بسبب مضيق “جبل طارق”: عندما كان البحر المتوسط أبيض بالفعل..!

المساء اليوم:

منذ السبعينيات من القرن الماضي، رصد الباحثون دلائل علمية على حدث جلل حلّ بالبحر الأبيض المتوسط قبل ملايين السنين. سُميت تلك الظاهرة بأزمة الملوحة المسينية حيث فقد البحر قرابة 70 في المائة من مياهه. وأظهرت دراستان نُشرتا مؤخرا معطيات جديدة عن تلك الأزمة. فما دور مضيق جبل طارق، كما يسمى اليوم، في حدوثها وكيف لبحر كبير أن يخسر مياهه؟

قد يبدو البحر الأبيض المتوسط خالدا، لا يتململ. لكن، وفي حضارات نشأت على ضفافه، تحدثت قصص قديمة عن كوارث مختلفة كانحسار للمياه أو كالطوفان أو كشقّ مضيق جبل طارق.

بعيدا عن قصص قد يحكيها القدامى، أظهرت مؤشرات علمية “صلبة” بأن البحر الأبيض المتوسط خسر قرابة ٧٠ في المائة من مياهه، بسبب مضيق جبل طارق بين إسبانيا والمغرب. ذلك ما يسمى علميا بأزمة الملوحة المسينية. واهتمت عدة دراسات علمية بذلك الحدث الجلل، آخرها نُشر بداية في 18 من نوفمبر في مجلة “نيتشر” العريقة. وقاد الدراسة المركز الفرنسي للبحث العلمي إذ تم تحليل ترسبات الملح في باطن المتوسط بشكل أكثر دقة.

تكتونية الصفائح

تشكّل البحر الأبيض المتوسط بفضل ظاهرة جيولوجية تدوم منذ ملايين السنين، هي تكتونية الصفائح. وتتحرك تلك الصفائح ببطء شديد فيتغير شكل القارات تدريجيا. وذلك ما حدث ويحدث بين الصفيحتين الإفريقية والأوراسية. قبل قرابة عشرة ملايين عام، انغلق المحيط الذي كان يفرق الصفيحتين من جهة الشرق، فتحول المحيط إلى بحر : البحر المتوسط.

ظهر بذلك حوضٌ ساخن نسبيا يشهد تبخرا طبيعيا لمياهه بسبب أشعة الشمس. وتعتبر الأنهار القليلة التي تصب في الحوض المتوسطي، كنهر النيل أو الرون أو بادي، غير كافية لتعويض كمية المياه التي تتبخر. لكن ذلك العجز المائي يُغطيه المحيط الأطلسي التي تدخل مياهه ومنذ القدم عبر المضيق الذي نسميه مضيق جبل طارق بين المغرب وإسبانيا حاليا. وتعوّض مياه الأطلسي خسارة المتوسط لمياهه المتبخرة.

وقبل قرابة 5.5 مليون سنة، حدثت كارثة مائية للبحر المتوسط. فقد خلق التقارب المستمر بين الصفيحتين الإفريقية والأوراسية مرتفعا عند مضيق جبل طارق سدّه بالكامل. ما يعني أن مياه الأطلسي لم تعد تدخل إلى المتوسط آنذاك.

“جبال من الملح”

في غياب إمدادات المحيط الأطلسي، تبخرت مياه البحر المتوسط تدريجيا، إلى أن كادت تختفي. الدراسة الجديدة التي نشرت الأسبوع الماضي تفيد بأنه خلال عشرة آلاف سنة فقط، تبخرت قرابة سبعين في المائة من مياه حوض المتوسط. وانخفض مستوى الماء كثيرا. ففي شرق الحوض، قرب مصر والشام وتركيا حاليا، انخفض مستوى الماء بقرابة ألفيْ متر. وفي غرب المتوسط، غرب مضيق صقلية على مستوى تونس، انخفض مستوى المياه بقرابة 850 مترا.

خلّف تبخر المياه ارتفاعا مُهولا لملوحة المتوسط إذ تكوّنت تدريجيا مرتفعات من الملح على علوّ فاق مئات الأمتار، وصل حجمها إلى مليون كيلومتر مكعب. لذا سُميت الظاهرة بأزمة الملوحة المسينية. وتبدو ترسبات الملح تلك ظاهرة بشكل واضح حتى اليوم، في جزيرة صقلية مثلا، حيث يُستخرج الملح من مناجم باطنية معروفة. ووضّحت الدراسة العلمية الجديدة وضّحت بشكل أفضل الظاهرة عبر تحليل ترسبات الملح في باطن البحر الأبيض المتوسط.

انهيار بيولوجي

بقي آنذاك في البحر المتوسط بحيرات شديدة الملوحة تشبه البحر الميت حاليا. واهتمت دراسة نُشرت الصيف الماضي بتأثير ذلك على الكائنات الحية. ورصدت الدراسة مؤشرات انهيار مُهول للتنوع البيولوجي. فمن أصل قرابة 780 صنفا كانت تعيش في المتوسط في تلك الفترة، نجا 86 صنفا من أزمة ملوحة المتوسط، أي 11 في المائة فقط. يشبه هذا الاندثار الكبير ما حصل مع أزمة الديناصورات قبل 66 مليون سنة، لكن على نطاق البحر المتوسط فقط وليس في كل العالم. غير أن اختفاء أجزاء واسعة من البحر عرّى اليابسة، وسمح بعبور كائنات عبر ضفتي الحوض تقول الدراسة.

وكما يمكننا معاينته حاليا، لم تدم أزمة المتوسط. فبعد قرابة 600 ألف عام، وهي مدة أزمة الملوحة، انفتق مضيق جبل طارق وانفتح من جديد. هي ظاهرة قوية لا تُعرف تفاصيلها بدقة وتحاول الأبحاث العلمية سبر أغوارها. ويُعتقد أن زلزالا أو زلازل شقّت مضيق جبل طارق ما خلق شلالات ضخمة وشاهقة سمحت بدخول مياه المحيط الأطلسي بقوة وبصبيب يفوق صبيب نهر الأمازون بألف مرة. وملأ ذلك الصبيب الهائل حوض البحر المتوسط من جديد في غضون بضع سنوات فقط حسب آخر الفرضيات. لكن التوازن المائي والبيولوجي لم يستقر في المتوسط إلا بعد مرور مئات الآلاف من الأعوام.

 

أضف تعليقك

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)

تعليقات ( 0 )