عبد الله الدامون damounus@yahoo.com يقول الأمريكيون إن "السلام" سيسود بين الجزائر والمغرب في ظرف ستين يوما، وهذا يذكرنا، إلى حد ما، بالكتاب الشعبي الشهير "كيف تتعلم الإنجليزية في خمسة أيام.. بدون معلم". لا نكذّب الإدارة الأمريكية لأنها قد تستطيع ذلك، لكننا نحار في عبارة "السلام بين المغرب والجزائر"، لأن جارتنا الشرقية ليست محتاجة أبدا لسلام مع المغرب، فهي محتاجة فقط لمن يساعدها في إقامة سلام مع نفسها، وعندما يتحقق ذلك، ستنتهي كل أنواع المشاكل. اختلقت الجزائر ملف الصحراء في زمن ليس هذا الزمان. كان النظام الجزائري وقتها، في صراع مزمن مع الملك الراحل الحسن الثاني، وكان الكثير من المعارضين المغاربة يدعمون المواقف الجزائرية، ليس في ملف الصحراء فقط، بل في إسقاط النظام الملكي، وكانت مصلحة الجميع أن تتم محاصرة المغرب جغرافيا من الشرق والجنوب، ثم رمي النظام في البحر، بدعم مباشر من المعسكر الشرقي، وعلى رأسه الاتحاد السوفياتي. مرت مياه كثيرة من تحت الجسر وذهب الحسن الثاني إلى رحمة الله، وانتهى الاتحاد السوفياتي ورحل القذافي وبومدين وتغيرت الأوضاع الجيوسياسية رأسا على عقب حتى أصبح ملف الصحراء صراعا عبثيا.. بل مخجلا. رغم كل هذا، ظل الأشقاء في الجزائر يضعون ذلك الطفل الصغير الذي اسمه البوليساريو في أحضانهم ويرضعونه الحليب نفسه كما كانوا يفعلون قبل عقود، رغم أن الطفل كبر وشاب وامتدت شواربه إلى أذنيه، لكنهم استمروا يهدهدونه ويغنون له كل ليلة قبل النوم أغنية "عندي بابا.. عندي ماما..".. في انتظار أن يصحوا يوما حاكما مطلقا على "الأراضي المحررة". لم يكن سهلا على الجزائر أن تستوعب أن الظروف تغيرت كثيرا، وأن المغرب يتحكم في الأرض والجو في الأقاليم الجنوبية، وأن أي قرار للبوليساريو، ومعها الجزائر، بالعودة إلى الحرب، يعني تماما قرارا بالانتحار. لكن المشكلة الجزائرية لم تكن فقط على الميدان العسكري، بل كان حكام قصر المرادية يتلقون كل صباح أخبارا مرة تشبه الكابوس. ففي كل اسبوع، وأحيانا كل يوم، يأتيهم خبر إعلان دول كثيرة قرار دعم مقترح الحكم الذاتي المغربي في الصحراء، ومصطلح "الحكم الذاتي" يدرك الجزائريون كنهه جيدا. في المرحلة الأولى تصرفت الجزائر بمنطق "الفتوّة"، خصوصا بعد الرسالة الشهيرة التي وجهها رئيس الحكومة الإسبانية، بيدرو سانشيز إلى الملك محمد السادس، يعلن فيها اتخاذ مدريد لموقف غير مسبوق من قضية الصحراء، وإعلان دعم مقترح الحكم الذاتي، وهو حدث لا يدرك عمقه سوى الذين يعرفون الموقف الإسباني طوال نصف قرن من هذا النزاع. بعدها، كان على إسبانيا أن تتحمل الكثير من صنوف الانتقام الجزائري، بما فيها طرد شركات إسبانية كثيرة من البلاد، والتهديد بقطع العلاقات مع مدريد، وأشياء كثيرة أخرى، بينما تصرف سانشيز بمنطق العجوز الحكيم، الذي يدرك أن من ينوي الانتقام فعلا لا يصرخ كثيرا. وقبل أن تستيقظ الجزائر من الصدمة الإسبانية، توالت الاعترافات الدولية بمقترح الحكم الذاتي، وفعلت الجزائر مع فرنسا ما فعلته مع إسبانيا، قبل أن تكتشف أن الزمن ليس هو الزمن.. وأنه آن لهذا الصراع أن ينتهي، لسبب بسيط وهو أنه لا يمكن تصور المغرب من دون صحرائه، كما لا يمكن لكل هذه البلدان التي اعترفت بمغربية الصحراء، أن تتراجع يوما عن موقفها، فالماء الذي ينزل من الشلال لا يعاود الصعود. ما زاد من الأحزان الجزائرية هو الموقف الأمريكي، الأكثر راديكالية من بين كل المواقف الدولية، الذي كان مباشرا وواضحا جدا في الاعتراف بمغربية الصحراء، وهنا بالضبط أدركت الجزائر أنها في حاجة إلى المساعدة، ولم تهدد واشنطن بالويل والثبور وعظائم الأمور مثلما فعلت مع مدريد وباريس، وصارت تتوخى فقط مساعدتها في هذه الحالة، أي عدم وضعها في خانة المنهزمين، والحفاظ على ماء وجهها حتى لا يقال يوما إن الجزائر ضيعت شعوب المغرب الكبير لزمن طويل.. من أجل لا شيء. وفي المدة الأخيرة وجدت الجزائر نفسها في موقف دفاع شامل، ليس في المجال الدبلوماسي فقط، بل حتى في مجالات أخرى مثل المجال الرياضي، ووصلت المواقف الجزائرية درجات قياسية من الصبيانية، إلى درجة أن القنوات والمنابر الإعلامية الجزائرية كانت تتجنب ذكر اسم المغرب في مباريات وإنجازات رياضية كبرى، وبذلك دخلت البلاد عهد النكتة الكبرى. اليوم، لم يعد في الإمكان أحسن مما كان، والمسؤولون الجزائريون يقولون صراحة إنهم سيقبلون بما تقبل به جبهة البوليساريو، وطبعا لا موقف للبوليساريو سوى موقف الجزائر، بينما الأمريكيون يقولون إنهم سيتوصلون إلى اتفاق شامل بين البلدين في شهرين فقط، وفي غضون هذين الشهرين ينبغي فقط أن نمد يد المساعدة إلى الجزائر، وعدم اعتبارها طرفا منهزما، بل اعتبارها شريكا أساسيا في رسم معالم جديدة للمغرب الكبير وشعوبه التي تعتبر نفسها شعبا واحدا، وبذلك (قد) ينتهي نصف قرن من الجنون والعبث.