القرآن من السماء… والثقافة الإسلامية صناعة بشرية (حتى لا ننسى)

ياسين الطالبي

القرآن لم يكن يومًا من ثقافةٍ ما، ولا جاء على هيئة جماعة. لقد نزل كنورٍ لا يعرف الحدود، وككلمة من الله، لا تتكئ على ماضٍ ولا تستمد معناها من أعراف، بل تهبط إلى القلب كما هي: خفيفة في بساطتها، ثقيلة في أثرها، لا تطلب الانتماء إلى شيء سوى إلى الحقيقة. في اللحظة التي قال فيها الله “يا أيها الناس”، وُلد النداء الأول للإنسان، لا بوصفه مسلمًا أو منتميًا، بل بوصفه كائنًا حرًا، قادرًا على السماع، والتلقي، والتفاعل، بلا وسيط ولا وراثة.

لكن ما جاء بعد التنزيل لم يكن امتدادًا له بل سياقًا آخر. الثقافة التي نشأت حول النص، تلك التي تُعرف اليوم بـ”الثقافة الإسلامية”، لم تكن وحيًا، بل فهمًا، ولم تكن ضوءًا خالصًا، بل ظلًا تشكّل على جدران السلطة والتاريخ. هي محاولة بشرية، مشروعة في زمنها، لكنها لا تملك قداسة النص، ولا عفوية الوحي، ولا روح البداية. إنها بنت الأرض، لا بنت السماء، ولذا فهي محكومة بالتحوّل، بالزمن، بالخوف، بالصراع، لا بالخلود.

الفرق بين القرآن والثقافة الإسلامية هو الفرق بين الإلهي والبشري، بين ما نزل ليوقظ في الإنسان وعيه، وما نشأ ليؤطر هذا الوعي في طقوس ومذاهب ومفاهيم. فبينما يفتح القرآن الباب على مصراعيه أمام السؤال، والعقل، والرحمة، نجد الثقافة التي التفّت حوله تحاول أن تصوغ الجواب قبل أن يُطرح، وتبني حول النور أسوارًا من التأويل، والاحتكار، والسلطة الرمزية.

القرآن لا يُقرأ بعيون الطائفة، بل بصفاء القلب، لأنه لا ينتمي لأحد، ولا يتكئ على مدرسة، ولا يعترف بحدود. أما الثقافة الإسلامية، فهي نتاج الاجتماع، والسياسة، والخوف، والاصطفاف، ولذلك حين نحاول أن نرى الله من خلالها، نراه كما أراده الفقهاء، لا كما وصف نفسه: رحيمًا قبل أن يكون جبارًا، قريبًا قبل أن يكون عظيمًا، يسمع الشكوى قبل أن ينطق بالحكم.

ولعل أعظم ما يحتاجه القلب المعاصر هو أن يُعيد ترتيب العلاقة: ألا يبدأ من الورثة ليصل إلى النص، بل من النص ليقرأ ما تراكم عليه، لا طلبًا لهدم، بل لتمييز ما هو من الله، مما هو من الناس.

فما نزل من السماء لم يُقصد به تأسيس ثقافة مغلقة، بل إيقاظ وعي حيّ، وما تكوّن في الأرض من فهوم ومذاهب لم يكن امتدادًا للوحي بقدر ما كان انعكاسًا لقلق الإنسان في مواجهة المطلق. فالقرآن لا يَعدُنا بمؤسسة، بل يُشير إلى المعنى، لا يطلب تنظيمًا بشريًا بقدر ما يُطالب بصدق النية، ولا يدعونا إلى حمل اسمه، بل إلى حمل نوره. لكننا سرعان ما استبدلنا هذا النور بنسق، وحرّكنا الإيمان من فضاء الرحمة إلى ضوابط الطاعة، حتى صار الدين في وعي الجماعة مشروع انتماء، لا مشروع لقاء.

الثقافة الإسلامية التي نُجلّ فيها ما كُتب وقاله من سبقونا، هي في حقيقتها تراكم بشري، حُكم فيه على الله من خلال الإنسان، لا العكس، فاختلطت الرؤية الإلهية بمخاوف الفقه، واستُبدلت أسئلة القرآن الواسعة بأجوبة جاهزة لا تقبل المراجعة، وتحوّلت الرحلة الإيمانية من اكتشاف إلى تلقين، ومن نور يتسلل إلى الضمير، إلى منظومة تحدد لك موضع قدميك حتى قبل أن تسير.

لكن الله لا يُختصر في كتب، ولا يُرى بعيون الماضي وحده. وما كان من وحيٍ حيّ لا يُختزن في قوالب مغلقة. من هنا، لا حاجة لعداء بيننا وبين التراث، بل إلى وعي يُعيده إلى حجمه الطبيعي: أثر من آثار السعي الإنساني نحو الفهم، لا مرآة صافية للغيب. فالدين، حين يُفهم من موقعه الإلهي، يحرّر، وحين يُسكن في التاريخ وحده، يُقيّد. وبين الحرية والقيد، لا يصعد الإنسان إلى الله، بل إلى صورة مشوّهة عنه، تجعله خائفًا أكثر مما تجعله محبوبًا، تابعًا أكثر مما تجعله سائلًا.

الفرق الجوهري إذًا ليس بين المؤمن وغير المؤمن، بل بين من يرى الدين كنقطة انطلاق، ومن يراه كقالب وراثي. بين من يتلو القرآن ككلمة حيّة تنفذ إلى الوجدان، ومن يقرؤه كجزء من نظام فقهي، مكتفٍ بشروحات الأوّلين. الأول ينتمي إلى النور، والثاني إلى الصوت القديم. الأول يسير نحو الله، والثاني يدور حول الجماعة.

وليس القصد أن نُدين تراثنا، بل أن نضعه حيث يجب: في خانة الاجتهاد، لا في مرتبة التنزيل. فمن ظن أن كل ما دوّنه التاريخ إلهي، جعل من الله تابعًا للتقويم الهجري، ومن القرآن سجينًا لمفهوم الفتوى، ومن الإنسان رقمًا داخل جماعة، لا كائنًا حرًا يبحث عن الحق بما هو حق، لا بما هو شائع.

ذلك أن القرآن لم يُنزّل ليُحفظ في الصدور دون أن يُفعّل في الوعي، ولا ليُعلّق في الزوايا دون أن يتحرّك في الفكر، بل ليكون نداءً دائمًا من الله إلى الإنسان: أن كن كما خُلقت، لا كما يريدك غيرك. أن تفكر لا أن تكرّر، أن تسأل لا أن تتبع، أن ترى الله في سعة الرحمة لا في ضيق المذهب، وفي وهج المحبة لا في صرامة القيد.

ليست الكلمات في القرآن مجرّد أحكام، بل بوابات للانكشاف. كل آية لا تشرح شيئًا قدر ما تدعوك لتُصغي، لا بعينيك، بل بتلك المسافة العميقة بينك وبين نفسك. فالنص الإلهي لا يشتغل كمرجع جاهز، بل كنداء سريّ، لا يُفتح إلا لمن يجيبه من الداخل. ولذا، فإن أول ما يتغير حين نخلط بين الثقافة الإسلامية والقرآن، هو طبيعة علاقتنا بالمعنى: نبدأ نبحث عنه في الإجماع لا في البصيرة، في ما قيل لا في ما يُقال لنا، في سلطة الجماعة لا في نداء الله.

القرآن لا يُعطي معناه في العلن، بل يهمس به لمن طهرت قناته الداخلية. فلا حاجة إلى شيخ يشرح لك ما يكون، حين تكون أنت منصتًا بصدق لما هو. إنه ليس كتابًا يُقرأ فقط، بل هو صوت يُنصَت له، وكل من قرأه دون أن ينصت، خرج منه كما دخل. لأن الله لا يخاطب الجماعة دفعة، بل ينادي كلّ واحد باسمه الذي لا يعرفه سواه. لذلك، فإن لحظة التلقي القرآني ليست عمومية، بل حميمية إلى درجة العُري: أنت وحدك، والنص، والله. لا مقامات، لا وسائط، لا “قالوا”.

وهنا تُولد الحساسية الوجودية التي لا تُعلّم في الفقه، ولا تُدرّس في الحلقات: تلك الرجفة التي تشعر بها حين يقترب الكلام الإلهي من منطقة لم يطأها أحد غيرك. حين ترى نفسك في آية، وتبكي في صمت لأنك فهمت أنك المقصود، لا أحد سواك. هذه اللحظة لا تنشأ في سياق ثقافة جماعية، بل في صمت الوحدة، حين تصير القراءة حوارًا، لا استظهارًا. وكل من لم يذق هذا المقام، لا يعرف القرآن، حتى لو حفظه عن ظهر قلب.

وهنا يتبدّد الفرق بين اللغة القرآنية واللغة الفقهية: الأولى تربّي الذوق، تهذب الروح، توقظ الأسئلة، وتؤنسك بالوجود؛ الثانية تنظّم، تُحرّم، تُوجب، تُصنّف. الأولى تنبع من القلب وتصعد إلى المعنى، الثانية تنطلق من الحكم وتعود إلى القيد. ولهذا، حين نحاكم القرآن بأدوات الفقه، نرتكب خيانة مزدوجة: نحمّله ما لم يقل، ونفقد فرصة الإصغاء إلى ما أراد أن يقول. لأن النص ليس نظامًا مغلقًا ينتج الأجوبة، بل فضاء مفتوحًا يُربّي طريقة السؤال.

ومن أخطر ما يصيبنا حين نخلط بين ما هو من الله وما هو من الناس، أننا ننسى الله كما هو، ونُعيد تشكيله كما أرادته الجماعة: إلهًا يُحب ما تُحب، ويكره من تُكره، ويغضب لك حين تغضب، ويصادق هويتك كأنها وحي، ويصمت أمام سلوكك لأنك من أتباعه. فنخرج من نور التوحيد إلى ظلمة التمذهب، ومن محبة الله إلى محبة الذات مكلّلة باسم الله.

لكن الله، في النص، لا يشبه أحدًا، ولا يتحالف مع أحد، ولا يدخل في حزب. هو القريب من كل أحد دون أن يكون في صفه. لا يُحابي المؤمن لأنه ينتمي، بل لأنه يتطهّر. ولا يطمئن إلى صلاة من لا يصلي بضميره. ولا يختبئ في العمائم، بل في الأعماق. وكل من أراد أن يصل إليه عبر طريق الجماعة، أضاع الطريق. لأن الله لا يُدخل أحدًا عليه، بل هو من يفتح الباب لمن صدق.

وهنا نصل إلى قلب المسألة، إلى النقطة التي من دونها يظلّ كل تأويل ناقصًا: أن القرآن لا يُفهم من خارجه. ليس كتابًا تُطبّق عليه أدواتنا، بل فضاء يُعيد تشكيلنا حين نلج إليه. من دخله وهو يظن أنه يملك الحقيقة، خرج منه كما دخل. ومن دخله عاريًا من ذاته، مستعدًا لأن يُعاد خلقه، خرج بنور لم يجده في شيء سواه. لذلك، فإن العلاقة بالنص ليست فعل قراءة، بل فعل ولادة. تقرأ لتُولد، لا لتؤكّد ما تؤمن به. تتلقّى لتتبدّل، لا لتبرّر ما اعتدت عليه.

وحين نقول إن الثقافة الإسلامية ليست من جنس القرآن، لا نقصد بها نفيًا ولا هجاءً، بل تمييزًا ضروريًا بين ما هو من الله، وما هو من البشر في محاولتهم التديّن. الثقافة، أيّ ثقافة، تنشأ من الحاجة، تتغذى من الخوف، تتلون بالسلطة، وتتقادم مع الزمن. أما القرآن، فهو الحقيقة التي لا تتقادم، لأنه لا يخاطب العصر، بل يخاطب الإنسان في كل عصر، لا ينتمي إلى واقع بل يفتحه على ما فوقه، لا يتكيّف بل يطهّر. وحين يُخلط بين هذا وذاك، يضيع الإنسان بين صوت الجماعة وصوت الله، فلا يعرف أيهما يسكن قلبه، وأيهما سكن فيه منذ زمن دون أن ينتبه.

الفرق بين الثقافة القرآنية والثقافة الإسلامية، إذًا، هو الفرق بين طريقين في فهم الدين: أحدهما يسأل “كيف أكون كما أرادني الله”، والآخر يسأل “كيف أكون كما يريدني قومي”. أحدهما ينظر إلى الله كغاية، والآخر يراه كحارس لهوية. أحدهما يسمع الله يقول: “إني قريب”، والآخر يسمعه فقط عبر مكبّرات الفتوى.

لهذا، فإن المطلوب اليوم ليس الثورة على الماضي، بل العودة إلى الأصل. لا هدم ما بُني، بل العودة إلى ما كان قبل أن يُبنى. أن نقرأ النص كما يُقرأ الضوء: لا نقيّمه، بل نستنير به. أن لا نطلب منه أن يشهد لمذهب، بل أن يشهد للإنسان. أن لا نستخدمه كوثيقة، بل نضعه على صدورنا كما توضع اليد على القلب حين يشتدّ النداء.

القرآن ليس تراثًا. هو الأصل الذي يجب أن يُستعاد من تحت ركام الفهوم، لا ليرفضها، بل ليحرّرها من حدودها، ويعيدها إلى منبعها: أنه لا شيء يُقاس على الله، ولا معنى يُقارن بكلمته، ولا تأويل يعلو على نوره. وكل ما يُقال، يجب أن يُوزن بميزانه، لا أن نُنزّل ميزاننا عليه.

فإذا بلغنا هذا الفهم، عرفنا أن الدين، كما بدأ، لم يكن نظامًا، ولا جماعة، ولا هوية، بل نداءً. نداءٌ للإنسان كي يُحبّ، ويعقل، ويسير في الأرض بتواضع من يعرف أن الله لم يمنحه الحقيقة، بل منحه القدرة على أن يبحث عنها. وإن كان من طاعة، فهي طاعة النور لا طاعة الحرف، وإن كان من خشية، فهي خشية أن ننسى الله وسط صراخ من يزعمون أنهم يتكلمون باسمه.

وحينئذ فقط، نعود إلى النص لا لنعرف أحكامه فقط، بل لنعرف أنفسنا من خلاله. لأن القرآن، في عمقه، لا يكشف الله للإنسان بقدر ما يكشف الإنسان لله، ويعيد ترتيب الطريق من الداخل، من حيث يُولد الإيمان بلا قيد، وينمو بلا هوية، ويُثمر بلا إجبار.

فليس علينا أن نرفع أصواتنا من أجل القرآن، بل أن ننصت له في صمتنا، أن نكفّ عن الدفاع عنه، ونبدأ في الإصغاء إليه. فربّ آية واحدة تُقرأ بقلب حاضر، أبلغ من ألف تأويل، وربّ لحظة صدقٍ واحدة مع الله، أعظم من سيرة كاملة بلا وعي. من هنا، يبدأ الدين من جديد: لا كسلطة، بل كإشراق داخلي… لا كنظام، بل كنبض حرّ في قلب الإنسان.

أضف تعليقك

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)

تعليقات ( 0 )