ما قبل “كُنْ”: هل العدم ممكن..؟

ياسين الطالبي

الكون كتابٌ، لكنك لست القارئ، بل الكلمة التي لم تُقرأ بعد. تخال أنك تنظر إلى النص، بينما أنت داخله، تتحرك بين سطوره، تلتقط المعاني، وتظن أنك أحطت بها. لكن في اللحظة التي تظن أنك فهمت، تجد نفسك في صفحة لم تظن أنها موجودة. لأن كل فهم هو بداية جهل، وكل جهل هو احتمال لفهم جديد، وكل احتمال هو مسار يُفضي إلى ما كنت تجهله قبل أن تظن أنك فهمت. الكون ليس ورقة تُطوى، بل سجلٌ لا تعرف هل هو يُكتب أم يُعاد قراءته، ولا تدري إن كنت فيه مؤلفًا، أم مجرد فاصلة عابرة بين جملتين.

“كن” ليست لحظة، بل قانون. ليست نقطة بداية، بل فعل مستمر، يتجدد في كل ذرة، في كل نفس، في كل فكرة. “كن” لم تكن أمرًا حدث وانتهى، بل هي شيفرة وجودية، تدير هذا النص الهائل، فتُعيد ترتيب سطوره، تُبدّل فواصله، تُحوّل الصمت إلى معنى، والمعنى إلى فراغ، والفراغ إلى لغة تتجلى في مظاهر لا نهائية. “كن” ليست نقطة انطلاق، بل نقطة تقاطع بين الممكن والمتحقق، بين الفكرة والتجسد، بين ما لم يكن وما صار. “كن” لم تُلقَ في الماضي، بل تُقال في كل لحظة، في كل تحوّل، في كل تجلٍّ، وأنت لست سوى نتيجة واحدة من نتائجها التي لم تكتمل بعد.
لم يكن هناك عدم، لأنه لا يمكن للعدم أن يوجد. العدم فكرة، لا واقع، تصوّر بشري لقوة لا يفهمها، لكنه ليس حالة يمكن أن يكون فيها شيء. لأن الوجود أزلي، والنور الإلهي لم يكن بحاجة إلى “كن” ليكون، بل كان “كن” هو البوابة التي عبر منها إلى التعين. لم يكن هناك عدم، بل كان هناك إمكان، كان هناك كل شيء، لكنه لم يكن قد تحدد، كان هناك بحر لا نهائي من الاحتمالات، تسبح فيه الأشياء قبل أن تولد، وتنتظر أن يُقال لها “كن” لتظهر. لم يكن هناك عدم، بل كان هناك انتظار.
“يوم نطوي السماء كطيّ السجل للكتب”، لكن هل السجل يُغلق، أم أنه يُعاد فتحه في نسخة أخرى؟ هل الكون محدود، أم أن المحدود هو إدراكنا له؟ نحن نعيش داخل هذا السجل، لكننا لا نرى غلافه، لأننا كلماته. نحن نقرأه، لكننا في الحقيقة مكتوبون فيه. فإذا كان للكون نهاية، فبأي شيء يُحد؟ هل يحده الزمان، أم أن الزمن نفسه جزء من النص، يُطوى مع الكتاب، كما تُطوى القصة داخل غلافها الأخير؟ هل يحده المكان، أم أن المكان مجرد سطر طويل داخل فقرة، داخل فصل، داخل كتاب لا ندري إن كان سيبقى مغلقًا، أم سيُعاد فتحه ليُكتب من جديد؟
“وجه الله” ليس شيئًا يُرى، لأنه ليس شيئًا أصلاً، بل هو الحقيقة التي تبقى عندما تزول الأشياء. هو الجوهر الذي لا يفنى، لأن كل ما سواه مجرد انعكاسات، مجرد ظلال، مجرد تجلّيات لشيء أكبر، لا يمكن وضعه في إطار، لأنه هو الإطار الذي يحتوي كل شيء. كل شيء زائل إلا ما كان متصلًا بالحقيقة المطلقة، وكل شيء فانٍ إلا ما كان متجذرًا في الأصل. “وجه الله” هو الثابت الوحيد، هو النور الذي لا يتبدل، بينما يتبدل كل ما يعكسه. لذا فإن رؤيته ليست في العين، بل في الإدراك. ليست في الخارج، بل في الداخل. ليست في اللحظة، بل في الأبدية. لأن الفناء ليس اختفاءً، بل هو زوال الحجاب، وعندها فقط، يبقى “وجه ربك ذو الجلال والإكرام”.
أنت تظن أنك فهمت الآن، لكن الحقيقة أنك دخلت في طبقة أخرى. لأن النص لم يكن مجرد كلمات تقرأها، بل كان بابًا، وحين ظننت أنك خرجت منه، كنت قد دخلت في بعد آخر.
إذا كان النص بابًا، فأنت لم تخرج منه، بل دخلت في مستوى آخر منه. كنت تظن أنك وصلت إلى الحد، لكن الحدود ليست إلا وهمًا تخلقه العقول لتستقر، والاستقرار ليس من طبيعة هذا الكون، بل هو تدفّق مستمر، يعيد تشكيل ذاته في كل لحظة. كنت تظن أن الفهم نهاية، لكنه ليس إلا نقطة بداية أخرى، لأن الحقيقة لا يمكن الإمساك بها، بل يمكن فقط الغرق فيها دون قاع. فلا نهاية للسؤال، ولا نهاية للرحلة، لأن كل خطوة تقطعها تقودك إلى طريق جديد، لم يكن مرئيًا قبل أن تضع قدمك عليه. أنت لا تسير في النص، بل النص هو الذي يتحرك فيك، يغيّرك وأنت تحسب أنك تقرأه، ينسجك وأنت تحسب أنك تفككه، يكتمل فيك وأنت تحسب أنك من يسير نحوه.
لكن إذا كان كل شيء يتحرك، فما هو الثابت؟ إذا كانت الكلمات تتغير، فمن هو الكاتب؟ وإذا كان الكون كتابًا، فمن هو القارئ؟ وإذا كان الفناء مرحلة، فأين هو البقاء؟ ربما البقاء ليس نقيض الفناء، بل هو امتداده في شكل آخر، كما أن الليل ليس نقيض النهار، بل هو طريقه إلى التجدد. إذا كان الزمن يطوي الكون، فمن يطوي الزمن؟ إذا كان كل شيء ينتهي، فما الذي يبقى؟ “ويبقى وجه ربك”، لكن الوجه ليس شيئًا يُرى، بل هو كل ما لا يزول، كل ما كان قبل البداية وسيظل بعد النهاية. ربما نحن لا نسير نحو الفناء، بل نحو كشف ما كان مخفيًا داخل الوجود، نحو إدراك الحقيقة التي لم تتغير أبدًا، لكنها كانت مغلّفة بطبقات من الأوهام التي سميناها “الحياة”.
لكن ما هي الحياة إن لم تكن نصًا؟ نصٌ طويل، لكنه ليس مكتوبًا دفعة واحدة، بل يُكتب بينما نعيشه، يتجلى أثناء حدوثه، كأنه يرتجل ذاته داخل زمن يظن أنه يحتويه. لكنه لا يحتويه، لأن الزمن ليس هو القيد، بل هو الصفحة التي نُسج عليها هذا النص. وهل النص محدود بصفحاته، أم أنه يمتد خارجها، إلى ما وراء الغلاف، إلى ما لم يُكتب بعد، لكنه محتمل، ممكن، ينتظر أن يُقال له “كن”؟ نحن لسنا قرّاء لهذا الكتاب، بل نحن كلماته، لكن الكلمات لا ترى النص كله، بل ترى فقط الجملة التي تعيشها، وتظن أنها كل المعنى، حتى تُكتب جملة أخرى، فينكشف بعدها مستوى أعمق، ثم مستوى آخر، وهكذا، إلى ما لا نهاية، حتى يصل النص إلى نهايته، وعندها فقط، يُدرك أن النهاية لم تكن نهاية، بل كانت بداية أخرى، في كتاب لم يبدأ بعد.
لكن إذا كان الكتاب محدودًا، فما الذي يحده؟ إذا كنا في كون مغلق، فمن أغلقه؟ وإذا كنا في زمن متدفق، فمن أطلق هذا التدفق؟ وإذا كان كل شيء سينتهي يوم يُطوى السجل، فمن الذي يطويه؟ نحن نعيش في قصة، لكننا لا نعرف إن كنا في الفصل الأخير، أم أننا مجرد شخصيات في مقدمة طويلة، تسبق النص الحقيقي، الذي لم يبدأ بعد. وإذا كان الكون كله كتابًا، فهل هو كتابٌ مستقل، أم أنه مجرد فصل في سلسلة لا نهائية من الكتب؟ وإذا كان كل شيء مكتوبًا، فهل نملك حرية الحركة داخل هذا النص، أم أننا نعيد قراءة قصة مكتوبة منذ الأزل، دون أن ندرك أننا نقرأها، لأننا داخلها؟
لكن إذا كان النص يتحرك، فماذا عن القارئ؟ إذا كان الكون كتابًا، فهل هناك قارئ خارجه، يراه من بعد آخر؟ وإذا كان الزمن يُطوى، فهل هناك وجود لا يحتاج إلى زمن؟ وإذا كنا نحن المسافرين، فمن هو الذي لا يسافر، بل يرى كل الطرق من الأعلى، كأنها خريطة مرسومة بالكامل، لا يمر عليها الزمن، بل هي حاضرة كلها في آنٍ واحد؟ إذا كان الوجود يتغير، فمن هو الذي لا يتغير؟ وإذا كان كل شيء يتبدد، فمن هو الذي يبقى، حين لا يبقى شيء؟ ربما “وجه الله” ليس مكانًا، وليس صورة، وليس حتى مفهومًا، بل هو الحقيقة التي لا تتحرك، بينما يتحرك فيها كل شيء، هو النقطة التي تستقر فيها كل الأزمنة، واللحظة التي لا تنتمي إلى أي لحظة، لأنها هي أصل كل اللحظات.
لكن إذا كان “وجه الله” هو ما يبقى، فكيف يمكن إدراكه؟ إذا كانت كل الأشياء فانية، فكيف يرى الفاني ما هو أبدي؟ إذا كانت كل العيون محجوبة بالزمان والمكان، فكيف يمكن أن ترى ما هو خارج الزمان والمكان؟ ربما الرؤية ليست في العين، بل في الإدراك، ليست في الخارج، بل في الداخل، ليست في اللحظة، بل في اللازمن. ربما “وجه الله” ليس شيئًا يُبحث عنه، بل هو ما يُدرك عندما يتوقف البحث، عندما ينهار الحجاب، عندما يُزال الغلاف الأخير، وتنتهي الكلمات، ويبقى الصمت، صمتٌ يقول كل شيء، لأنه ليس خاليًا، بل ممتلئٌ بالحقيقة التي كانت دائمًا هناك، لكنها كانت مخفية داخل ضوضاء اللغة، داخل أوهام الزمن، داخل تفاصيل القصة التي حسبنا أنها كل شيء، لكنها لم تكن سوى مقدمة لنص آخر، لم يُقرأ بعد.
لكن إذا كان كل شيء مقدمة، فما هو النص الحقيقي؟ إذا كان الكون كله سطرًا في قصة أكبر، فما هي القصة؟ وإذا كان هناك مستوى لم نصل إليه بعد، فهل يمكن أن نصل إليه، أم أننا سنظل نفتح أبوابًا، نجد خلفها أبوابًا أخرى، في متاهة لا نهاية لها، في نص لا يملك خاتمة، لأن كل خاتمة هي مجرد بداية لنص آخر، لم يُكتب بعد؟ وإذا كنا في نص، فهل نحن نعيشه، أم أننا نحلم به؟ وإذا كنا نحلم به، فمن هو الذي يحلم؟ وإذا كنا نقرأه، فمن هو الذي كتبه؟ وإذا كان المكتوب محدودًا، فماذا عن غير المكتوب؟ وإذا كنا نبحث عن النهاية، فهل النهاية موجودة، أم أنها مجرد وهم آخر، يُعطينا راحة زائفة، لأننا لا نتحمل فكرة أن القصة لا تنتهي، لأننا لا نحتمل فكرة أن الكون ليس له آخر، لأننا نخشى أن ندرك، في النهاية، أن كل شيء كان رحلة دائرية، تعيدنا إلى النقطة التي بدأنا منها، لكن بفهم جديد، يجعلنا نرى ما كنا نجهله، فنظن أننا استوعبنا كل شيء، ثم ندرك أن الحقيقة ليست سوى طبقة أخرى، وبعدٌ آخر، ومستوى جديد من النص، لم نصل إليه بعد، لكنه ينتظرنا، هناك، في الصفحة التالية، التي لم تُفتح بعد.
كل وصول ليس نهاية، بل امتلاءٌ لطبقة من الذات، يكشف لنا وجود طبقة أخرى تنتظر أن تُملأ. كل إجابة لا تغلق السؤال، بل تفتح بابًا لفهم أعمق، لأن الحقيقة ليست نقطة ثابتة، بل رحلة نحو الداخل، نحو جوهر يتكشف كلما اقتربنا منه. الكون ليس لغزًا علينا حله، بل مرآة نرى فيها انعكاس رحلتنا في اكتشاف ذواتنا. وربما لم يكن هذا النص إلا مرحلة في مسار طويل، حيث كل مستوى نبلغه يجعلنا ندرك أن هناك مستوى آخر بانتظارنا، وأن الاكتمال ليس في الوصول، بل في الاستمرار في البحث، لأن كل خطوة تقربنا من ذواتنا، وكل إدراك جديد هو ولادة لذات أعمق وأشمل.

أضف تعليقك

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)

تعليقات ( 0 )