريكا كقائدة للعالم التكنولوجي. في العمق، بريطانيا لم تعد بحاجة لإمبراطورية تمتد جغرافيًا كما في الماضي. هي اليوم إمبراطورية أفكار، تدير معاركها عبر السرديات والتحكم في الإدراك. مشروع ترامب كان بمثابة "خطر وجودي" لهذه الإمبراطورية غير المرئية، لأنه حاول إعادة تعريف من يمتلك الحق في رسم خرائط المستقبل. لذلك، كان لا بد من الرد، ليس بإسقاط ترامب شخصيًا فقط، بل بتقويض الفكرة التي يمثلها: فكرة أن أمريكا يمكن أن تكون سيدة مصيرها دون الحاجة لتلك الهمسات القادمة من وستمنستر. عندما أعلن ترامب عن استثماره الضخم في الذكاء الاصطناعي، كان كمن يطرق أبواب قلعة قديمة يظن أنها خالية من الحراس، لكن تلك القلعة لم تُترك يومًا بلا عين تراقب. بريطانيا، التي فهمت مبكرًا أن السيطرة الحقيقية ليست في امتلاك الموارد بل في التحكم بمن يعرف كيف يستخدمها، أدركت أن مشروع ترامب لم يكن مجرد محاولة لإحياء الهيمنة الأمريكية، بل كان تهديدًا بنزع الستار عن المسرح كله. هنا جاء "DeepSeek" كرصاصة ذكية، ليس لتدمير المشروع، بل لضرب العمق النفسي للسوق الأمريكية، لزرع الشك في قدرة أمريكا على الحفاظ على تفوقها، وكأن الرسالة تقول: "قد تمتلكون المال، لكننا نملك السيناريو." الضربة لم تكن تقنية بقدر ما كانت نفسية، لم تكن تستهدف مشروع ترامب فقط، بل غرور أمريكا وثقتها بنفسها، بهدف دفعها إلى الرد بطريقة تكشف نقاط ضعفها للعالم، وتُعيد ترتيب أوراق اللعبة لصالح القوى التي تفضل البقاء في الظل. إنها ضربة على وتر حساس: الاقتصاد، البورصة، ومستقبل الهيمنة الرقمية. الاقتصاد العالمي اليوم لا يقوم على الحقائق الصلبة بل على الإدراك، والإدراك يمكن أن يُعاد تشكيله بلحظة، تمامًا كما حدث في عام 1969 حين تم الإعلان عن الهبوط على القمر، لم يكن الهدف فقط إظهار تفوق أمريكا على الاتحاد السوفيتي، بل كان الهدف الأعمق هو كسر الروح السوفيتية، وتحطيم طموحها الفضائي دون إطلاق رصاصة واحدة، الفكرة ذاتها تتكرر اليوم، ولكن بأدوات أكثر تعقيدًا: ليس صراع صواريخ أو سباق فضاء، بل حرب على مستوى الخيال ذاته، على القدرة على التحكم في كيف يرى العالم قوته وهشاشته، في هذا المسرح الكوني، لا تحتاج إلى أن تكون الأقوى لتفوز، يكفيك فقط أن تجعل خصمك يظن أنه أصبح أضعف، لأن الخسارة الحقيقية تبدأ في العقل قبل أن تترجم إلى أرقام في البورصة أو قرارات في غرف الاجتماعات. DeepSeek، هذا الاسم الذي ارتجت له الأسواق واهتزت له عروش التكنولوجيا، ليس أكثر من ظل ضخم يُلقيه جسد صغير. إنه ليس بالوحش الذي صوّرته عناوين الأخبار، ولا بالعبقرية التي أُلبست ثوبها في خضم الهلع والتهويل. في عمق الحقيقة، هو مشروع أقل بكثير مما قيل عنه، لا يرقى إلى مستوى الضجيج الذي صنعه، لكنّ قيمته لم تكمن يوماً في ما يستطيع فعله، بل في ما جعل الآخرين يظنون أنه قادر عليه. إنها ليست مسألة تقنية بحتة، بل لعبة إدراك، حيث يتحول الضعف إلى قوة إذا ما غُلّف بالخوف، ويصبح الوهم أكثر فتكاً من الحقيقة نفسها. لا ننسى أن الذكاء الاصطناعي، مهما تطور، لا يمكن أن يرقى في دولة لا تزال تفرض قيوداً صارمة على حرية الفكر وتبادل الأفكار، لأن الذكاء يحتاج إلى فضاء من الحرية لينمو، وإلى الاحتكاك بالمجهول ليبدع. صحيح أن الصين تمنح حريات واسعة في التعامل مع المعلومات وتحليلها، لكنها تضع سقفاً منخفضاً للتساؤل الحر والابتكار غير الموجه، مما يجعل ذكاءها الاصطناعي محكوماً بقيود غير مرئية، تمنعه من تجاوز حدوده المرسومة. في عالم تتشكل فيه القوى العظمى على وقع الخوارزميات أكثر من وقع المدافع، يكفي أن تزرع فكرة التهديد حتى تتساقط حصون الثقة كأوراق الخريف. بريطانيا تعلم أن وحشًا بحجم الولايات المتحدة لا يُهزم بضربة مباشرة، بل يحتاج إلى جروح صغيرة تتراكم ببطء حتى يُصبح غير قادر على الوقوف. إنها تدفع بالصين إلى الواجهة، ليس لأن الصين تُمثل تهديدًا حقيقيًا، ولكن لأنها الورقة المناسبة لإبقاء أمريكا في حالة توتر دائم. الصين مجرد انعكاس لوهم القوة، تمامًا كما كان الاتحاد السوفيتي في زمن الحرب الباردة. وفي كل مرة يشتد فيها الصراع، تقف بريطانيا في الظل، تراقب الأسواق ترتجف، والسياسيين يتخبطون، بينما تحتفظ بقدرتها على التدخل في اللحظة الحاسمة. إيلون ماسك، ذلك الرجل الذي يتنقل بين الكواكب بأحلامه ويخترق حدود الابتكار بثقة من يظن أنه أكبر من العالم نفسه، لم يدرك أن أكثر الرحلات تعقيداً ليست تلك التي تتحدى الجاذبية، بل تلك التي تحاول الهروب من قبضة أفكار صاغت النظام العالمي قبل أن يولد هو بقرون. قد يسخر من بريطانيا في تغريدة عابرة، لكن خلف الضباب اللندني لا يقف مجرد تاريخ عابر، بل عقل إمبراطوري يعرف أن السلطة الحقيقية لا تحتاج لصواريخ أو مستعمرات على المريخ، بل تحتاج فقط لفكرة تُزرع في الوقت المناسب لتُعيد رسم خريطة القوة. الضربة لم تكن مجرد ردة فعل على مشروع أو تغريدة، بل كانت درساً فلسفياً في أن من يظن نفسه حرًا هو غالباً أكثر العالقين في شبكة لا يرى خيوطها. مشروع "DeepSeek" كان انعكاسًا لمرآة صُممت خصيصاً لماسك وأمريكا، مرآة تُظهر أن التكنولوجيا مهما بلغت من تطور، ستظل دائماً رهينة منظومة لا تُقاس بمقدار الابتكار، بل بمدى القدرة على التحكم بالسياق المحيط به. ربما كان مشروع "Stargate" الذي أطلقه ماسك تهديدًا لهذه المنظومة، ليس لأنه فقط يتجاوز حدود التكنولوجيا، بل لأنه يحاول اختراق قواعد اللعبة ذاتها. الضربة التي استهدفت مشروع "Stargate" لم تكن مجرد مناورة تقنية أو اقتصادية، بل كانت بمثابة اعتراف غير مباشر بخطورة هذا المشروع على هندسة القوى العالمية. ففي عالم تُقاس فيه الأفكار بمدى قدرتها على زعزعة الثوابت، يبدو أن أعظم دعاية لأي فكرة ليست في الترويج لها، بل في الخوف منها. كلما اشتد الهجوم على فكرة ما، كلما بدا أنها تحمل في طياتها سرًا عميقًا، سرًا لا يتعلق فقط بما تفعله التكنولوجيا، بل بما قد تُحدثه في وعي البشرية. Stargate ليس مجرد بوابة للبيانات أو منصة للذكاء الاصطناعي؛ إنه نافذة نحو مفهوم جديد للسيطرة، حيث تصبح المعلومة هي السلاح الأقوى، والتنبؤ بالمستقبل ليس خيالاً علميًا بل أداة سياسية. عندما تهاجم قوة ما مشروعًا بهذه الحدة، فإنها لا تحاول فقط كبح جماحه، بل تسعى دون وعي منها لتسليط الضوء على الخطر الذي تراه في أعماقه. وهنا يظهر التناقض المثير للسخرية: فكل محاولة لإضعاف المشروع تتحول إلى دليل على قوته. إن الهجمات المتكررة قد تكشف هشاشة من يقف خلفها أكثر مما تكشف ضعف الهدف نفسه. ربما لم يكن Stargate ليحظى بهذا الزخم لولا أن ضرباته الارتدادية أصابت عصب الخوف لدى من يراقبون من خلف الكواليس. الخوف هنا ليس من تقنية باردة أو خوارزمية معقدة، بل من فكرة أن السيطرة على المستقبل لم تعد حكرًا على عقول محددة خلف أسوار السياسة والاقتصاد، بل باتت مشروعًا مفتوحًا في فضاء لا تحده حدود الجغرافيا ولا تُقيده قواعد اللعب القديمة. هكذا، تتحول الضربة من أداة كبح إلى وقود يشعل شرارة الأسئلة التي لا تنطفئ.