إيران.. من لاعب إقليمي إلى دولة تتفاوض على بقائها

ياسين الطالبي

لم تكن إيران مجرد قوة إقليمية، بل كانت فكرة، رمزًا للممانعة، نموذجًا لدولة تُقاوم الهيمنة الغربية، وتفرض معادلاتها الخاصة في السياسة والجغرافيا، لكنها اليوم لم تعد تُفاوض على نفوذها، بل تُفاوض على بقائها، لم يعد السؤال في طهران “كيف نُدير المنطقة؟”، بل أصبح “كيف لا نُصبح الضحية القادمة؟”، لم يكن الغرب وحده من يعمل على تحجيم إيران، بل كانت الدولة العميقة داخلها هي التي رأت أن الصراع الحقيقي لم يعد على الجبهات الخارجية، بل في الداخل، في شوارع تهتز بالمظاهرات، في جيل لم يعد يرى في النظام سلطة مقدسة، في نساء يرفضن رموز الدولة أكثر مما يخشين العقوبات، كانت طهران تعرف أن سقوطها لن يكون عبر غزو عسكري، بل عبر تآكل شرعيتها من الداخل، ولهذا، كان لا بد من صفقة، صفقة تضمن بقاء النظام، حتى لو كان الثمن التخلي عن كل ما بناه لعقود، حتى لو كان الثمن إسقاط قادته وحلفائه، حتى لو كان الثمن تصفية من كانوا يُعتبرون الخطوط الحمراء للمشروع الإيراني في المنطقة.
لم يكن إبراهيم رئيسي مجرد رئيس آخر، بل كان تجسيدًا للخط المحافظ المتشدد، للرؤية الإيرانية التي تتجه شرقًا، التي ترى في موسكو حليفًا استراتيجيًا وليس مجرد شريك تكتيكي، لكن هذه الرؤية لم تكن تناسب المرحلة الجديدة، لم تكن تتماشى مع صفقة البقاء التي تفاوضت عليها الدولة العميقة، كان يجب أن يسقط رئيسي، ليس لأنه فشل، بل لأنه كان يُمثل ما لم يعد يُناسب ما هو مطلوب من إيران، كان يجب أن تختفي تلك الشخصية التي تُراهن على التحالف مع روسيا أكثر مما يُسمح به، كان يجب أن يكون هناك “حادث مدروس” يُبعده عن المشهد، ويُعيد ترتيب التوازن داخل طهران، بحيث تُصبح السياسة الخارجية أكثر مرونة، وأكثر قبولًا بالحدود التي يجب على إيران ألا تتجاوزها، لم يكن رئيسي هو المشكلة، بل كان توجهه هو الذي يجب أن يُزال، كان يجب أن تُعيد إيران ضبط بوصلتها بعيدًا عن موسكو، نحو خيارات أكثر براغماتية، وأكثر استجابة للواقع الجديد الذي بدأ يتشكل منذ إبادة غزة.
إسماعيل هنية، الرجل الذي كان يُفترض أنه الحليف الأكثر أمانًا في محور المقاومة، لم يكن بعيدًا عن هذه الصفقة، لم يكن اغتياله فوق الأراضي الإيرانية مجرد ضربة إسرائيلية، بل كان رسالة، لم تكن لإيران فقط، بل لحلفائها الذين ظنوا أن مشروع المقاومة لا يزال كما كان، كانت الرسالة واضحة: “حتى قادتكم لم يعودوا في مأمن داخل أراضيكم، لقد انتهى زمن الحماية، والآن عليكم أن تقبلوا بقواعد جديدة.” إيران لم تتحرك، لم تُعلن الغضب، لم تُهدد بالانتقام، لأنها لم تكن تستطيع ذلك، لم يعد مسموحًا لها أن تلعب دور الحامي المطلق، بل أصبحت مُجبرة على أن تُظهر أنها لم تعد مسؤولة عن كل من يدور في فلكها، كان يجب أن تُرسل إشارات إلى واشنطن بأنها لم تعد هي الداعم المطلق لحركات المقاومة، وأنها مستعدة لإعادة النظر في هذا الدور، حتى لو كان ذلك يعني التضحية بأحد أهم رموز المقاومة الفلسطينية.
إيران كانت تعرف أن استمرار دعمها للأسد يعني استمرار استنزافها، وأن حزب الله، رغم أنه كان رصيدها الأكبر، أصبح عبئًا أكثر من كونه ورقة رابحة، لم يكن الأمر مجرد تخلي، بل كان تصفية محسوبة، إذ لم تعد سوريا تُشكل أولوية، بل أصبحت ورقة يتم التفاوض عليها، لم تعد إيران تُحدد من يبقى ومن يسقط، بل أصبحت تخضع لتفاهمات تُفرض عليها، لم يكن سقوط الأسد مجرد نتيجة حرب طويلة، بل كان إعلانًا بأن إيران لم تعد قادرة على حماية أحد، لأنها بالكاد قادرة على حماية نفسها، وحزب الله، الذي كان ذات يوم اليد الطولى لطهران في المنطقة، أصبح فجأة مكشوفًا، بلا غطاء إقليمي، بلا دعم غير مشروط، بل أصبحت إيران نفسها هي التي تُسلّم أوراقه، تُقدم المعلومات عن مواقعه، تُرشد القوى الإقليمية إلى نقاط ضعفه، لم يكن ذلك خيارًا، بل كان الثمن الذي كان يجب دفعه لضمان بقاء النظام الإيراني نفسه.
لم تكن إبادة غزة مجرد تصعيد عسكري، بل كانت اختبارًا لكل الأطراف، كانت لحظة الحقيقة، حيث لم يعد هناك مجال للمناورة، إما أن تكون قادرًا على تغيير المعادلة، أو أن تُسحب من المشهد، إيران أدركت أنها لم تعد تملك القدرة على المناورة كما في السابق، أدركت أن مشروعها الإقليمي لم يعد يمتلك الزخم الذي كان لديه قبل سنوات، أدركت أن من لا يستطيع مجاراة التغيرات سيتم حذفه، أدركت أن استراتيجياتها القديمة لم تعد كافية للحفاظ على دورها كقوة إقليمية، ولهذا، لم يكن أمامها سوى التفاوض على البقاء، حتى لو كان ذلك يعني قبول قواعد جديدة لم تكن لتقبل بها في الماضي، حتى لو كان ذلك يعني إعادة تعريف دورها، بحيث لا تكون هي القوة الصاعدة، بل تصبح مجرد لاعب يتكيف مع النظام الجديد.
لم يكن إطلاق مئات الصواريخ على تل أبيب سوى جزء من المسرحية، كان يجب أن يكون هناك رد، لكن الرد يجب أن يكون مُدارًا، يجب أن يكون ضمن حدود، بحيث لا يُغير شيئًا، بل يُستخدم فقط لإعطاء الجماهير جرعة تخدير، لإقناعهم أن المقاومة لا تزال موجودة، لكن دون أن تُهدد أي شيء حقيقي، لم يكن الهدف هو إلحاق ضرر استراتيجي بإسرائيل، بل كان الهدف هو إعادة إنتاج خطاب المقاومة، بحيث يبقى حيًا دون أن يكون قادرًا على فرض أي معادلة، كانت إيران بحاجة إلى هذا المشهد، ليس لأنها تُريد التصعيد، بل لأنها تُريد أن تُثبت أنها لا تزال “جزءًا من اللعبة”، رغم أنها لم تعد تُديرها.
إيران اليوم ليست إيران الأمس، لم تعد تُحدد شروط اللعبة، بل أصبحت تسعى فقط للبقاء داخلها، لم تعد تُقرر من يكون في المشهد، بل أصبحت تُعيد تعريف دورها بحيث لا تكون مستهدفة، لم تعد تُدير محور المقاومة، بل أصبحت تُحاول الحفاظ عليه بحده الأدنى، حتى لا تفقد كل شيء، المقاومة لم تعد مشروعًا، بل أصبحت ورقة تفاوض، حزب الله لم يعد قوة، بل أصبح ملفًا يتم إدارته، سوريا لم تعد حليفة، بل أصبحت ورقة يمكن التخلي عنها إذا لزم الأمر، لم يكن هذا خيارًا استراتيجيًا، بل كان واقعًا فرض نفسه، لأن إيران لم تعد قادرة على أن تُقاتل في كل الجبهات، بل أصبحت تبحث عن طريقة لتجنب أن تكون الجبهة التالية.
لم يكن ما حدث مجرد أزمة عابرة، بل كان إعلانًا عن أن إيران، كما كانت تُعرف، قد انتهت، أنها لم تعد القطب الإقليمي الصاعد، بل أصبحت جزءًا من نظام جديد، يُعيد توزيع الأدوار، ويُحدد من يبقى ومن يخرج، لم يعد السؤال عن نفوذها، بل عن مدى قدرتها على التكيف مع عالم لم يعد يُسمح فيه بالمغامرات، لم تعد المسألة ماذا تريد إيران، بل ماذا يُسمح لها أن تفعل، هذه ليست مجرد تنازلات، بل إعادة تعريف لدور طهران، بحيث لا تعود تهديدًا، بل تصبح مجرد طرف يقبل بما يتم تحديده له، ليس لأنه يُريد ذلك، بل لأنه لم يعد يملك خيارًا آخر.

أضف تعليقك

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)

تعليقات ( 0 )