عبد الله الدامون damounus@yahoo.com قبل أن يصدر قرار إلغاء نحر الأضحية في العيد المقبل، كان تجار الماشية والسماسرة يستعدون لنحر ملايين المغاربة عبر فرض أسعار غير معقولة تماما، أعلى بكثير من عيد الأضحى الماضي، وعندما صدر قرار الإلغاء، بدأ نصفهم بالتباكي والشكوى، ونصفهم الآخر توعد المغاربة بالانتقام منهم في العيد المقبل. عقلية الانتقام هذه أخطر ما يمكن أن يعيشه مجتمع يتظاهر بأنه موحد ومتماسك. لكن الحقيقة المرة التي نحاول إخفاءها هي أننا صرنا مجتمع لوبيات وجماعات مصالح تشبه شبكات المافيا، وكل جماعة تريد أن تحقق مصالحها، مهما كانت ظالمة ومتوحشة، على حساب باقي فئات المجتمع. إنها حرب أهلية اقتصادية بأسلحة مختلفة. وإذا أضفنا إلى اللوبيات طبقة أخرى من "الشناقة" فإننا نصبح أمام واقع صعب جدا، لأن هؤلاء امتد تأثيرهم إلى أدق التفاصيل في المجتمع المغربي، وعندما يشتري المواطن المغربي كيلوغراما من البصل أو الطماطم أو السردين فإن نسبة كبيرة تذهب إلى جيوب الشناقة، الذين يشبهون الأشباح ولا يؤدون فلسا واحدا من الضرائب، ويعيشون في بحبوحة من العيش، تماما مثل كل مصاصي الدماء. تراهم الدولة وتتظاهر بأنها لا تراهم.. وحتى داخل عيون الدولة هناك "الشناقة" الذين يرون ما يريدون ويغمضون العين على ما يريدون. المشكلة أن سياسة اللوبيات لم تعد تقتصر على كبار الناهيين والشناقة، بل امتدت لتشمل القطاعات الاقتصادية الصغيرة، وحتى الهامشية. وعندما هاجم عدد من سائقي سيارات الأجرة سيارة "للنقل الذكي" بالدار البيضاء واعتدوا على دبلوماسي روسي وزوجته كانا في السيارة، فإن ذلك مؤشر خطير على أن سلطة الدولة تذوب في صمت وتترك مكانها لسلطة الطحالب و"شرع اليد"، وهذا يعني مقدمة الفوضى. ليس هذا فحسب، فقبل بضعة أسابيع وقعت حادثة لدراجة نارية تعمل في شركة لتوصيل الطلبات، وهذه الحوادث تقع بالمئات يوميا في كل شوارع المدن المغربية بسبب وباء الدراجات النارية الذي صار أخطر من وباء الكوفيد. وبعيد الحادثة تجمع الكثيرون من أصحاب الدراجات النارية حول الحادثة فيما يشبه تهديدا مباشرا للجميع. يريدون القول "نحن هنا.. ونحن أيضا لوبي يعتد به.. وسننصر صاحبنا ظالما أو مظلوما"..! هذا هو المشهد الذي يحمل الكثير من المخاطر في المستقبل، مشهد التكتلات الصغيرة والكبيرة من أجل مصالح اقتصادية بالأساس، ومن أجل تحقيق تلك المصالح لا بأس من ترهيب الباقين وتخويفهم بمختلف السبل. لو نظرنا للدولة عن بعد، فستبدو لنا قوية ومتماسكة ومتينة، لكن كلما اقتربنا منها سوف ترعبنا التفاصيل، وسنكتشف أن المجتمع المغربي صار يتشكل بطريقة تشي بالكثير من مظاهر الأنانية والعدوانية استنادا إلى نظرية "أنا.. ومن بعدي الطوفان"، وكل طرف مستعد لطحن الأطراف الأخرى من أجل مصالح مالية واقتصادية بالأساس. لقد ولى زمن الاصطفاف الفكري أو الإيديولوجي والحزبي، بل حتى التكتل القبلي والجغرافي صار من الماضي، وصارت المصالح الاقتصادية والمالية تلعب دورا محوريا في رسم حدود الاصطفافات والولاءات. هذا الواقع هو الذي خلق طبقة جديدة من الأغنياء، من فاحشي الثراء، الذين لا نعرف كيف اغتنوا بهذه الطريقة السريعة جدا. وكثيرون جدا من هؤلاء الأغنياء الجدد لم يكونوا يجدون لقمة يومهم قبل سنوات قليلة، واليوم طاروا طبقة مؤثرة جدا، تؤثر في الاقتصاد والمجتمع والدين والسياسة. لا يمكن وصف هؤلاء بأنهم طبقة برجوازية لأن أغلبهم جاؤوا من قاع المجتمع، وهم في غالبيتهم الساحقة بلا تعليم ولا تكوين ولا ثقافة، لكنهم صاروا فجأة، يحظون بمكانة خاصة في مجتمع تعود على منح تقدير خاص لأصحاب الثروات، مهما كانت وضاعتهم، ومهما كانت مصادر أموالهم. الأسوأ في كل هذا أنه مقابل صعود هذه الطبقات الطفيلية من مصاصي الدماء، هناك طبقة أخرى تغرق في صمت، وهي بالطبقة الوسطى التي تعتبر دينامو أي مجتمع في حركته الفكرية والاقتصادية بالأساس، وعندما تغرق الطبقة الوسطى وتبرز طبقة الطفيليات من الأغنياء الجدد فإن خللا كبيرا يعتري المجتمع، ليس في اقتصاده فقط، بل في قيمه وأخلاقه وثقافته ومبادئه. الأسوأ من كل هذا أن مستقبل البلد يصبح على كف مليون عفريت، فالمال في النهاية هو الذي يحكم ويوجه كل شيء، وعندما يكون الكثير من المال في يد الجهلة والرعاع فإن البلد يصبح عبارة عن "سوبير مارشي" عملاق، كل شيء فيه، بلا استثناء، يباع ويشترى. اليوم، نعيش مشهدا سرياليا، ومخيفا أيضا. لوبيات من كل نوع. لوبي العقار ولوبي الشناقة ولوبي الماشية ولوبي الحشيش ولوبي الصيد البحري ولوبي الفلاحة ولوبي المخدرات الصلبة ولوبي الانتخابات.. والكثير من اللوبيات الأخرى التي تستظل كلها بمظلة الفساد، وفي كل هذا نتذكر ما قاله المفكر المغربي، حسن أوريد، قبل سنوات طويلة، بأن المافيا تسللت إلى مفاصل الدولة. لسنا في حاجة لاقتراح الحلول، فكل ما يجب فعله يتلخص في شيء واحد، وهو أن الدولة يجب أن تنفض نفسها بقوة.. بقوة كبيرة جدا.