ياسين الطالبي الصهيونية لم تكن يومًا لليهود، وقطر لم تكن يومًا لفلسطين. ليس هناك خدعة أعظم من أن يعتقد الضحية أنه محور القصة، وأنه المستفيد من المشروع الذي صنعه جلاده. لليهود كانت الصهيونية الملاذ الآمن، ولفلسطين كانت قطر الداعم المخلص، لكن الحقيقة أن كلاهما كانا مجرد حُفر محكمة الإغلاق، حيث يتم وضع المذبوحين ببطء، دون أن يدركوا أن سكين الذبح لم تأتِ من العدو، بل من اليد التي ادّعت الحماية. الصهيونية لم تُخلق لحماية اليهود، بل لإدارتهم في مشروع لم يكن لهم فيه سوى دور الأداة. قطر لم تُستخدم لتحرير غزة، بل لتأمين بقائها كجرح مفتوح، بحيث تصبح ورقة يتم تحريكها عند الحاجة، دون أن يُسمح لها بالتعافي أو الانتهاء. إسرائيل لم تُؤسَّس كدولة قوية، بل ككيان دائم التهديد، مما يجعلها دومًا بحاجة إلى حماية النخب المالية والسياسية التي صنعتها. غزة لم تُغرق في الفقر والحصار لأنها ضعيفة، بل لأنها لا يمكن أن تخرج من دورها الوظيفي، حيث لا انتصار ولا هزيمة، بل فقط صراع مُدار بحذر، بحيث يُعاد إشعاله كلما دعت الحاجة. الأسرى هنا ليسوا من يعيشون خلف الأسلاك الشائكة فقط، بل أولئك الذين يظنون أن الجدران التي تحاصرهم قد بُنيت لحمايتهم، بينما هي في الحقيقة تُبقيهم داخل دائرة لا مفر منها. الذبح العشوائي لا يدوم طويلًا، لكن الذبح المنظَّم، حيث يقتل الضحية نفسه دون أن يدرك، هو أعظم أشكال السيطرة. الصهيونية، مثلها مثل قطر، لم تكن مشروعًا للتدمير المباشر، بل مشروعًا لإعادة برمجة الواقع بحيث يُعيد الضحايا أنفسهم تنفيذ ما صُمم لهم، دون مقاومة تُذكر. اليهود لم يُجبروا على الصهيونية، بل تم إقناعهم بأنهم بحاجة إليها، حتى عندما كانوا في أوج اندماجهم داخل المجتمعات الأوروبية. الفلسطينيون لم يُجبروا على قبول المال القطري، بل تم إقناعهم بأن الدعم يأتي لمساعدتهم، حتى عندما كان يُستخدم لإبقائهم داخل السجن المفتوح الذي يُدعى غزة. إسرائيل لم تُبنَ لتحرير اليهود من الشتات، بل لتحويلهم إلى وقود لمشروع عالمي لم يكن لهم فيه أي خيار سوى الطاعة. غزة لم تُدعم لتصبح قوية، بل لتبقى رهينة صراعات لا قرار لها، حيث يتم إنقاذها فقط بالقدر الذي يُبقيها على قيد الحياة، لكن دون أن يُسمح لها بالخروج من الحفرة. الضحية هنا لم يكن الجسد فقط، بل الوعي الذي تم تشكيله، بحيث لا يرى المذبوح السكين التي تقترب من رقبته، بل يرى اليد التي تمسك بها على أنها اليد التي تطعمه وتحميه. التاريخ ليس ساذجًا، ولم تكن الحروب في فلسطين عبثية، كما لم تكن إسرائيل مجرد دولة تسعى للبقاء. ما دامت الصهيونية لم تكن لليهود، وما دامت قطر لم تكن لفلسطين، فلماذا لم يتم تدمير الأولى ولا تحرير الثانية؟ لأن إسرائيل لم تُبنَ لتُهزم، ولم تُبنَ لتنتصر، بل للبقاء في المنتصف، حيث الحاجة الدائمة إلى الحماية، والحاجة الدائمة إلى العنف، بحيث لا يكون هناك أي استقرار، ولا أي نهاية للصراع، لأن غزة لم تُعطَ فرصة للتحرر، ولم تُعطَ فرصة للاندثار، بل وُضعت في مساحة حيث يمكن استخدامها سياسيًا، عسكريًا، وحتى أخلاقيًا، بحيث يتم تحريكها وقت الحاجة وإيقافها وقت الحاجة. لأن إسرائيل لم تكن دولة، بل كانت وظيفة، ورأس حربة لنظام أكبر، ليس قائمًا في تل أبيب فقط، بل في لندن، نيويورك، والدوحة. لأن غزة لم تكن مجرد مدينة فلسطينية، بل كانت نموذجًا لما يحدث عندما تتحول قضية عادلة إلى سلعة تُباع وتشترى، حيث يصبح الدم جزءًا من معادلة المال والسياسة. إذا كانت إسرائيل قد حصلت على السلاح، فذلك لأن وجودها كـ"دولة ضعيفة لكنها محمية" هو أفضل استثمار للقوى العالمية التي تديرها. إذا كانت غزة قد حصلت على الدعم، فذلك لأن بقائها كـ"بقعة مشتعلة دائمًا" هو أفضل أداة لضمان أن لا تصبح فلسطين يومًا ما دولة قادرة على الاستقلال. كل شيء يتم التحكم فيه، حتى العنف، حتى المقاومة، حتى الاستسلام. لأن كليهما ليسا كيانات مستقلة، بل هما أدوات داخل معادلة أكبر، حيث لا يمكن السماح بسقوط أي منهما، لأنهما لم يُصمَّما ليكونا دولًا، بل ليكونا مراكز تشغيل للصراع الأبدي. إسرائيل ليست دولة، بل "منطقة نفوذ دائم"، حيث يتم الحفاظ على مستوى معين من التوتر، لكن دون الوصول إلى نقطة الانهيار، لأن في انهيارها خطرًا، وفي انتصارها خطرًا أكبر. قطر ليست دولة، بل "مركز تشغيل"، حيث تُدار فيه الملفات التي لا يمكن إدارتها علنًا، حيث يتم تحريك التنظيمات، وشراء الولاءات، وإعادة ضبط موازين القوى دون الحاجة إلى حرب مباشرة. لماذا لم تسقط إسرائيل رغم الحروب؟ لأنها لم تُصمَّم للسقوط، بل لتبقى دومًا في حاجة إلى الحماية، وفي حاجة إلى التوسع، وفي حاجة إلى صراع لا ينتهي. لماذا لم تسقط قطر رغم فضائحها؟ لأنها لم تُصمَّم لتكون دولة طبيعية، بل لتكون المختبر الذي يتم فيه اختبار كيف يمكن إدارة العالم الإسلامي، دون الحاجة إلى احتلاله. المشكلة لم تكن أبدًا في إسرائيل كدولة، ولا في قطر ككيان سياسي، بل في النظام الذي يسمح لكليهما بالوجود كأدوات، دون أن يُسمح لأي منهما بالخروج من دوره المحدد. في النهاية، لا إسرائيل تملك قرارها، ولا غزة تملك قرارها، لأن كليهما محكومان بقوة أكبر، بقواعد لعبة لم يضعاها، ولا يمكنهما تغييرها. الصهيونية ليست لليهود، لكنهم أول ضحاياها. قطر ليست لفلسطين، لكنها كانت دائمًا أول من يضحي بها. كل شيء في هذه المعادلة يُدار وفق ميزان دقيق: لا يُسمح لليهود بأن يعيشوا في سلام، لأن ذلك يعني أن الحاجة إلى إسرائيل ستنتهي. لا يُسمح لغزة بأن تتحرر، لأن ذلك يعني أن الحاجة إلى الصراع ستنتهي. إسرائيل لم تُبنَ لليهود، بل لتحويلهم إلى آلة سياسية تُستخدم لإعادة تشكيل المنطقة. غزة لم تُدعَم للفلسطينيين، بل لجعلهم وقودًا لمشروع دائم لا يمكن لأحد الخروج منه. في هذه المعادلة، لا أحد يربح، ولا أحد يخسر، لأن الجميع قد تم ضبطهم ليعيشوا في صراع لا نهاية له، حيث يصبح الضحية هو جلاده، دون أن يدري.