الدخول المدرسي.. ذكريات قبل 13 سنة

عبد الله الدامون

في الموسم الدراسي الجديد يتحدث الجميع عن “الكوفيد”. الناس نسوا، أو تناسوا، أن هناك “كوفيدا” قديما جدا ينخر جسد التعليم المغربي ويفتك بعدد كبير من أبناء هذا البلد الذي يدرس أبناء أغنيائه في مدارس راقية بالداخل والخارج، بينما يتعارك البسطاء من أجل مقعد في مدرسة، أو من أجل توفير ما يلزم لأداء واجبات تعليم خصوصي لا ينفك يتغول موسما بعد آخر.

من بين ذكريات كثيرة، تذكرت تحقيقا أنجزته قبل أكثر من 13 سنة حول واقع مدارس ابتدائية في مناطق نائية. كان الوقت بردا فلبست ما يلبسه أي فلاح أو راعي غنم وقصدت مناطق كنت أدري جيدا أن لا أحد في أية نقابة تعليمية مهما كبر شأنها أو صغر زارها يوما.

وصلت إلى أقسام دراسية بلا سقف، ووجدت معلما حوّل جزءا من قسم مهجور إلى غرفة نوم ومطبخ، وعندما سألته عن التلاميذ أشار بيده إلى أطفال يرعون البقر والغنم قرب واد وقال لي أنظر إليهم، إنهم هناك.

في مدارس نائية، أو لنقل إنها مدارس وهمية، عاينت لوائح بأسماء تلاميذ نجحوا العام الذي مضى، واستغربت أن نسبة النجاح في الصف الخامس وصلت تقريبا مائة في المائة. سجلت أسماء بعض التلاميذ الناجحين وبحثت عنهم. التقيت بعضهم وطلبت منهم أن يكتبوا لي حرف الألف أو الباء على ورقة. ظلوا ينظرون إلي بذهول قبل أن يعترفوا بخجل بأنهم لا يعرفون لا هوية الألف ولا شكل الباء، لا لون الجيم ولا حجم الفاء. قلت لهم لماذا نجحتم إذن؟ قالوا إنهم لا يدرسون بالمرة ويساعدون آباءهم في الرعي والفلاحة وأنهم نجحوا رغم أنفهم.

سألت عارفين بمجال النصب والاحتيال في مجال التعليم فقيل لي إن عملية إنجاح التلاميذ في تلك المنطقة النائية مجرد احتيال لكي تتم مداراة الفضيحة، ولكي يعتقد المسؤولون الآخرون أن الأشياء على أحسن ما يرام.

وصلت أيضا مدرسة لم أجد فيها لا معلمين ولا تلاميذ ولا أي شيء. سألت عما يجري فقيل لي إنها مدرسة أقفلت أبوابها لأن المعليمن لا يأتون بالمرة، وأن سنة بيضاء سيتم تسجيلها لأن المعلمين لا يأتون والتلاميذ لا يأبهون. قلت في نفسي إن هذه الحالة أقل نفاقا على الأقل من إنجاح تلاميذ في القسم الخامس لا يعرفون كتابة حرف هجائي واحد.

كان هذا الجانب مجرد جزء بسيط من ذلك التحقيق الذي تضمن أشياء كثيرة مرعبة عن واقع التعليم في المناطق النائية. رأيت وعاينت أشياء كثيرة، لكني لم أكتب كل شيء، ربما لأني قلت مع نفسي إن تصرفات البعض لا يجب أن نتهم بها الكل، وأن قطاع التعليم بالتأكيد فيه أناس شرفاء، وأن هذا التحقيق عندما سينشر سيتحرك المسؤولون، وستقيم النقابات التعليمية الدنيا ولن تقعدها.

فعلا حدث ما توقعته، وعندما نشر التحقيق أقامت فروع خمس نقابات تعليمية الدنيا ولم تقعدها، بما فيها نقابة حزب “العدالة والتنمية”، وأصدرت على الفور بيانا شديد اللهجة فيه شتم مباشر لي، واستعملت في حقي أحط أسلوب في وصف صحافي وصل إلى مناطق لم يصلها أي نقابي تعليمي. كنت أعرف أن النقابيين الأشاوس الذين أصدروا ذلك البيان العفن يمضون وقتهم في المقاهي يتبادلون النميمة والمصالح وحل الكلمات المتقاطعة.

في ذلك التحقيق لم أكتب عن معلمين يجمعون التلاميذ في قسم لحكاية القصص والنكات، بينما هم يشربون الجعة على رأس هضبة. ولم أكتب عن مدرسين يتحرشون بتلميذات قرويات بريئات، ولم أكتب عن أشخاص لهم فضائح ينفق بسبب رائحتها السردين الخانز. لم أكتب عن أشياء كثيرة اعتبرتها مسيئة لقطاع فيه بالتأكيد شرفاء كثيرون، لكن الذي حدث هو أنه عوض أن تصدر النقابات بيانا ضد الفاسدين في قطاع التعليم، فإنها أصدرت بيانا ضدي. إنها طبقت حرفيا نظرية “اقطع الأصبع الذي يشير إلى الفساد، وسينتهي الفساد”.

وقتها تحركت الأكاديمية الجهوية للتعليم في المنطقة وعاقبت مدرسين ومدراء، فكتبت لي معلمة تشتمني وتقول إني قطعت رزقها. قلت لها إنني سأكون سعيدا لو قطعت رزق مائة من أمثالها لأنها تركت أطفالا أبرياء فريسة للجهل والمستقبل الغامض، وجلست أمام التلفزيون تقلم أظافرها.

معلم آخر كتب لي يقول إني لا أعرف ما يعانيه المدرسون من أجل الوصول إلى تلك المدارس، قلت له بدّل حرفتك ولا تضحك على أبناء المغاربة.

كان بودي أن أنسى هذه الحكايات، وهناك حكايات أخرى كثيرة، لكن مناسبة الدخول المدرسي الجديد جعلتني أعيد سردها فيما يشبه التذكير، وأنا أعرف أن أشياء كثيرة تغيرت بعد 12 سنة، وأعرف أيضا أن أشياء أكثر لم تتغير.

damounus@yahoo.com

أضف تعليقك

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)

تعليقات ( 1 )

  1. بلحاضي :

    اختلف معك ولكن احترم ما عبرت عنه م، فالواقع لا يرتفع

    0