عبد الله الدامون damounus@yahoo.com أتذكر أنه قبل حوالي 25 عاما، زرت مناطق الجنوب الإسباني، وبالضبط منطقة "إيل إيخيدو"، التي تعتبر سلة غذاء إسبانيا وأوربا، وكل عمالها تقريبا من الأفارقة والمغاربة، وقليل جدا من اللاتينيين، وكلهم يشتغلون في ظروف أسوأ من ظروف العبيد في أمريكا أيام العبودية الرسمية. التقيت مغاربة حكوا لي قصصا مفجعة. قال لي شاب إنه عندما وصل إلى المنطقة تم "توظيفه" على الفور في أحد الحقول، بل وتم توفير مسكن له جنبا إلى جنب مع حمير صاحب الحقل في كهف مفروش بالتبن، واشتغل داخل الحقول البلاستيكية كما لو أنه يشتغل في جهنم، وفي الليل يبكي بحرقة، ليس لأنه تعب من هذا العمل المهين، بل لأنه لن يستطيع العودة إلى المغرب لسبب بسيط، وهو أن الناس سيضحكون عليه لأنه ذهب إلى أوربا ثم عاد. سيصفونه بالجنون، لذلك فضل أن يبقى في حقول "إيخيدو" ينام إلى جنب الحمار ويأكل من فضلات موائد صاحب الحقل. أن تفقد كرامتك في وطنك فيجب أن تهاجر.. لكن أن تفقد كرامتك هنا وهناك.. فهذا شيء صعب. في مقهى البلدة التقيت شبانا مغاربة كثيرين يشربون الشاي بالنعناع ويدخنون الكيف والحشيش. أغلبهم جاؤوا إلى المنطقة "حاركين" بعدما أدوا مدخرات عمرهم لسماسرة الهجرة. كانوا يخشون مغادرة المقهى لأن الأمن الإسباني يتربص بهم مباشرة، ليس لطردهم، بل لابتزازهم واستفزازهم. أحد المهاجرين بكى أمامي كطفل مغبون وسألني: هل تعتقد أنهم سيرحمونني في المغرب عندما أعود خائبا..!؟ خارج المقهى التقيت شرطيين إسبانيين، طلب مني أحدهما الإدلاء بوثائقي وهو يتفحصني كمشبوه. ناولته جواز السفر فتفحصه بعنهجية وهو يقلب صفحاته بنرفزة زائدة. أعاده إلى وقال لي إنه يلقب ب"شارون". أخبرته أني سمعت به من زبائن المقهى، وأنه يحسن جيدا اختيار ألقابه. سألني لماذا تعلمت الإسبانية، قلت له: من أجل قراءة روايات غابريال غارسيا ماركيز وليس من أجل الحديث معك..! تمنيت لو اعتقلني، لكنه اكتفى بالنظر إلى بحقد بالغ. هناك رأيت مشاهد مفجعة لمهاجرين مغاربة يعيشون تحت خط الفقر والفقر يعيش فوقهم، وعندما يعودون إلى المغرب يتظاهرون ببعض عزة النفس ويرطنون ببعض الإسبانية بين أبناء حيهم فيزرعون فيهم هستيريا الهجرة، فيبتلع البحر الكثير من الأجساد وتمتلئ الحقول بمزيد من العبيد الجدد. خلال عشرات المرات التي زرت فيها إسبانيا أحسست بالغبن لأني عاينت الكثير من القصص الصادمة لمغاربة كان من الممكن أن يكونوا أفضل حالا بكثير في المغرب، والتقيت أيضا بقليل من نماذج النجاح الذين يشتغلون أضعاف ما يمكن أن يفعلوه في المغرب لكي ينجحوا. أوربا ليست جنة، إنها آلة عملاقة لمص الدماء وتحويل الأجساد الشابة الطرية إلى هياكل خاوية. أسوأ ما عاينته في إسبانيا هم الأطفال المغاربة الهائمين من دون أسرة أو وصي. أغلبهم يقيمون في مراكز إيواء ويتعرضون، في كثير من الأحيان، للاستغلال الجنسي، وآخرون تستغلهم شبكات ترويج المخدرات أو التسول. كلهم جاؤوا إلى إسبانيا بحثا عن حياة أفضل بينما مكانهم الطبيعي مقاعد الدراسة في بلدهم. ليس كل من يهاجر إلى إسبانيا يفشل، وليس كل من يهاجر إليها ينجح، لكن كل طفل يهاجر وحيدا لن يجد غير الجحيم في انتظاره، أما تلك الأسر التي ترمي بأبنائها في البحر في انتظار أن ينجحوا في الوصول إلى الضفة الأخرى ويسووا وضعياتهم القانونية وينقذوا أسرهم فهذا وهم كبير.. كبير جدا. تذكرت كل هذه المشاهد، ومشاهد أخرى كثيرة، وأنا أعاين جحافل الأطفال والشباب في يوم "غزوة سبتة". أطفال وشباب حالمون كان حظهم في الوصول إلى سبتة أو إلى الصفة الأخرى لا يتجاوز الصفر في المائة، لكنهم حاولوا كأبطال بلا مجد. كانوا يعرفون أنهم لن ينجحوا، لكنهم حاولوا من أجل إيصال رسائل.. ربما، لمن يهمهم الأمر. وربما لم تكن لديهم أية نية في إيصال رسائل.. يريدون فقط أن يكبروا بسرعة ويعودوا يوما إلى المغرب بسيارة ورصيد في البنك، حتى يحسوا باحترام الآخرين لهم. إنهم يعاينون آباءهم يصارعون الحياة يوميا من أجل لقمة العيش في بلد ترتفع فيه الأسعار يوميا وليس شهريا أو سنويا. بلد تستفحل فيه الفوارق الطبقية بشكل رهيب فتنتج طبقات طفيلية لا أحد يعرف من أين جاءت بالمال والثروة، بينما تغرق طبقات كثيرة من المجتمع بسرعة رهيبة في أوحال الفقر والحاجة. إنهم يرون المغرب يبني الملاعب الفخمة والكبيرة من أجل المونديال، لكنه لا يبني المستشفيات الكبيرة والمدارس والجامعات التي تعتبر المقياس الحقيقي لتقدم أي بلد. يرون أشياء كثيرة.. لكنهم سلكوا الطريق الخطأ.. طريق الانتحار القريب المدى.. أو حتى البعيد المدى. ليس هناك ما ينتظركم على الضفة الأخرى سوى المعاناة.. وربما الجحيم. ولا تصدقوا من يبيع لكم الأوهام.